تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق - والمراد به الصدقة هاهنا ؛ قاله ابن عباس - من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها . قال مجاهد : يعني التجارة بتيسيره إياها لهم .

وقال علي والسدي : { مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم } يعني : الذهب والفضة ، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض .

قال ابن عباس : أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ، ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ المال ودَنيه - وهو خبيثه - فإن الله طَيْب لا يقبل إلا طيبًا ، ولهذا قال : { وَلا تَيَمَّمُوا } أي : تقصدوا { الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } أي : لو أعطيتموه ما أخذتموه ، إلا أن تتغاضوا فيه ، فالله أغنى عنه منكم ، فلا تجعلوا لله ما تكرهون .

وقيل : معناه : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } أي : لا تعدلوا عن المال الحلال ، وتقصدوا إلى الحرام ، فتجعلوا نفقتكم منه .

ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا أبان بن إسحاق ، عن الصباح بن محمد ، عن مُرّة الهَمْداني ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن أحبَّ ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم عَبْدٌّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه " . قالوا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ . قال : " غَشَمُه وظلمه ، ولا يكسب{[4452]} عبد مالا من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه ، ولا يتصدقُ به فيقبل{[4453]} منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث " {[4454]} .

والصحيح القول الأول ؛ قال ابن جرير : حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزيِّ ، حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدّي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب في قول الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } الآية . قال : نزلت في الأنصار ، كانت الأنصار إذا كان أيام جذَاذ النخل ، أخرجت من حيطانها أقناء البُسْر ، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل فقراء المهاجرين منه ، فيعْمد الرجل منهم إلى الحَشَف ، فيدخله مع أقناء البسر ، يظن أن ذلك جائز ، فأنزل الله فيمن فعل ذلك : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }

ثم رواه{[4455]} ابن جرير ، وابن ماجه ، وابن مَرْدُوَيه ، والحاكم في مستدركه ، من طريق السدي ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء ، بنحوه . وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه{[4456]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : نزلت فينا ، كنا أصحاب نخل ، وكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي الرجل بالقِنْو فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة {[4457]} ليس لهم طعام ، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه ، فيسقط منه البسر والتمر ، فيأكل ، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقِنْو فيه الحَشَف والشِّيص ، ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه ، فنزلت : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } قال : لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعْطَى ما أخذه إلا على إغماض وحَياء ، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده .

وكذا رواه الترمذي ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن عبيد الله - هو ابن موسى العبسي - عن إسرائيل ، عن السدي - وهو إسماعيل بن عبد الرحمن - عن أبي مالك الغفاري - واسمه غَزْوان - عن البراء ، فذكر نحوه{[4458]} .

ثم قال{[4459]} : وهذا حديث حسن غريب . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا سليمان بن كثير ، عن الزهري ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لونين من التمر : الجُعْرُور ولون الحُبَيق{[4460]} . وكان الناس يَتيمّمون شرار ثمارهم{[4461]} ثم يخرجونها في الصدقة ، فنزلت : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون }{[4462]} .

ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين ، عن الزهري [ به ]{[4463]} . ثم قال : أسنده أبو الوليد ، عن سليمان بن كثير ، عن الزهري ، ولفظه : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجُعْرُور ولون الحُبيق{[4464]} أن يؤخذا في الصدقة{[4465]} .

وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حُمَيد اليَحْصُبي ، عن الزهري ، عن أبي أمامة . ولم يقل : عن أبيه ، فذكر نحوه{[4466]} . وكذا رواه ابن وهب ، عن عبد الجليل .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن مَعْقل{[4467]} في هذه الآية : { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون } قال : كسب المسلم لا يكون خبيثًا ، ولكن لا يصدّق بالحشف ، والدرهم الزّيف ، وما لا خير فيه .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حماد - هو ابن أبي سليمان - عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه . قلت : يا رسول الله ، نطعمه{[4468]} المساكين ؟ قال : " لا تطعموهم مما لا تأكلون " {[4469]} .

ثم رواه عن عفان{[4470]} عن حماد بن سلمة ، به . فقلت : يا رسول الله ، ألا أطعمه المساكين ؟ قال : " لا تطعموهم ما لا تأكلون " .

