{ وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : وحسبوا ألا يترتب لهم شر على ما صنعوا ، فترتب ، وهو أنهم عموا عن الحق وصَمُّوا ، فلا يسمعون حقًا{[10132]} ولا يهتدون إليه ، { ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : مما كانوا فيه { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا }
أي : بعد ذلك { [ وَصَمُّوا ]{[10133]} كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية .
المعنى في هذه الآية : وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم ، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : «حبك الشيء يعمي ويصم »{[4631]} .
وقوله تعالى : { ثم تاب الله عليهم } قالت جماعة من المفسرين : هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم ، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبداً ، وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه السلام إليهم ، وقالت جماعة : توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه السلام وخص بهذا العمى{[4632]} كثيراً منهم لأن منهم قليلاً آمن ، ثم توعدهم بقوله تعالى : { والله بصير بما يعملون } .
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «ألا تكونَ » بنصب النون ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أن لا تكونُ » برفع النون ، ولم يختلفوا في رفع { فتنةٌ } لأن «كان » هنا هي التامة ، فوجه قراءة النصب أن تكون «أن » هي الخفيفة الناصبة ، ووجه قراءة الرفع أن تكون المخففة من الثقيلة ، وحسن دخولها لأن «لا » قد وطأت أن يليها الفعل وقامت مقام الضمير المحذوف عوضاً منه ، ولا بد في مثل هذا من عوض{[4633]} ، مثل قولك علمت أن قد يقوم زيد ، وقوله عز وجل { علم أن سيكون منكم مرضى }{[4634]} وقولك علمت أن سوف يقوم زيد وأن لا تكون فتنة ، وقوله تعالى { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }{[4635]} حسن فيه أن لا يكون عوض لأن ( ليس ) بفعل حقيقي والأفعال ثلاثة ضروب : ضرب يجري مجرى تيقنت نحو علمت ودريت فهذا الضرب تليه «أن » الثقيلة التي تناسبه في الثبوت وحصول الوقوع ، وضرب في الضد من ذلك نحو طمعت ورجوت وخفت هو مصرح بأن لم يقع ، فهذا الضرب تليه «أنْ » الخفيفة إذ هي تناسبه ، كقوله تعالى ، { والذي أطمع أن يغفر لي }{[4636]} { وتخافون أن يتخطفكم الناس }{[4637]} { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله }{[4638]} و { فخشينا أن يرهقهما طغياناً }{[4639]} و{ أأشفقتم أن تقدموا }{[4640]} ونحو هذا ، وضرب ثالث ينجذب إلى الأول مرة وإلى الثاني أحيانا نحو ظننت وحسبت وزعمت فيجري مجرى أرجو وأطمع ، من حيث الظن والزعم والمحسبة أمور غير ثابتة ولا مستقرة ، وقد تنزل منزلة العلم من حيث تستعمل استعماله ، كقوله تعالى : { والذين يظنون أنهم ملاقو ربهم }{[4641]} وقوله { إني ظننت أني ملاق حسابيه }{[4642]} وقرأ جمهور الناس «عَموا وصَموا » بفتح العين والصاد ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «عُموا وصُموا » بضم العين والميم مخففة وبضم الصاد وهذا هو على أن تجرى مجرى زكم الرجل وأزكمه الله وحم الرجل وأحمه الله ، ولا يقال زكمه الله ولا حمه الله ، فكذلك يجيء هذا عمى الرجل وأعماه غيره ، وصم وأصمه غيره ، ولا يقال عميته ولا صممته{[4643]} .
وقوله تعالى : { ثم تاب الله عليهم } أي رجع بهم إلى الطاعة والحق ، ومن فصاحة اللفظ استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى ، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال إليهم ، وقوله تعالى { كثير } يرتفع من إحدى ثلاث جهات ، إما على البدل من الواو في قوله { عموا وصموا } وإما على جمع الفعل وإن تقدم على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، وإما على أن يكون { كثير } خبر ابتداء مضمر{[4644]} .
عطف على قوله : { كَذّبوا } [ المائدة : 70 ] و { يقتلون } [ المائدة : 70 ] لبيان فساد اعتقادهم النّاشيء عنه فاسد أعمالهم ، أي فعلوا ما فعلوا من الفظائع عن تعمّد بغرور ، لا عنْ فلتة أو ثائرة نفس حتّى يُنيبُوا ويتوبوا . والضّمائر البارزة عائدة مثل الضّمائر المتقدّمة في قوله { كذّبوا } و { يقتلون } . وظنّوا أنّ فعلهم لا تلحقهم منه فتنة .
