تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

يأمرُ تعالى بذكره والإكثار منه بعد قَضَاء المناسك وفراغها .

وقوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ } اختلفوا في معناه ، فقال ابن جُرَيج ، عن عطاء : هو{[3665]} كقول الصبي : " أبَهْ أمَّهْ " ، يعني : كما يَلْهَج الصبي بذكر أبيه وأمه ، فكذلك أنتم ، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك . وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس . وروى ابنُ جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس - نحوه .

وقال سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس [ قال ]{[3666]} : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم{[3667]} فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحَمَالات [ ويحمل الديات ]{[3668]} . ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم . فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }

قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن أنس بن مالك ، وأبي وائل ، وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة في إحدى رواياته ، ومجاهد ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك . وهكذا حكاه ابن جرير أيضًا عن جماعة ، والله أعلم .

والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل ؛ ولهذا كان انتصاب قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } على التمييز ، تقديره كذكركم آباءكم أو أشد منه ذكرًا . و " أو " هاهنا لتحقيق المماثلة في الخبر ، كقوله : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، وقوله : { يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ،

{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] ، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [ النجم : 9 ] . فليست هاهنا للشك قطعًا ، وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزْيَد منه . ثم إنه تعالى أرشد إلى دُعَائه بعد كثرة ذكره ، فإنه مظنة الإجابة ، وذَمَّ من لا يسأله إلا في أمر دنياه ، وهو معرض عن أخراه ، فقال : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } أي : مِنْ نَصِيب ولا حظ . وتضمَّن هذا الذمّ التنفير عن التشبه{[3669]} بمن هو كذلك .

200


[3665]:في جـ: "وهو".
[3666]:زيادة من جـ، ط.
[3667]:في أ: "في المواسم".
[3668]:زيادة من أ، و.
[3669]:في أ: "عن التشبيه".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

{ فإذا قضيتم مناسككم } فإذا قضيتم العبادات الحجية وفرغتم منها . { فاذكروا الله كذكركم آباءكم } فأكثروا ذكره وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر أبائكم في المفاخرة . وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم . { أو أشد ذكرا } إما مجرور معطوف على الذكر يجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ . أو على ما أضيف إليه على ضعف بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا . وإما منصوب بالعطف على آباءكم وذكرا من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آباءكم . أم بمضمر دل عليه المعنى تقديره : أو كونوا أشد ذكرا منكم آبائكم . { فمن الناس من يقول } تفصيل للذاكرين إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب به خير الدارين ، والمراد الحث على الإكثار والإرشاد إليه . { ربنا آتنا في الدنيا } اجعل إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا { وما له في الآخرة من خلاق } أي نصيب وحظ لأن همه مقصور بالدنيا ، أو من طلب خلاق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } ( 200 )

وقوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } الآية ، قال مجاهد : «المناسك الذبائح وهراقة الدماء » ، والمناسك عندي العبادات في معالم الحج ومواضع النسك فيه ، والمعنى إذا فرغتم من حجكم الذي هو الوقوف بعرفة فاذكروا الله بمحامده وأثنوا عليه بآلائه عندكم ، وخص هذا الوقت بالقضاء لما يقضي الناس فيه مناسكهم في حين واحد ، وما قبل وما بعد فهو على الافتراق : هذا في طواف وهذا في رمي وهذا في حلاق وغير ذلك ، وكانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة فتتفاخر بالآباء وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم وغير ذلك ، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله تعالى( {[1898]} ) أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيام الجاهلية ، هذا قول جمهور المفسرين .

وقال ابن عباس وعطاء : معنى الآية اذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم ، أي فاستغيثوا( {[1899]} ) به والجؤوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم .

وقالت طائفة : معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه ، وادفعوا من أراد الشرك والنقص في دنيه ومشاعره ، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم وتحمون جوانبهم وتذبون عنهم ، وقرأ محمد ابن كعب القرظي «كذكركم آباؤكم » أي اهتبلوا بذكره كما يهتبل المرء بذكر ابنه ، فالمصدر على هذه القراءة مضاف إلى المفعول( {[1900]} ) ، و { أشد } في موضع خفض عطفاً على { ذكركم } ويجوز أن يكون في موضع نصب ، التقدير أو اذكروه أشد ذكراً .

