فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا} (22)

{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا 21 ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما22 من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا23 }

لكأنه قسم من ربنا تبارك وتعالى وتحقيق أن خاتم النبيين يتؤسى به في فعله ، ويقتدى به في خلقه وقوله ، فهو نعم الهادي لكم يا من آمنتم وجاهدتم ، وأكرم قدوة لمن يؤمل في رضوان الله ، والفوز يوم يلقاه ، ولمن ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا ، فإن كثرة الذكر تعقب ملازمة الطاعة ، وبها يتحقق الاتساء بالبشير النذير –صلى الله تعالى عليه وسلم- وحين رأى المؤمنون أحزاب الشرك والكفر والنفاق الذين تواصوا بإهلاك النبي ومن معه – عندما رأوهم بخيلهم وخيلائهم لم يتنكروا لدينهم ، ولا وهنوا في ملاقاة عدوهم ، وما قنطوا من رحمة ونصر ربهم ، وإنما أقروا أنها سنة الله في الذين خلوا من قبلهم ) . . مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب( {[3613]} وقالوا : هذا الخطب والبلاء الذي نزل هو وعد الله الذي لا يخلف )ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم( {[3614]} وكلمات ربنا حق وصدق ، ورسوله لا ينطق عن الهوى ، وما زادكم البلاء إلا رسوخا وثباتا على الرشد ، وتسليما لربنا المستحق للحمد ، [ واستدل بالآية على جواز زيادة الإيمان ونقصه ، ومن أنكر قال : إن الزيادة فيما يؤمن به ، لا في نفس الإيمان . . . ] {[3615]} من هؤلاء المؤمنين المقتدين بخاتم النبيين ، رجال على الحقيقة أوفياء بما عاهدوا الله عليه من الإيمان والطاعة والجهاد والصبر ، فمن هؤلاء من وفى بما التزم كما يوفي من نذر نذره ، ومنهم من هو على عهده مع الله يترقب ساعة يدعى فيلبي ، وما غيروا عهدهم الذي عاهدوا مولاهم عليه أي تغيير ، لا من حيث الأصل ولا من حيث الصفة .

وأي صدق ووفاء فوق ثبات الصحب الكرام- وقد كانوا يومئذ يقاربون ثلاثة آلاف – في وجه حصار خمسة عشر ألف مقاتل{[3616]} ، قريش يقودهم أبو سفيان ، وبنو أسد يقودهم طليحة ، وغطفان يقودهم عيينة ، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي ، وبنو النضير رؤساؤهم : حيي بن أخطب وأبناء أبي الحقيق ، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد ، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنبذه بسعي حيي ، ودام الحصار قرابة شهر ، وليس يفصلهم عن المسلمين إلا الخندق الذي حفروه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حين أشار بحفره سليمان رضي الله عنه أعطى كل أربعين ذراعا لعشرة ، وأمر النبي بالذراري والنساء فدفعوا في آطام الجبال وكان ذلك في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة النبوية الكريمة .

مما نقل القرطبي عن أبي عيسى الترمذي ، وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين . اه

[ ولما اشتد الأمر على المسلمين وطال المقام في الخندق ، قام عليه السلام على التل الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي ، وتوقع ما وعده الله من النصر وقال : " من يذهب ليأتينا بخبرهم وله الجنة " ؟ فلم يجبه أحد ، وقال ثانيا وثالثا فلم يجبه أحد ، فنظر إلى جانبه وقال : " من هذا " ؟ فقال : حذيفة فقال : " ألم تسمع كلامي منذ الليلة " ؟ قال حذيفة : فقلت يا رسول الله منعني أن أجيبك الضر والقر . قال : " انطلق حتى تدخل في القوم فتسمع كلامهم وتأتيني بخبرهم اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله حتى ترده إلي انطلق ولا تحدث شيئا حتى تأتيني " {[3617]} فانطلق حذيفة بسلاحه ، ورفع رسول الله صلى الل عليه وسلم يده يقول : " يا صريخ المنكوبين ويا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فقد ترى حالي وحال أصحابي " : فنزل جبريل وقال : " إن الله قد سمع دعوتك وكفاك هول عدوك " فخر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ، وبسط يديه ، وأرخى عينيه وهو يقول : " شكرا شكرا كما رحمتني ورحمت أصحابي " . وأخبره جبريل أن الله تعالى مرسل عليها ريحا ، فبشر أصحابه بذلك . قال حذيفة : فانتهيت إليهم وإذا نيرانهم تتقد ، فأقبلت ريح شديدة فيها حصباء فما تركت لهم نارا إلا أطفأتها ، ولا بناء إلا طرحته ، وجعلوا يتترسون من الحصباء ، وقام أبو سفيان إلى راحلته وصاح في قريش : النجاء النجاء ! وفعل كذلك عيينة بن حصن والحارث بن عوف والأقرع بن حابس ، وتفرقت الأحزاب ، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد إلى المدينة وبه من الشعث ما شاء الله ، فجاءته فاطمة بغسول ، فكانت تغسل رأسه ، فأتاه جبريل فقال : " وضعت السلاح ولم تضعه أهل السماء ما زلت أتبعهم حتى جاوزت بهم الروحاء- ثم قال- انهض إلى بني قريظة " . وقال أبو سفيان : ما زلت أسمع قعقعة السلاح حتى جاوزت الروحاء ]{[3618]} .


[3613]:من سورة البقرة. من الآية 214.
[3614]:من سورة محمد. الآية 31.
[3615]:ما بين العارضتين[ ] أورده الألوسي.
[3616]:الذي نقله الألوسي: وكان مجموعهم عشرة آلاف في قول، وخمسة عشر ألفا في آخر.جـ 21 ص 155.
[3617]:ورواية مسلم قريبة من هذه، أما الحاكم والبهيقي في الدلائل فقد أخرجا بسند متصل عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال: ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه: أما والله لو شهدنا لكنا فعلنا وفعلنا. فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعودا وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة واليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم فيتسللون نحو ثلاثمائة أو نحو ذلك، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا رجلا أتى علي، وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز لبتي، قال فأتاني صلى الله عليه وسلم وأنا جاث على ركبتي، فقال،"من هذا"؟ فقلت حذيفة، قال"حذيفة" فتقاصرت الأرض، فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم، فقمت، فقال:"إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم" قال: وأنا من أشد الناس فرعا وأشدهم قرا، قال: فخرجت، فقال رسول الله صلى الله:" اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته" قال: فو الله ما خلق الله تعالى فزعا ولا قرا في جوفي إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئا، قال: فلما وليت قال صلى الله عليه وسلم " يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني" قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، فإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل! ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش لأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني" قال: فأمسكت، ورددت سهمي إلى كنانتي، ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر فإذا أحد الناس من بني عامر، يقولون: يا آل عامر! الرحيل الرحيل، لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي، فلما انتصفت الطريق أو نحو من ذلك إذا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين، فقالوا: أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مشتمل في شمله يصلي . فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القرن وجعلت أقرقف، فأوما إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي، فدنوت منه، فأسبل علي شمله- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى – فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يرتحلون، وأنزل الله تعالى{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا}.
[3618]:ما بين العارضتين أورده صاحب الجامع لأحكام القرآن.