تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (117)

قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مُجدبة وحر شديد ، وعسر من الزاد والماء .

قال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لَهَبان الحر ، على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم فيها جهد شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين{[13946]} كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم ، يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، ثم يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، [ ثم يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ]{[13947]} فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم .

وقال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عتبة بن أبي عتبة ، عن نافع بن جُبَير بن مطعم ، عن عبد الله بن عباس ؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عَطَش ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع{[13948]} [ حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء ، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ]{[13949]} حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله ، إن الله عز وجل ، قد عَوّدك في الدعاء خيرا ، فادع لنا . قال : " تحب ذلك " . قال : نعم ! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت{[13950]} ثم سكبت ، فملئوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر . {[13951]}

وقال ابن جرير في قوله : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } أي : من النفقة والظهر والزاد والماء ، { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } {[13952]} أي : عن الحق ويشك في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتاب ، بالذي نالهم من المشقة والشدة في سفره وغزوه ، { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم ، والرجوع إلى الثبات على دينه ، { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .


[13946]:- في أ : "رجلين".
[13947]:- زيادة من أ.
[13948]:- في ت : "ستقطع".
[13949]:- زيادة من ت ، ك ، أ ، والطبري.
[13950]:- في ت ، ك ، أ : "فأهطلت".
[13951]:- تفسير الطبري (14/541) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1707) "موارد" والحاكم في المستدرك (1/159) من طريق حرملة ابن يحيى ، ورواه البزار في مسنده برقم (1841) "كشف الأستار" من طريق أصبغ بن الفرج كلاهما عن ابن وهب به نحوه ، وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". قال المؤلف ابن كثير في السيرة (4/16) : "إسناد جيد ، ولم يخرجوه من هذا الوجه".
[13952]:- في أ : "يزيغ".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِيِّ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٖ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (117)

انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف ، وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تُجاه ذلك التحريض وما عقبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده ، فالجملة استئناف ابتدائي .

وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دل عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالاً ماضية .

ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك .

وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في تعلق فعل التوبة بالغُزاة للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر .

ومعنى { تاب } عليه : غفر له ، أي لم يؤاخذه بالذنوب سواء كان مذنباً أم لم يكنه ، كقوله تعالى : { علم أنْ لن تحصوه فتاب عليكم } [ المزمل : 20 ] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة . فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صلى الله عليه وسلم « لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم »

وأما توبة الله على الثلاثة الذين خُلفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم .

والمهاجرون والأنصار : هم مجموع أهل المدينة ، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة ، ولكنهم خُصوا بالثناء لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحوا بأموالهم ، فكانوا إسوة لمن اتَّسى بهم من غيرهم من القبائل .

ووصف المهاجرون والأنصار ب { الذين اتبعوه } للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسبباً في هذه المغفرة .

ومعنى { اتبعوه } أطاعوه ولم يخالفوا عليه ، فالاتباع مجازي .

والساعة : الحصة من الزمن .

والعسرة : اسم العسر ، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة . وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة تبوك . فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله : { يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه ، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد . ويدل لذلك قوله : { من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريق منهم } أي من المهاجرين والأنصار ، فإنه متعلق ب { اتبعوه } أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقاً منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين ، فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج ، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع .

و { كاد } من أفعال المقاربة تعمل في اسمين عَملَ كانَ ، واسمُها هنا ضمير شأن مقدر ، وخبرها هو جملة الخبر عن ضمير الشأن ، وإنما جُعل اسمها هنا ضمير شأن لتهويل شأنهم حين أشرفوا على الزيغ .

وقرأ الجمهور { تَزيغ } بالمثناة الفوقية . وقرأه حمزة ، وحفص عن عاصم ، وخلف بالمثناة التحتية . وهما وجهان في الفعل المسند لجمع تكسير ظاهر . والزيغ : الميل عن الطريق المقصود . وتقدم عند قوله تعالى : { ربنا لا تزغ قلوبنا } في سورة آل عمران ( 8 ) .

وجملة { ثم تاب عليهم } عطف على جملة { لقد تاب الله } أي تاب على غير هذا الفريق مطلقاً ، وتاب على هذا الفريق بعد ما كادت قلوبهم تزيغ ، فتكون { ثم } على أصلها من المهلة . وذلك كقوله في نظير هذه الآية { ثم تاب عليهم ليتوبوا } [ التوبة : 118 ] . والمعنى تاب عليهم فأهموا به وخرجوا فلقوا المشقة والعسر ، فالضمير في قوله { عليهم } لل { فريق } . وجوز كثير من المفسرين أن تكون { ثم } للترتيب في الذكر ، والجملة بعدها توكيداً لجملة { تاب الله } ، فالضمير للمهاجرين والأنصار كلهم .

وجملة : { إنه بهم رءوف رحيم } تعليل لما قبلها على التفسيرين .