والفتنة مَرْج أحوال النّاس واضطرابُ نظامهم من جرّاء أضرار ومصائب متواليّة ، وقد تقدّم تحقيقها عند قوله : { إنَّما نحن فتنة } في سورة البقرة ( 102 ) . وهي قد تكون عقاباً من الله للنّاس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصاً لصادق إيمانهم لتعلوَ بذلك درجاتهم { إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] الآية . وسمَّى القرآن هاروت وماروت فتنة ، وسمَّى النبيءُ صلى الله عليه وسلم الدجّال فتنة ، وسمَّى القرآن مزالّ الشيطان فتنة { لا يفتننّكم الشيطان } [ الأعراف : 27 ] . فكان معنى الابتلاء ملازماً لها .
والمعنى : وظنّوا أنّ الله لا يُصيبهم بفتنة في الدّنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم ، فهنالك مجرور مقدّر دالّ عليه السّياق ، أي ظنّوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدّنيا فأمنوا عقاب الله في الدّنيا بعد أن استخفّوا بعذاب الآخرة ، وتوهّموا أنّهم ناجون منه ، لأنّهم أبناء الله وأحبّاؤه ، وأنّهم لن تمسّهم النّار إلاّ أياماً معدودة .
فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنّهم نبذوا الفكرة فيه ظهرياً وأنّهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح ، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدّنيا وأنّهم ضالّون في كلا الأمرين .
ودلّ قوله : { وحَسبوا أن لا تكون فتنة } على أنّهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا ، لأنّهم كانوا أحرص عَلى سلامة الدّنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم . وهذا شأن الأمم إذا تطرّق إليها الخِذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همّهم مقصوراً على تدبير عاجلتهم ، فإذا ظنّوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة ، فتطلّبوا السلامة من غير أسبابها ، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلّقوا بالفوز العاجل فأساؤوا العمل فأصابهم العذابان العاجلُ بالفتنة والآجلُ .
واستعير { عَمُوا وصَمُّوا } للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأنّ العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع . فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضلِ نافع ، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النّفوس ، لأنّ الانسياق إليه في الجبلّة ، فتجنّبه محتاج إلى الوازع ، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل ، ولذلك كان قوله : { فعموا وصمّوا } مراداً منه معناه الكنائي أيضاً ، وهو أنّهم أساءوا الأعمال وأفسدوا ، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله { ثُمّ تاب الله عليهم } . وقد تأكّد هذا المراد بقوله في تذييل الآية { والله بصير بما يعملون } .
وقوله : { ثُمّ تاب الله عليهم } أي بعد ذلك الضّلال والإعْراض عن الرّشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض .
وقد استفيد من قوله : { أن لا تكون فتنة } وقوله : { ثُمّ تاب الله عليهم } أنّهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم ، وأنّ الله لمّا تاب عليهم رفع عنهم الفتنة ، { ثم عَمُوا وصموا } ، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذّميم ، لأنّهم مصرّون على حُسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة أخرى .
وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثّاني ولم يُذكر أنّ الله تاب عليهم بعده ، فدلّ على أنّهم أعرضوا عن الحَقّ إعراضاً شديداً مرّة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها .
ويتعيّن أنّ ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام ، والأظهر أنّهما حادث الأسْر البابِلي إذ سلّط الله عليهم ( بخنتصر ) ملك ( أشُور ) فدخل بيت المقدّس مرات سنة 606 وسنة 598 وسنة 588 قبل المسيح . وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم فأحرقها وأحرق المسجد وحَمَل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى ، وأنّ توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب ( كُورش ) ملك ( فَارس ) على الأشوريين واستولى على بابل سنة 530 قبل المسيح فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم ويعمّروها فرجعوا وبنوا مسجدهم .
وحادث الخراب الواقع في زمن ( تِيطس ) القائد الرّوماني ( وهو ابن الأنبراطور الرّوماني ( وسبسيانوس ) فإنّه حاصر ( أورشليم ) حتّى اضطرّ اليهود إلى أكل الجلود وأن يأكل بعضُهم بعضاً من الجوع ، وقتَل منهم ألفَ ألفِ رجلٍ ، وسبى سبعة وتسعين ألفاً ، على ما في ذلك من مبالغة ، وذلك سنة 69 للمسيح . ثمّ قفّاه الأنبراطور ( أدريان ) الرّوماني من سنة 117 إلى سنة 138 للمسيح فهدَم المدينة وجعلها أرضاً وخلط ترابها بالمِلح . فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرّقَهم في الأرض .
