ثم قال تعالى مخبرًا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم ، وجَعْله العاقبةَ حاصلةً لهم في الدنيا والآخرة ، فقال : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } .
قال ابن عباس وقتادة : يعنون قوله تعالى في " سورة البقرة " { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] .
أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب ؛ ولهذا قال : { وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } .
وقوله : { وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } : دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس{[23261]} وأحوالهم ، كما قاله جمهور الأئمة : إنه{[23262]} يزيد وينقص . وقد قررنا ذلك في أول " شرح البخاري " ولله الحمد والمنة .
ومعنى قوله : { وَمَا زَادَهُمْ } أي : ذلك الحال والضيق والشدة [ ما زادهم ]{[23263]} { إِلا إِيمَانًا } بالله ، { وَتَسْلِيمًا } أي : انقيادا لأوامره ، وطاعة لرسوله .
وصف الله تعالى المؤمنين حين رأوا تجمع الأحزاب لحربهم وصبرهم على الشدة وتصديقهم وعد الله تعالى على لسان نبيه ، واختلف في مراد المؤمنين بوعد الله ورسوله لهم ، فقالت فرقة : أرادوا ما أعلمهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بحفر الخندق فإنه أعلمهم بأنهم سيحصرون وأمرهم بالاستعداد لذلك وأعلمهم بأنهم سينصرون من بعد ذلك ، فلما رأوا الأحزاب { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } فسلموا لأول الأمر وانتظروا آخره ، وقالت فرقة : أرادوا بوعد الله ما نزل في سورة البقرة من قوله : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذي خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }{[9483]} [ البقرة : 214 ] .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويحتمل أن يكون المؤمنون نظروا في هذه الآية ، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أمرهم بحفر الخندق ، وأشاروا بالوعد إلى جميع ذلك ، وهي مقالتان إحداهما من الله والأخرى من رسوله ، وزيادة الإيمان هي في أوصافه لا في ذاته لان ثبوته وإبعاد الشكوك عنه والشبه زيادة في أوصافه ، ويحتمل أن يريد إيمانهم بما وقع وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يقع فتكون الزيادة في هذا الوجه فيمن يؤمن به لا في نفس الإيمان ، وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم » بواو جمع ، و «التسليم » الانقياد لأمر الله تعالى كيف جاء ، ومن ذلك ما ذكرناه من أن المؤمنين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند اشتداد ذلك الخوف : يا رسول الله إن هذا أمر عظيم فهل من شيء نقوله ؟ فقال : قولوا «اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا » ، فقالها المسلمون في تلك الضيقات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
نعت المؤمنين فقال: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب} يوم الخندق، أبا سفيان وأصحابه وأصابهم الجهد وشدة القتال.
{قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله} في البقرة حين قال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} الآية، وقالوا: {وصدق الله ورسوله} ما قال في سورة البقرة.
{وما زادهم} الجهد والبلاء في الخندق {إلا إيمانا} تصديقا بوعد الله عز وجل في سورة البقرة أنه يبتليهم {وتسليما} لأمر الله وقضائه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ولَمّا رأى المُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ" يقول: ولمّا عاين المؤمنون بالله ورسوله جماعات الكفار قالوا تسليما منهم لأمر الله، وإيقانا منهم بأن ذلك إنجاز وعده لهم، الذي وعدهم بقوله "أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنّةَ ولَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ... "إلى قوله "قَرِيبٌ" هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فأحسن الله عليهم بذلك من يقينهم، وتسليمهم لأمره الثناء، فقال: وما زادهم اجتماع الأحزاب عليهم إلاّ إيمانا بالله وتسليما لقضائه وأمره، ورزقهم به النصر والظفر على الأعداء...
عن ابن إسحاق، قال: ثني يزيد بن رومان، قال: ثم ذكر المؤمنين وصدقهم وتصديقهم بما وعدهم الله من البلاء يختبرهم به "قالُوا هَذَا ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَما زَادَهُمْ إلاّ إيمانا وَتَسْلِيما": أي صبرا على البلاء، وتسليما للقضاء، وتصديقا بتحقيق ما كان الله وعدهم ورسوله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كما أنّ المنافقين اضطربت عقائدُهم عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهلُ اليقين ازدادوا ثِقةً، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً، ومن الله قوةً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... يحتمل أن يكون المؤمنون نظروا في هذه الآية، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أمرهم بحفر الخندق، وأشاروا بالوعد إلى جميع ذلك، وهي مقالتان إحداهما من الله والأخرى من رسوله.
