تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ} (11)

وقوله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } أي : للعبد ملائكة يتعاقبون عليه ، حَرَس بالليل وحَرَس بالنهار ، يحفظونه من الأسواء{[15470]} والحادثات ، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، فاثنان عن اليمين و[ عن ]{[15471]} الشمال يكتبان الأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحدا{[15472]} من ورائه وآخر من قدامه ، فهو بين أربعة أملاك بالنهار ، وأربعة آخرين بالليل بدلا حافظان وكاتبان ، كما جاء في الصحيح : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم :

كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون " {[15473]} وفي الحديث الآخر : " إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ، فاستحيوهم وأكرموهم " {[15474]} .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } والمعقبات من أمر الله ، وهي الملائكة .

وقال عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خَلَّوا عنه .

وقال مجاهد : ما من عبد إلا له{[15475]} مَلَك موكل ، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال الملك : وراءك إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه .

وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } قال : ذلك{[15476]} ملك من ملوك الدنيا ، له حرس من دونه حرس .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعني : ولي الشيطان ، يكون عليه الحرس . وقال عِكْرِمة في تفسيرها : هؤلاء الأمراء : المواكب من بين يديه ومن خلفه .

وقال الضحاك : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قال : هو السلطان{[15477]} المحترس{[15478]} من أمر الله ، وهم أهل الشرك .

والظاهر ، والله أعلم ، أن مُرَاد ابن عباس وعِكْرِمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبيد{[15479]} يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم .

وقد روى الإمام أبو جعفر ابن جرير هاهنا حديثًا غريبا جدا فقال :

حدثني المثنى ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري ، حدثنا علي بن جرير ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العبد ، كم معه من ملك{[15480]} ؟ فقال : " ملك على يمينك على حسناتك ، وهو آمر{[15481]} على الذي على الشمال ، إذا عملت حسنة كتبت عشرا ، فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : اكتب ؟ قال : لا لعله يستغفر الله ويتوب . فإذا قال ثلاثا قال :

نعم ، اكتب أراحنا الله منه ، فبئس القرين . ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا " . يقول الله : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] وملكان من بين يديك ومن خلفك ، يقول الله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك ، وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ، ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وملك قائم على فيك لا يَدَع الحية أن تدخل في فيك ، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي{[15482]} ينزلون{[15483]} ملائكة الليل على ملائكة النهار ؛ لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار ، فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل " {[15484]} .

قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا سفيان ، حدثني منصور ، عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة " . قالوا : وإياك يا رسول الله ، قال : " وإياي ، ولكن أعانني الله عليه{[15485]} فلا يأمرني إلا بخير " .

انفرد بإخراجه مسلم{[15486]} .

وقوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قيل : المراد حفظُهم له من أمر الله . رواه علي بن أبي طلحة ، وغيره ، عن ابن عباس . وإليه ذهب مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغيرهم .

وقال قتادة : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قال : وفي بعض القراءات : " يحفظونه بأمر الله " .

وقال كعب الأحبار : لو تجلَّى لابن آدم كل سهل وحزن ، لرأى كل شيء من ذلك شياطين{[15487]} لولا أن الله وكَّل بكم ملائكة عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم ، إذا لتُخُطّفتم .

وقال أبو أمامة{[15488]} ما من آدمي إلا ومعه ملك يَذُود عنه ، حتى يسلمه للذي قدر له .

وقال أبو مِجْلَز : جاء رجل من مُرَاد إلى علي ، رضي الله عنه ، وهو يصلي ، فقال : احترس ، فإن ناسًا من مراد يريدون قتلك . فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدّر ، فإذا جاء القَدَرُ خَليا بينه وبينه ، وإن الأجل جنة حَصِينة{[15489]} . وقال بعضهم : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } بأمر الله ، كما جاء في الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله ، أرأيت رُقَى نسترقي بها ، هل ترد من قَدَر الله شيئا ؟ فقال : " هي من قَدَر الله " {[15490]} .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن جَهْم ، عن إبراهيم قال : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل : أن قل لقومك : إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله ، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون ، ثم قال : إن مصداق{[15491]} ذلك في كتاب الله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }

وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه " صفة العرش " : حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي ، حدثنا أبو حنيفة اليمامي{[15492]} الأنصاري ، عن عمير بن عبد الله{[15493]} قال : خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة ، قال : كنت إذا سكتُّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني ، وإذا سألته عن الخبر أنبأني ، وإنه حدثني عن ربه ، عز وجل ، قال : " قال الرب : وعزتي وجلالي ، وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهتُ من معصيتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي " {[15494]} .

وهذا غريب ، وفي إسناده من لا أعرفه .


[15470]:- في ت : "الأنواء".
[15471]:- زيادة من ت.
[15472]:- في ت : "وآخر".
[15473]:- صحيح البخاري برقم (555 ، 7429) وصحيح مسلم برقم (632).
[15474]:- رواه الترمذي في السنن برقم (2800) من طريق ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، رضي الله عنه ، مرفوعا ، وأوله : "إياكم والتحري فإن معكم". الحديث. وقال الترمذي : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
[15475]:- في ت ، أ : "به".
[15476]:- في ت ، أ : "ذكر".
[15477]:- في ت : "الشيطان".
[15478]:- في أ : "المحروس".
[15479]:- في ت ، أ : "للعبد".
[15480]:- في ت ، أ : "كم ملك معه".
[15481]:- في ت ، أ : "وهو أمين".
[15482]:- في ت ، أ : "على كل بني آدم".
[15483]:- في ت ، أ : "يبدلون".
[15484]:- تفسير الطبري (16/370).
[15485]:- في ت ، أ : "ولكن الله أعانني عليه".
[15486]:- المسند (1/397) وصحيح مسلم برقم (2814)
[15487]:- في ت ، أ : "من ذلك ساء نفسه".
[15488]:- في أ : "أبو أسامة".
[15489]:- رواه الطبري في تفسيره (16/378).
[15490]:- رواه الترمذي في السنن برقم (2065) من حديث أبي خزامة وقال : "حديث حسن".
[15491]:- في ت ، أ : "تصديق".
[15492]:- في هـ ، ت ، أ : "اليماني" والصواب ما أثبتناه.
[15493]:- في هـ ، ت ، أ : "عبد الملك" ، والصواب ما أثبتناه.
[15494]:- صفة العرش برقم (19) والهيثم مجهول وشيخه لم أجد له ترجمة.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ} (11)

{ له } لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب . { معقّبات } ملائكة تعتقب في حفظه ، جمع معقبة من عقبه مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه كأن بعضهم يعقب بعضا ، أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها ، أو اعتقب فأدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة ، أو لأن المراد بالمعقبات جماعات . وقرئ " معاقيبُ " جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من حذف إحدى القافين . { من بين يديه ومن خلفه } من جوانبه أو من الأعمال ما قدم وأخر . { يحفظونه من أمر الله } من بأسه متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له ، أو يحفظونه من المضار أو يراقبون أحواله من أجل أمر الله تعالى . وقد قرئ به وقيل من بمعنى الباء . وقيل من أمر الله صفة ثانية ل { معقبات } . وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه من قضاء الله تعالى . { إن الله لا يغيّر ما بقوم } من العافية والنعمة . { حتى يغيّروا ما بأنفسهم } من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مردّ له } فلا راد له فالعامل في { إذا } ما دل عليه الجواب . { وما لهم من دونه من والٍ } ممن يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء ، وفيه دليل على أن خلاف مراد الله تعالى محال .