وقد أشار القرآن إلى هذين الحديثين بقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفْسِدُنّ في الأرض مرّتَيْن ولتَعَلُنّ عُلُوّاً كبيراً فإذا جاء وعد أُولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولِي بأسٍ شديد فجاسوا خِلال الدّيار وكان وَعْداً مفعولاً ثُمّ رددنا لكم الكَرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنِين وجعلناكم أكثر نَفيراً إنْ أحسنتُم أحسنتم لأنفسكم وإنْ أسأتم فلها فإذا جاء وعْد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تتبيراً عسى ربّكم أن يرحمكم } [ الإسراء : 4 ، 8 ] وهذا هو الّذي اختاره القفّال . وفي الآية أقوال أخر استقصاها الفخر .
وقد دلّت { ثمّ } على تراخي الفعلين المعطوفين بها عن الفعلين المعطوف عليهما وأنّ هنالك عَمَيَيْنِ وصَمَمَيْنِ في زمنين سابقٍ ولاحقٍ ، ومع ذلك كانت الضّمائر المتّصلة بالفعلين المعطوفين عينَ الضمائر المتّصلة بالفعلين المعطوف عليهما ، والّذي سوّغ ذلك أنّ المراد بيان تكرّر الأفعال في العصور وادّعاءُ أنّ الفاعل واحد ؛ لأنّ ذلك شأن الأخبار والصفات المثبتة للأمم والمسجّل بها عليهم تَوَارُثُ السجايا فيهم من حَسَن أو قبيح ، وقد علم أنّ الّذين عَمُوا وصَمُّوا ثانية غير الّذين عَمُوا وصَمُّوا أوّل مرّة ، ولكنّهم لمّا كانوا خلفاً عن سلف ، وكانوا قد أورَثُوا أخلاقهم أبناءَهم اعتُبروا كالشيء الواحد ، كقولهم : بنو فلان لهم تِرات مع بني فلان .
وقوله : { كثير منهم } بدل من الضّمير في قوله : { ثمّ عَمُوا وصَمّوا } ، قصد منه تخصيص أهل الفضل والصّلاح منهم في كلّ عصر بأنّهم بُرآء ممّا كان عليه دهماؤهم صدعاً بالحق وثناء على الفضل .
وإذ قد كان مرجع الضّميرين الأخيرين في قوله : { ثمّ عمُوا وصمّوا } هو عين مرجع الضميرين الأوّلين في قوله : { فَعَمُوا وصمّوا } كان الإبدال من الضميرين الأخيرين المفيدُ تخصيصاً من عمومهما ، مفيداً تخصيصاً من عموم الضميرين الّذين قبلهما بحكم المساواة بين الضّمائر ، إذ قد اعتُبرت ضمائر أمّة واحدة ، فإنّ مرجع تلك الضّمائر هو قوله { بني إسرائيل } [ المائدة : 70 ] . ومن الضّروري أنّه لا تخلوا أمّة ضالّة في كلّ جيل من وجود صالحين فيها ، فقد كان في المتأخّرين منهم أمثالُ عبد الله بن سَلام ، وكان في المتقدّمين يُوشَعُ وكالب اللّذيْن قال الله في شأنها { قال رجلان من الّذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب } [ المائدة : 23 ] .
وقوله : { والله بصير بما يعملون } تذييل . والبصير مبالغة في المُبصر ، كالحَكيم بمعنى المُحْكم ، وهو هنا بمعنى العَليم بكلّ ما يقع في أفعالهم الّتي من شأنها أن يُبصرها النّاس سواء ما أبصره النّاس منها أم مَا لم يبصروه ، والمقصود من هذا الخبر لازم معناه ، وهو الإنذار والتّذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء ، فهو وعيد لهم على ما ارتكبوه بعد أن تاب الله عليهم .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر { أن لا تكونَ } بفتح نون تكون على اعتبار ( أنْ ) حرف مصدر ناصب للفعل . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوبُ ، وخَلَف بضم النّون على اعتبار ( أنْ ) مخفّفة من ( أنّ ) أخت ( إنّ ) المكسورةِ الهمزة ، وأنّ إذا خفّفت يبطل عملها المعتاد وتصير داخلة على جملة . وزعم بعض النّحاة أنّها مع ذلك عاملة ، وأنّ اسمها ملتزَم الحذف ، وأنّ خبرها ملتزم كونه جملة . وهذا توهّم لا دليل عليه . وزاد بعضهم فزعم أنّ اسمها المحذوف ضمير الشأن . وهذا أيضاً توهّم على توهّم وليس من شأن ضمير الشأن أن يكون مَحذوفاً لأنّه مجْتلب للتّأكيد ، على أنّ عدم ظهوره في أي استعمال يفنّد دعوى تقديره .