وزيادة الإيمان هي في أوصافه لا في ذاته؛ لأن ثبوته وإبعاد الشكوك عنه والشبه زيادة في أوصافه، ويحتمل أن يريد إيمانهم بما وقع وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يقع فتكون الزيادة في هذا الوجه فيمن يؤمن به لا في نفس الإيمان.
لما بين حال المنافقين ذكر حال المؤمنين وهو أنهم قالوا هذا ما وعدنا الله من الابتلاء ثم قالوا: {وصدق الله ورسوله} في مقابلة قولهم: {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}.
{وصدق الله ورسوله} ليس إشارة إلى ما وقع فإنهم كانوا يعرفون صدق الله قبل الوقوع، وإنما هي إشارة إلى بشارة وهو أنهم قالوا: {هذا ما وعدنا الله} وقد وقع وصدق الله في جميع ما وعد فيقع الكل مثل فتح مكة وفتح الروم وفارس.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب؛ ولهذا قال: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}.
{وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}: دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم، كما قاله جمهور الأئمة: إنه يزيد وينقص
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر عما حصل في هذه الوقعة من الشدائد الناشئة عن الرعب لعامة الناس، وخص من بينهم المنافقين بما ختمه بالملامة في ترك التأسي بمن أعطاه الله قيادهم، وأعلاه عليهم في الثبات والذكر، وختم هذا الختم بما يثمر الرسوخ في الدين، ذكر حال الراسخين في أوصاف الكمال المتأسين بالداعي، المقتفين للهادي، فقال عاطفاً على {هنالك ابتلي المؤمنون}: {ولما رأى المؤمنون} أي الكاملون في الإيمان {الأحزاب} الذين أدهشت رؤيتهم القلوب {قالوا} أي مع ما حصل لهم من الزلزال وتعاظم الأحوال: {هذا} أي الذي نراه من الهول.
{ما وعدنا} من تصديق دعوانا الإيمان بالبلاء والامتحان {الله} الذي له الأمر كله {ورسوله} المبلغ عنه في نحو قوله: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم} [البقرة: 214] {أحسب الناس أن يتركوا} [العنكبوت: 2] {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} [التوبة: 16] وأمثال ذلك، فسموا المس بالبأساء والضراء، والابتلاء بالزلزال والأعداء، وعداً لعلمهم بما لهم عليه عند الله، ولا سيما في يوم الجزاء، وما يعقبه من النصر، عند اشتداد الأمر.
ولما كان هذا معناه التصديق، أزالوا عنه احتمال أن يكون أمراً اتفاقياً، وصرحوا به على وجه يفهم الدعاء بالنصر الموعود به في قولهم عطفاً على هذا: {وصدق} مطلقاً لا بالنسبة إلى مفعول معين {الله} الذي له صفات الكمال {ورسوله} الذي كماله من كماله، أي ظهر صدقهما في عالم الشهادة في كل ما وعدا به من السراء والضراء مما رأيناه. وهما صادقان فيما غاب عنا مما وعدا به من نصر وغيره، وإظهار الاسمين للتعظيم والتيمن بذكرهما.
ولما كان هذا قولاً يمكن أن يكون لسانياً فقط كقول المنافقين، أكده لظن المنافقين ذلك، فقال سبحانه شاهداً لهم: {وما زادهم} أي ما رأوه من أمرهم المرعب {إلا إيماناً} أي بالله ورسوله بقلوبهم، وأبلغ سبحانه في وصفهم بالإسلام، فعبر بصيغة التفعيل فقال: {وتسليماً} أي لهما بجميع جوارحهم في جميع القضاء والقدر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن؛ وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة، في مواجهة الهول، وفي لقاء الخطر. الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين.
لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة؛ وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا، كما قال عنهم أصدق القائلين: (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا)..
ولكن كان إلى جانب الزلزلة، وزوغان الأبصار، وكرب الأنفاس.. كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتسليم: الانقياد والطاعة لأن ذلك تسليمُ النفس للمنقاد إليه، ومن التسليم هنا تسليم أنفسهم لملاقاة عدوّ شديد دون أن يتطلبوا الإلقاء بأيديهم إلى العدوّ وأن يصالحوه بأموالهم، ومن التسليم الرضى بما يأمر به الرسول من الثبات معه كما قال تعالى: {ويُسَلِّمُوا تَسلِيماً} [النساء: 65].