وقال الثوري : عن السدي ، عن أبي مالك ، عن البراء { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه } يقول : لو كان لرجل على رجل ، فأعطاه ذلك لم يأخذه ؛ إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه رواه ابن جرير .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه } يقول : لو كان لكم على أحد حق ، فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه . قال : فذلك قوله : { إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه ! !

رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وزاد : وهو قوله : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون } [ آل عمران : 92 ] . ثم روى من طريق العوفي وغيره ، عن ابن عباس نحو ذلك ، وكذا ذكر غير واحد .

قوله{[4471]} : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها ، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير ، كقوله : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } [ الحج : 37 ] وهو غني عن جميع خلقه ، وجميع خلقه فقراء إليه ، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه ، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب ، فليَعلمْ أن الله غني واسع العطاء ، كريم جواد ، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ولا ظلوم ، وهو الحميد ، أي : المحمود في جميع أفعاله وأقواله{[4472]} وشرعه وقدره ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .


[4452]:في جـ، أ: "ولا يكتسب".
[4453]:في أ، و: "فيتقبل".
[4454]:المسند (1/387).
[4455]:في جـ: "ورواه".
[4456]:تفسير الطبري (5/559، 560) وسنن ابن ماجة برقم (1822) والمستدرك (2/285) وقال البوصيري في الزوائد (2/58): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وله شاهد من حديث عوف بن مالك رواه أصحاب السنن الأربعة".
[4457]:في جـ، أ، و: "وكان أهل الصدقة".
[4458]:سنن الترمذي برقم (2987).
[4459]:في جـ: "وقال".
[4460]:في جـ، أ: "ولون الحشف".
[4461]:في جـ: "شر أثمارها".
[4462]:ورواه الحاكم في المستدرك (1/402) والطبراني في المعجم الكبير (6/76) من طريق أبي الوليد الطيالسي به، وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط البخاري".
[4463]:زيادة من جـ، أ.
[4464]:في جـ: "ولون الحسف".
[4465]:سنن أبي داود برقم (1607).
[4466]:سنن النسائي (5/43).
[4467]:في جـ: "بن مغفل".
[4468]:في جـ: "ألا نطعمه".
[4469]:المسند (6/105).
[4470]:في جـ: "عن عثمان".
[4471]:في جـ، أ، و: "وقوله".
[4472]:في جـ: "في جميع أقواله وأفعاله".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (267)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( 267 )

هذا الخطاب هو لجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه صيغة أمر من الإنفاق ، واختلف المتأولون هل المراد بهذا الإنفاق( {[2624]} ) ، الزكاة المفروضة أو التطوع ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين : هي في الزكاة المفروضة . نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد ، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر ، ودرهم زائف خير من تمرة( {[2625]} ) ، فالأمر على هذا القول للوجوب ، والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن بن أبي الحسن وقتادة ، أن الآية في التطوع ، وروى البراء بن عازب ، وعطاء بن أبي رباح ما معناه أن الأنصار كانوا أيام الجداد( {[2626]} ) يعلقون أقناء التمر في حبل بين أسطوانتين في المسجد فيأكل من ذلك فقراء المهاجرين فعلق رجل حشفاً فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «بئسما علق هذا » ، فنزلت الآية .

قال القاضي أبو محمد : والأمر على هذا القول على الندب ، وكذلك ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار ، والآية تعم الوجهين( {[2627]} ) ، لكن صاحب الزكاة يتلقاها على الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب ، وهؤلاء كلهم وجمهور المتأولين قالوا معنى { من طيبات } من جيد ومختار { ما كسبتم } ، وجعلوا { الخبيث } بمعنى الرديء والرذالة ، وقال ابن زيد معناه : من حلال ما كسبتم ، قال : وقوله : { ولا تيمموا الخبيت } أي الحرام .

قال القاضي أبو محمد : وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه( {[2628]} ) ، وقوله : { من طيبات ما كسبتم } يحتمل أن لا يقصد به لا الجيد ولا الحلال ، لكن يكون المعنى كأنه قال : أنفقوا مما كسبتم ، فهو حض على الإنفاق فقط . ثم دخل ذكر الطيب تبييناً لصفة حسنة في المكسوب عاماً وتعديداً للنعمة كما تقول : أطعمت فلاناً من مشبع الخبز وسقيته من مروي الماء( {[2629]} ) ، والطيب على هذا الوجه يعم الجود والحل ، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال : ليس في مال المؤمن خبيث( {[2630]} ) ، و { كسبتم } معناه كانت لكم فيه سعاية ، إما بتعب بدن أو مقاولة في تجارة( {[2631]} ) ، والموروث داخل في هذا لأن غير الوارث قد كسبه( {[2632]} ) ، إذ الضمير في { كسبتم } إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين ، { ومما أخرجنا لكم من الأرض }( {[2633]} ) النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك ، و { تيمموا } معناه تعمدوا وتقصدوا ، يقال تيمم الرجل كذا وكذا إذا قصده ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]

تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ التي عِنْدَ ضَارِجٍ . . . يفيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ( {[2634]} )

ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]

تَيَمَّمْتُ قَيْساً وَكَمْ دُونَهُ . . . مِنَ الأَرْضِ مِنْ مَهْمَهٍ ذي شَزَنْ( {[2635]} )

ومنه التيمم الذي هو البدل من الوضوء عند عدم الماء ، وهكذا قرأ جمهور الناس وروى البزي عن ابن كثير تشديد التاء في أحد وثلاثين موضعاً أولها هذا الحرف( {[2636]} ) ، وحكى الطبري أن في قراءة عبد الله بن مسعود «ولا تؤموا الخبيث » من أممت إذا قصدت ، ومنه إمام البناء ، والمعنى في القراءتين واحد ، وقرأ الزهري ومسلم بن جندب( {[2637]} ) «ولا تُيمِّموا » بضم التاء وكسر الميم ، وهذا على لغة من قال : يممت الشيء بمعنى قصدته ، وفي اللفظ لغات ، منها أممت الشيء خفيفة الميم الأولى وأممته بشدها ويممته وتيممته ، وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ «ولا تؤمموا » بهمزة بعد التاء ، وهذه على لغة من قال أممت مثقلة الميم ، وقد مضى القول في معنى { الخبيث } وقال الجرجاني في كتاب نظم القرآن : قال فريق من الناس : إن الكلام تم في قوله : { الخبيث } ثم ابتدأ خبراً آخر في وصف الخبيث فقال : { منه تنفقون }( {[2638]} ) وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي ساهلتم .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع ، والضمير في { منه } عائد على { الخبيث } ، قال الجرجاني وقال فريق آخر : بل الكلام متصل إلى قوله { فيه } .

قال القاضي أبو محمد : فالضمير في { منه } عائد على { ما كسبتم } ، ويجيء { تنفقون } كأنه في موضع نصب على الحال ، وهو كقولك : إنما أخرج أجاهد في سبيل الله ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } فقال البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وغيرهم . معناه ولستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم عند الناس إلا بأن تساهلوا في ذلك ، وتتركون من حقوقكم وتكرهونه ولا ترضونه ، أي فلا تفعلوا مع الله ما لا ترضونه لأنفسكم ، وقال الحسن بن أبي الحسن معنى الآية : لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع ، إلا أن يهضم لكم من ثمنه ، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة( {[2639]} ) وقال البراء بن عازب أيضاً : معناه ولستم بآخذيه لو أهدي إليكم { إلا أن تغمضوا } أي تستحيي من المهدي أن تقبل منه ما لا حاجة لك فيه ، ولا قدر له في نفسه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يشبه كون الآية في التطوع ، وقال ابن زيد معنى الآية : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه( {[2640]} ) ، وقرأ جمهور الناس «إلا أن تُغْمِضوا » بضم التاء وسكون الغين وكسر الميم . وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففاً ، وروي عنه أيضاً «تُغْمِّضُوا » بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشددة ، وحكى مكي عن الحسن البصري «تغمَّضوا » مشددة الميم مفتوحة وبفتح التاء .

وقرأ قتادة بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففاً قال أبو عمرو معناه : إلا أن يغمض لكم .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذه اللفظة تنتزع إما من قول العرب أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز ، فمن ذلك قول الطرماح بن حكيم : [ الخفيف ]

لَمْ يَفُتنا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وللذُ . . . لِّ أُنَاسٌ يَرْضَونَ بالإغْمَاضِ( {[2641]} )

وإما أن تنتزع من تغميض العين لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عنه عينيه ومنه قول الشاعر :

إلى كم وكم أشياء منكمْ تريبني . . . أغمض عنها لست عنها بذي عمى

وهذا كالإغضاء عند المكروه ، وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية وأشار إليه مكي ، وإما من قول العرب أغمض الرجل إذا أتى غامضاً من الأمر كما تقول : أعمن إذا أتى عمان ، وأعرق إذا أتى العراق ، وأنجد ، وأغور ، إذا أتى نجداً والغور الذي هو تهامة ، ومنه قول الجارية : وإن دسر أغمض( {[2642]} ) فقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى التغميض العين لأن أغمض بمنزلة غمض وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضاً من التأويل والنظر في أخذ ذلك إما لكونه حراماً على قول ابن زيد ، وإما لكونه مهدياً أو مأخوذاً في دين على قول غيره ، وأما قراءة الزهري الأولى فمعناها تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم ، قال أبو عمرو معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان .

قال القاضي أبو محمد : وأما قراءته( {[2643]} ) الثانية فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها . ويحتمل أن تكون من تغميض العين . وأما قراءة قتادة فقد ذكرت تفسير أبي عمرو لها . وقال ابن جني : معناها توجدوا قد غمضتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس ، وهذا كما تقول : أحمدت الرجل وجدته محموداً إلى غير ذلك من الأمثلة ، ثم نبه تعالى على صفة الغنى أي لا حاجة به إلى صدقاتكم ، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بما له قدر( {[2644]} ) ، و { حميد } معناه محمود في كل حال ، وهي صفة ذات .


[2624]:- لما ذكر سبحانه وجوب الإخلاص في الإنفاق ذكر هنا ضرورة الإخلاص في الشيء المُنْفَق أيضا، وبإخلاص الظاهر والباطن تتحقق النتيجة إن شاء الله يضاعف ثوابه.
[2625]:- يعني أنه في التطوع يجوز للإنسان أن يعطي غير الطيب، لأنه قد يكون أعم نفعاً لكثرته، أو لعظم خطره، وأحسن موقعا من المسكين من الجيد لقلته، أو لصغر خطره، وقلة جدوى نفعه على من أُعطيه، وعليه فقد يكون الدرهم الزائف خيرا من تمرة لقلتها، انظر تفسير الإمام (ط) رحمه الله.
[2626]:- أي جداد النخل وصرامه وهو بالمهملة والمعجمة، يقال: جذَّ النخل إذا قطعه وصرمه، وحديث البراء بن عازب خرجه الإمام الترمذي وصححه.
[2627]:- هذا هو الظاهر، وله من الأدلة ما يؤيده، منها أن سبب الآية كان في التطوع، ومنها أن الرديء غير محمود لا في الفرض ولا في النفل، وإنما يحرم في الفرض ويكره في النفل.
[2628]:- لا مانع من اعتبار الأمرين جميعا، لأن الكسب الجيد والمختار إنما يطلق على الحلال في الحقيقة الشرعية، وإن أطلق أهل اللغة على ما هو جيد في ذاته حلالا أم حراما، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية، ويرجع إلى هذا قول ابن عطية رحمه الله فيما بعد: والطيب على هذا الوجه يعم الجودة والحل إلخ. تأمل.
[2629]:- روى الطبراني بسنده، عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطعم أخاه حتى يشبعه، وسقاه من الماء حتى يرويه بعده الله من النار سبع خنادق، ما بين كل خندقين مسيرة مائة عام).
[2630]:- روى حديث عبد الله بن مغفل ابن حاتم كما في تفسير الحافظ ابن (ك). وفي نسخة عبد الله بن معقل. وعبد الله بن مغفل المزني من مشاهير الصحابة نقل البخاري أنه كان يكنى أبا زياد، وهو أحد البكاتين في غزوة تبوك مات سنة 61هـ بالبصرة. وعبد الله بن معقل مات في حدود السبعين، وهو صحابي أنصاري، شهد أحدا مع أبيه، وهو شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية.
[2631]:- في التجارة تسعة أعشار الرزق، ويقال: علموا أولادكم التجارة، ولا تعلموهم الإجارة، والإجارة هي ما فيها تعب البدن.
[2632]:- يريد الموروث، وهذا ما فسر به ابن عطية رحمه الله تبعا لغيره، ويعني أنه لا فرق بين أن يكون كسبه بنفسه، أو كسبه بغيره كالوارث، ولك أن تقول: ذكرت الآية المكسوب، لأن بذله يكون أشق على النفس من غير المكسوب كالميراث، وفي ذلك إشارة إلى أن ثواب الصدقة من الحلال المكتسب أعظم من الحلال غير المكتسب.
[2633]:- بهذه الآية الكريمة استدل الحنفية على وجوب الزكاة من جميع ما يخرج من الأرض، وللمذاهب الأخرى تفصيل مأخوذ من السنة، والله أعلم.
