تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

ثم قال تعالى رادًّا على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أي : نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية ، وهو يحبنا . ونقلوا عن كتابهم أن الله [ تعالى ]{[9444]} قال لعبده إسرائيل : " أنت ابني بكري " . فحملوا هذا على غير تأويله ، وحَرّفوه . وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم ، وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام ، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، يعني : ربي وربكم . ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى ، عليه السلام ، وإنما أرادوا بذلك{[9445]} معزتهم لديه وحظْوتهم عنده ، ولهذا قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه .

قال الله تعالى{[9446]} رادا عليهم : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } أي : لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه ، فلم أعَد{[9447]} لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم ؟ . وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فلم يرد عليه ، فتلا الصوفي هذه الآية : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ }

وهذا الذي قاله حسن ، وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال : حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن حُمَيْد ، عن أنس قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، وصبي في الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يُوْطَأ ، فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني ! وسعت فأخذته ، فقال القوم : يا رسول الله ، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار . قال : فَخفَّضَهُم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " لا والله ما يلقي حبيبه في النار " . تفرد به . {[9448]}

[ وقوله ]{[9449]} { بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } أي : لكم أسوة أمثالكم من بني آدم ، وهو تعالى هو الحاكم في جميع عباده { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } أي : هو فعال لما يريد ، لا مُعَقِّب لحكمه وهو سريع الحساب . { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه ، { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والمآب إليه ، فيحكم في عباده بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يجور .

[ و ]{[9450]} قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمَة ، أو سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء{[9451]} وبحري بن عمرو ، وشاس بن عدي ، فكلموه وكلمهم{[9452]} رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد ! نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى ، فأنزل [ الله ]{[9453]} فيهم : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } إلى آخر الآية . رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .

ورويا أيضا من طريق أسباط عن السدي في قول الله [ تعالى ]{[9454]} { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أما قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } فإنهم قالوا : إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدك{[9455]} - بكرك من الولد - فيدخلهم النار{[9456]} فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ، ثم يناد مناد{[9457]} أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل . فأخرجوهم{[9458]} فذلك قولهم : { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } [ آل عمران : 24 ]


[9444]:زيادة من أ.
[9445]:في ر، أ: "من ذلك".
[9446]:في أ: "عز وجل".
[9447]:في أ: أعددت".
[9448]:المسند (3/104).
[9449]:زيادة من أ.
[9450]:زيادة من أ.
[9451]:في أ: "عتمان بن صا".
[9452]:في أ: "فكلمهم."
[9453]:زيادة من أ.
[9454]:زيادة من أ.
[9455]:في أ: "ولدي".
[9456]:كذا في جميع النسخ، ونص الطبري: "أن ولدا من ولدك أدخلهم النار" (6/106).
[9457]:في أ: "منادي".
[9458]:في ر: "فأخرجهم".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } أشياع ابنيه عزيرا والمسيح كما قيل لأشياع ابن الزبير الحبيبون أو المقربون عنده قرب الأولاد من والدهم وقد سبق لنحو ذلك مزيد بيان في سورة " آل عمران " . { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } أي فإن صح ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم فإن من كان بهذا المنصب لا يفعل ما يوجب تعذيبه ، وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياما معدودات . { بل أنتم بشر ممن خلق } ممن خلقه الله تعالى . { يغفر لمن يشاء } وهم من آمن به وبرسله . { ويعذب من يشاء } وهم من كفر ، والمعنى أنه يعاملكم معاملة سائر الناس لا مزية لكم عنده . { ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } كلها سواء في كونها خلقا وملكا له . { وإليه المصير } فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰٓؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرٞ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ يَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (18)

مقال آخر مشترك بينهم وبين اليهود يدلّ على غباوتهم في الكفر إذ يقولون ما لا يليق بعظمة الله تعالى ، ثمّ هو مناقض لمقالاتهم الأخرى . عُطف على المقال المختصّ بالنصارى ، وهو جملة { لقد كَفَر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح } [ المائدة : 17 ] . وقد وقع في التّوراة والإنجيل التعبير بأبناء الله ؛ ففي سفر التثنية أوّل الفصل الرابع عشر قول موسى « أنتُم أولاد للربّ أبيكم » . وأمّا الأناجيل فهي مملوءة بوصف الله تعالى بأبي المسيح ، وبأبي المؤمنين به ، وتسمية المؤمنين أبناءَ الله في متّى في الإصحاح الثّالث « وصوت من السماء قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت » وفي الإصْحاح الخامس « طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناءَ الله يُدعون » . وفي الإصحاح السادس « وأبوكم السماوي يقُوتها » . وفي الإصحاح العاشر « لأِنْ لستم أنتم المتكلّمين بل روح أبيكم الّذي يتكلّم فيكم » . وكلّها جائية على ضرب من التشبيه فتوهّمها دهماؤهم حقيقة فاعتقدوا ظاهرها .

وعطف { وأحبّاؤه } على { أبناءُ الله } أنّهم قصدوا أنّهم أبناء محبوبون إذ قد يكون الابن مغضوباً عليه .

وقد علَّم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقْضَيْن : أولهما من الشريعة ، وهو قوله { قل فلِمَ يعذّبكم بذنوبكم } يعنِي أنّهم قائلون بأنّ نصيباً من العذاب ينالهم بذنوبهم ، فلو كانوا أبناء الله وأحبّاءه لما عذّبهم بذنوبهم ، وشأن المحبُّ أن لا يعذّب حبيبه وشأن الأب أن لا يعذّب أبناءه . رُوي أنّ الشِّبْلي سأل أبا بكر بن مجاهد : أين تَجد في القرآن أنّ المُحبّ لا يعذِّب حبيبَه فلم يهتد ابن مجاهد ، فقال له الشبلي في قوله : { قل فلِم يعذّبكم بذنوبكم } . وليس المقصود من هذا أنّ يَردّ عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر ، مِن تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم ، لأنّ ذلك لا يعترفون به فلا يصلح للردّ به ، إذ يصير الردّ مُصَادَرَة ، بل المقصود الردّ عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم ، سواء كان عذاب الآخرة أم عذاب الدّنيا . فأمّا اليهود فكُتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة ، كما في قوله تعالى : { وقالوا لَنْ تمسّنا النّار إلاّ أيّاماً معدودة } [ البقرة : 80 ] . وأمّا النّصارى فلم أر في الأناجيل ذكراً لِعذاب الآخرة إلاّ أنّهم قائلون في عقائدهم بأنّ بني آدم كلّهم استحقّوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم ، فجاء عيسى ابن مريم مخلّصاً وشافعاً وعرّض نفسه للصلب ليكفّر عن البشر خطيئتهم الموروثة ، وهذا يُلزمهم الاعترافَ بأنّ العذاب كان مكتوباً على الجميع لولا كفّارة عيسى فحصل الرّدّ عليهم باعتقادهم به بله اعتقادنا .

ثم أُخذت النتيجةُ من البرهان بقوله : { بل أنتم بشر ممّن خلق } أي يَنالكم ما ينال سائر البشر . وفي هذا تعريض أيضاً بأنّ المسيح بَشَر ، لأنّه ناله ما ينال البشر من الأعراض والخوف ، وزعموا أنّه ناله الصلب والقتل .

وجملة قوله : { يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء } كالاحتراس ، لأنّه لمّا رتّب على نوال العذاب إيّاهم أنهم بشر دفع توهّم النصارى أنّ البشريّة مقتضية استحقاق العذاب بوراثة تَبِعة خطيئة آدم فقال : { يغفر لمن يشاء } ، أي من البشر { ويعذّب من يشاء } .