وقوله تعالى : { فمن الناس من يقول } الآية( {[1901]} ) ، قال أبو وائل والسدي وابن زيد : كانت عادتهم في الجاهلية أن يدعوا في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة ، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص ، بأمر الدنيا( {[1902]} ) ، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم ، والخلاق : النصيب والحظ ، و { من } زائدة لأنها بعد النفي ، فهي مستغرقة لجنس الحظوظ .


[1898]:- قال الإمام النووي رحمه الله: «المراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو مقصود الذاكر، ويحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر ويتعقل معناه، فالتدبر في الذكر مطلوب كما هو مطلوب في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود». وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري: «ولا مطمع للذاكر في درك حقائق الذكر إلا بإعمال الفكر فيما تحت ألفاظ الذكر من المعاني، وليرفع خطرات نفسه عن باطنه راجعا إلى مقتضى ذكره حتى يغلب معنى الذكر على قبله» انتهى من مختصر ابن عطية رحمه الله.
[1899]:- وفي بعض النسخ: «فاستعينوا به».
[1900]:- والفاعل أباؤكم، والتقدير: اذكروا الله كما يذكركم آباؤكم.
[1901]:- لما كان الدعاء نوعا من أنواع الذكر ذكره بعد إرشاد عباده إلى ذكره سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: بعد قضاء مناسككم وعبادتكم، اذكروا الله ذكرا كثيرا وادعوه دعاء شاملا، لا دعاء خاصا بالدنيا.
[1902]:- أي بالدنيا: وليس المراد أنه يريد من الناس أن يتركوا أمر الدنيا لأنهم يعيشون فيها، ولكنه سبحانه يريد من الناس أن يعملوا لهذه الدنيا، ولما هو أكبر منها حتى لا يحصروا نشاطهم فيها، بل عليهم أن يزاولوا الخلافة في الحياة الدنيا، وأن يعرفوا مستواهم إلى الأفق الأعلى، وإلى الحياة الأخرى.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَإِذَا قَضَيۡتُم مَّنَٰسِكَكُمۡ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗاۗ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰقٖ} (200)

تفريع على قوله : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } [ البقرة : 199 ] لأن تلك الإفاضة هي الدفع من مزدلفة إلى منى أو لأنها تستلزم ذلك ومنى هي محل رمي الجمار ، وأشارت الآية إلى رمي جمرة العقبة يوم عاشر ذي الحجة فأمرت بأن يذكروا الله عند الرمي ثم الهدي بعد ذلك وقد تم الحج عند ذلك ، وقضيت مناسكه .

وقد أجمعوا على أن الحاج لا يرمي يوم النحر إلاّ جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس إلى الزوال ثم ينحر بعد ذلك ، ثم يأتي الكعبة فيطوف طواف الإفاضة وقد تم الحج وحل للحاج كل شيء إلاّ قربان النساء .

والمناسك جمع مَنْسَك مشتق من نسك نَسْكاً من باب نصر إذا تعبد وقد تقدم في قوله تعالى : { وأرنا مناسكنا } [ البقرة : 128 ] فهو هنا مصدر ميمي أو هو اسم مكان والأول هو المناسب لقوله : { قضيتم } ؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي عبادات مناسككم .

وقرأ الجميع { مناسككم } بفك الكافين وقرأه السوسي عن أبي عمرو بإدغامهما وهو الإدغام الكبير .

وقوله : { فاذكروا الله } أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضاً عليه وإبطالاً لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر ، فإنه يجر إلى المراء والجدال ، والمقصد أن يكون الحاج منغمساً في العبادة فعلاً وقولاً واعتقاداً .

وقوله : { كذكركم أباءكم } بيان لصفة الذكر ، فالجار والمجرور نعت لمصدر محذوف أي ذكراً كذكركم الخ إشارة إلى ما كانوا عليه من الاشتغال في أيام منى بالتفاخر بالأنساب ومفاخر أيامهم ، فكانوا يقفون بين مسجد منى أي موضعه وهو مسجد الخيف وبين الجبل ( أي جبل منى الذي مبدؤه العقبة التي ترمى بها الجمرة ) فيفعلون ذلك .

