ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة ، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا ، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب ، فإنهم{[22677]} بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار ؛ ولهذا قال : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي : لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تؤخر{[22678]} شيئًا لغد ، { اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي : الله يقيض لها رزقها على ضعفها ، وييسره عليها ، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه ، حتى الذر في قرار الأرض ، والطير في الهواء والحيتان في الماء ، قال الله تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي ، حدثنا يزيد - يعني ابن هارون - حدثنا الجراح بن مِنْهَال الجزري - هو أبو العطوف - عن الزهري ، عن رجل{[22679]} ، عن ابن عمر قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة ، فجعل يلتقط من التمر ويأكل ، فقال لي : " يا بن عمر ، ما لك لا تأكل ؟ " قال : قلت : لا أشتهيه يا رسول الله ، قال : " لكني أشتهيه ، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده ، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا بن عمر إذا بَقِيتَ في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين ؟ " .
قال : فوالله ما برحنا ولا رِمْنا حتى نزلت : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا ، ولا باتباع الشهوات ، فَمَنْ كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله ، ألا وإني لا أكنز دينارًا ولا درهمًا ، ولا أخبئ رزقا لغد{[22680]}-{[22681]} " .
وهذا حديث غريب ، وأبو العطوف الجزري ضعيف .
وقد ذكروا أن الغراب إذا فَقسَ عن فراخه البَيض ، خرجوا وهم بيضٌ فإذا رآهم أبواهم كذلك ، نفرا عنهم أياما حتى يسود الريش ، فيظل الفرخ فاتحًا فاه يتفقد أبويه ، فيقيض الله له طيرًا{[22682]} صغارًا كالبَرغَش فيغشاه فيتقوت منه تلك الأيام حتى يسود ريشه ، والأبوان يتفقدانه كل وقت ، فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه ، فإذا رأوه قد اسودّ ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق ، ولهذا قال الشاعر :
يا رازق النعَّاب{[22677]} في عُشه *** وجَابر العَظْم الكَسِير المهيض
وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم " سافروا تصحوا وترزقوا " .
قال البيهقي أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد ، أخبرنا محمد بن غالب ، حدثني محمد بن سِنان ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن رَدّاد - شيخ من أهل المدينة - حدثنا عبد الله بن دينار{[22684]} عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سافروا تصحوا وتغنموا " . قال : ورويناه عن ابن عباس{[22685]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن دَرّاج ، عن عبد الرحمن بن حُجَيرة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سافروا تربحوا ، وصوموا تصحوا ، واغزوا تغنموا " {[22686]} .
وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعا ، وعن معاذ بن جبل موقوفا{[22687]} . وفي لفظ : " سافروا مع ذوي الجدود والميسرة " {[22688]} وقوله تعالى : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم وسكناتهم .
عطف على جملة { كل نفس ذائقة الموت } [ العنكبوت : 57 ] فإن الله لما هوَّن بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أ ، هم يقولون في أنفسهم : إنّا لا نخاف الموت ولكنا نخاف الفقر والضيعة . واستخفاف العرب بالموت سجية فيهم كما أن خشية المعرّة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] فأعقب ذلك بأن ذكَّرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم . وضرب لهم المثل برزق الدواب ، وللمناسبة في قوله تعالى : { إن أرضي واسعة } [ العنكبوت : 56 ] من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقاً في البلاد التي يهاجرون إليها ، وهو أيضاً مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله : { وعلى رَبِّهِم يَتَوكلون } [ العنكبوت : 59 ] ، وفي الحديث : « لو توكلتم على الله حق توكُّله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خِماصاً وتروح بِطَاناً » ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون ، ضمِن الله لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله . وتوكلهم هو حق التوكل ، أي أكمله وأحزمه فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم .
وتقدم الكلام على { كأيّن } عند قوله تعالى : { وكأيّن من نبيء قُتِل معه ربيون كثير } في سورة آل عمران [ 146 ] .
وقوله : { وكأيّن من دابة لا تَحْمل رِزْقها } خبر غير مقصود منه إفادة الحكم ، بل هو مستعمل مجازاً مركباً في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين . وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدوابّ الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها ، وهي السوائم الوحشية ، والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله : { الله يرزقها وإياكم } الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله : { وكأين من دَابةٍ لا تَحْمِل رِزْقها } ولذلك عطف { وإياكم } على ضمير { دابة } والمقصود : التمثيل في التيسير والإلهام للاسباب الموصلة وإن كانت وسائل الرق مختلفة .
والجمل في قوله : { لا تحمل رزقها } يجوز أن يكون مستعملاً في حقيته ، أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها ، وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض . ويجوز أن يستعمل مجازاً في التكلف له ، مثل قول جرير :
حُمِّلت أمراً عظيماً فاصطبرت له
أي لا تتكلف لرزقها . وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفأرة ، قيل وبعض الطيركالعقعق . وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : { الله يرزقها } دون أن يقول : يرزقها الله ، ليفيد بالتقديم معنى الاختصاص ، أي الله يرزقها لا يغره ، فلماذا تعبدون أصناماً ليس بيدها رزق . وجملة { وهو السميع العليم } عطف على جملة : { الله يرزقها وإياكم } . فالمعنى : الله يرزقكم وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من الإخلاص لله في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم منه الرزق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.