[2634]:- قبله: ولمَّـا رأتْ أنَّ الشريعة هَمُّهـا وأن البياض من فرائصها دامـي تَيَمَّمَتِ العَيْنَ التي عند ضـارج يفيءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضهَا طَامِي والضمير في (رأت) لحمر الوحش، والشريعة مورد الماء المقصود، ويريد أن الحمر لما أرادت شريعة الماء وخافت على نفسها من الرماة، وأن تدمي فرائصها من سهامهم عَدَلتْ إلى ضارج لعدم وجود الرماة على العين التي فيه، وضارج: موضع في بلاد بني عبس، والعرمض: الطحلب، والطامي: المرتفع، وفي رواية (الطلح) بدل (الظل).
[2635]:- أي ذي خشونة، لأن أرضه غير مستوية. وقد روي البيت: «تُيَمِّمُ قيسا» يريد الناقة.
[2636]:- ذكرها أبو (ح) رحمه الله في كتبه، ونظمها في تفسيره، وقراءة البزي لا تجوز عند البصريين لما فيها من الجمع بن الساكنين، وليس الساكن الأول حرف مدِّ ولين، إلا أن الأمة تلقتها بالقبول، والعلم غير محصور في البصريين، وقد كان الأصل تاءين، تاء الخطاب، وتاء الفعل، فحذفت تاء الخطاب في القراءة العامة لئلا يتكرر مثلان، والبزي رد الحرف المحذوف وأدغمه.
[2637]:- مسلم بن جندب تابعي مدني يعد من القراء، ومن النحاة، وهو أحد من أخذ عنه القراءة نافع بن أبي نعيم.
[2638]:- تقديم الجار والمجرور يفيد التخصيص، أي لا تقصدوا المال الخبيث مخصصين الإنفاق به، وقاصرين ذلك عليه، وفي ذلك تنبيه على أن المنهي عنه هو القصد للرديء من جملة ما في يده، وأما إنفاق الرديء لمن ليس له غيره، أو لمن لا يقصده فغير منهي عنه.
[2639]:- قال ابن العربي: لو كانت الآية في الفرض لما قال: [ولستم بآخذيه] لأن الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه، وإنما يؤخذ بإغماض ما سواه.
[2640]:- قال أبو (ح) بعد أن أورد هذه الأقوال: «والظاهر عموم نفي الأخذ بأي طريق، والهاء في (بآخذيه) عائدة على الخبيث، وهي مجرورة بالإضافة، وإن كانت من حيث المعنى مغعولة». البحر المحيط 2-318
[2641]:- الوتر – بفتح الواو وكسرها: الذَّحْل، والظلم فيه، والذَّحْل: الحقد والعداوة والثأر، والجمع: أذحال وذحول، يقال: طلب بذحله: أي بثأره – وقد روي "والذُّل" بدل "واللضّيْم"، والإغماض هنا كما يرى المؤلف هو التساهل في الحقوق، والرضا ببعضها مع التجاوز عن بعضها الآخر.
[2642]:- روى أبو علي القالي في كتاب "الأمالي" قصة هذه الجارية، وهي واحدة من ثلاث بنات سألتهن أمهن العجوز عما يحببن من الأزواج، وقالت كل واحدة ما تحبه، وجاء في كلام الثالثة وهي صغراهن: «أُريده بازل عام، كالمهند الصمصام، قرانه حبور، وبقاؤه سرور، إن دسر أغمض، وإن أخلَّ أحمض... الخ» والدسر هنا معناه الجماع.
[2643]:- هذا مقابل قوله: «وأما قراة الزهري الأولى»، وقوله: «فهذا مذهب أبي عمرو الداني فيها» يعني أن معناها حتى تأخذوا بنقصان.
[2644]:- يعني أنه سبحانه وإن أمركم بالنفقة فإن ذلك لمنفعتكم ولمصلحة الفقير والغني منكم، وإلا فهو غني عن صدقاتكم، ولذلك فمن تصدق بصدقة طيبة فليعلم أن الله غني واسع العطاء. وأنه سيجزيه عليها ويضاعفها له أضعافا كثيرة، وأنه المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرائعه لا إله إلا الله ولا رب سواه.