وفي « تفسير ابن جرير » عن السدي : كان الرجل يقوم فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته ، فلا يذكر غير أبيه وذكر أقوالاً نحواً من ذلك .

والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء .

وقوله : { أو أشد ذكرا } أضل أو أنها للتخيير ولما كان المعطوف بها في مثل ما هنا أولى بمضمون الفعل العامل في المعطوف عليه أفادت ( أو ) معنى من التدرج إلى أعلى ، فالمقصود أن يذكروا الله كثيراً ، وشبه أولاً بذكر آبائهم تعريضاً بأنهم يشتغلون في ذلك المناسك بذكر لا ينفع وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر . ولهذا قال أبو علي الفارسي وابن جنى : إن ( أو ) في مثل هذا للإضراب الانتقالي ونفَيَا اشتراط تقدم نفي أو شبهه واشتراط إعادة العامل . وعليه خُرج قوله تعالى : { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } [ الصافات : 147 ] ، وعلى هذا فالمراد من التشبيه أولاً إظهار أن الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائِهم ثم بين بأن ذكر الله يكون أشد لأنه أحق بالذكر .

و ( أشد ) لا يخلو عن أن يكون معطوفاً على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله { كذكركم آباءكم } تقديره : { كذكركم آباءكم } فتكون فتحة { أشد } التي في آخره فتحة نصب ، فنصبه بالعطف على المصدر المحذوف الذي دل عليه قوله { كذكركم } والتقدير : ذكراً كذكركم آباءكم ، وعلى هذا الوجه فنصب { ذكراً } يظهر أنه تمييز لأشد ، وإذ قد كان ( أشد ) وصفاً لذكر المقدر صار مآل التمييز إلى أنه تمييز الشيء بمرادفه وذلك ينافي القصد من التمييز الذي هو لإزالة الإبهام ، إلاّ أن مثل ذلك يقع في الكلام الفصيح وإن كان قليلاً قلة لا تنافي الفصاحة اكتفاء باختلاف صورة اللفظين المترادفين ، مع إفادة التمييز حينئذٍ توكيد المميز كما حكى سيبويه أنهم يقولون : هو أشح الناس رجلاً ، وهما خير الناس اثنين ، وهذا ما درج عليه الزجاج في « تفسيره » ، قلت : وقريب منه استعمال تمييز ( نعم ) توكيداً في قوله جرير :

تَزَوَّدْ مثلَ زاد أبيك فينا *** فنِعْم الزاد زادُ أبيك زَادا

ويجوز أن يكون نصب { أشد } على الحال من ( ذكر ) الموالي له وأن أصل أشد نعت له وكان نظم الكلام : أو ذكراً أشد ، فقدم النعت فصار حالاً ، والداعي إلى تقديم النعت حينئذٍ هو الاهتمام بوصف كونه أشد ، وليتأتى إشباع حرف الفاصلة عند الوقف عليه ، وليباعد ما بين كلمات الذكر المتكررة ثلاث مرات بقدر الإمكان . أو أن يكون ( أشد ) معطوفاً على ( ذكر ) المجرور بالكاف من قوله : { كذكركم } ولا يمنع من ذلك ما قيل من امتناع العطف على المجرور بدون إعادة الجار لأن ذلك غير متفق عليه بين أئمة النحو ، فالكوفيون لا يمنعونه ووافقهم بعض المتأخرين مثل ابن مالك وعليه قراءة حمزة { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } [ النساء : 1 ] بجر الأرحام وقد أجاز الزمخشري هنا وفي قوله تعالى : { كخشية الله أو أشد خشية } في [ سورة النساء : 77 ] أن يكون العطف على المجرور بالحرف بدون إعادة الجار ، وبعض النحويين جوزه فيما إذا كان الجر بالإضافة لا بالحرف كما قاله ابن الحاجب في إيضاح المفصل } ، وعليه ففتحة { أشد } نائبة عن الكسرة ، لأن أشد ممنوع من الصرف وعلى هذا الوجه فانتصاب { ذكرا } على التمييز على نحو ما تقدم في الوجه الأول عن سيبويه والزجاج .

ولصاحب « الكشاف » تخريجان آخران لإعراب { أو أشد ذكراً } فيهما تعسف دعاه إليهما الفرار من ترادف التمييز والمميز ، ولابن جني تبعاً لشيخه أبي علي تخريج آخر ، دعاه إليه مثل الذي دعا الزمخشري وكان تخريجه أشد تعسفاً ذكره عنه ابن المنير في « الانتصاف » ، وسلكه الزمخشري في تفسير آية سورة النساء .

وهذه الآية من غرائب الاستعمال العربي ، ونظيرتها آية سورة النساء ، قال الشيخ ابن عرفة في « تفسيره » « وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلاّ ابن عبد السلام وابن الحباب وما قصر الطيبي فيها وهو الذي كشف القناع عنها هنا وفي قوله تعالى في [ سورة النساء : 77 ] { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه ؛ لأني كنت عند ابن عبد السلام لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له : ننظر ما قال : في { أشد خشية } فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذ ذاك على نسخها اهـ » .

وقوله : { فمن الناس من يقول } الخ ، الفاء للتفصيل ؛ لأن ما بعدها تقسيم لفريقين من الناس المخاطبين بقوله : { فاذكروا الله } الخ فقد علم السامعون أن الذكر يشمل الدعاء ؛ لأنه من ذكر الله وخاصة في مظان الإجابة من الزمان والمكان ، لأن القاصدين لتلك البقاع على اختلاف أحوالهم ما يقصدون إلاّ تيمناً ورجاء فكان في الكلام تقدير كأنه قيل : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً وادْعوه ، ثم أريد تفصيل الداعين للتنبيه على تفاوت الذين تجمعهم تلك المناسك ، وإنما لم يفعل الذكر الأعم من الدعاء ، لأن الذكر الذي ليس بدعاء لا يقع إلاّ على وجه واحد وهو تمجيد الله والثناء عليه فلا حاجة إلى تفصيله تفصيلاً ينبه إلى ما ليس بمحمود ، والمقسم إلى الفريقين جميع الناس من المسلمين والمشركين ؛ لأن الآية نزلت قبل تحجير الحج على المشركين بآية براءة ، فيتعين أن المراد بمن ليس له في الآخرة من خلاق هم المشركون ؛ لأن المسلمين لا يهملون الدعاء لخير الآخرة ما بلغت بهم الغفلة ، فالمقصود من الآية التعريض بذم حالة المشركين ، فإنهم لا يؤمنون بالحياة الآخرة .

قوله : { آتنا } ترك المفعول الثاني لتنزيل الفعل منزلة ما لا يتعدى إلى المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه أي أعطنا عطاء في الدنيا ، أو يقدر المفعول بأنه الإنعام أو الجائزة أو محذوف لقرينة قوله { حسنة } فيما بعد ، أي { آتنا في الدنيا حسنة } .

و« الخلاق » بفتح الخاء الحظ من الخير والنفيس مشتق من الخلاقة وهي الجدارة ، يقال خلق بالشيء بضم اللام إذا كان جديراً به ، ولما كان معنى الجدارة مستلزماً نفاسة ما به الجدارة دل ما اشتق من مرادفها على النفاسة سواء قيد بالمجرور كما هنا أم أطلق كما في قوله صلى الله عليه وسلم " إنما يلبس هذه من خلاق له " أي من الخير وقول البعيث بن حريث :

ولَسْتُ وإن قُرِّبْتُ يَوْماً ببائعٍ *** خَلاَقي ولا دِيني ابِتغاءَ التَّحَبُّبِ

وجملة { وما له في الآخرة من خَلَقِ } معطوفة على جملة { من يقول } فهي ابتدائية مثلها ، والمقصود : إخبار الله تعالى عن هذا الفريق من الناس أنه لا حظ له في الآخرة ، لأن المراد من هذا الفريق الكفار ، فقد قال ابن عطية : كانت عادتهم في الجاهلية ألا يدعوا إلاّ بمصالح الدنيا إذ كانوا لا يعرفون الآخرة .

ويجوز أن تكون الواو للحال ، والمعنى من يقول ذلك في حال كونه لا حظ له في الآخرة ولعل الحال للتعجيب .