تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

وقوله : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } أي : لا يحسبن{[6256]} البخيل أن جمعه المال ينفعه ، بل هو مَضّرة عليه في دينه - وربما كان - في دنياه .

ثم أخبر بمآل أمر ماله{[6257]} يوم القيامة فقال : " سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قال البخاري :

حدثنا عبد الله بن منير ، سمع أبا النضر ، حدثنا عبد الرحمن - هو ابن عبد الله بن دينار - عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن أبي هُريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان ، يُطَوّقُه يوم القيامة ، يأخذ {[6258]} بلِهْزِمَتَيْه - يعني بشدقَيْه - يقول : أنا مَالُكَ ، أنا كَنزكَ " ثم تلا هذه الآية : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } إلى آخر الآية .

تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه ، وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القَعْقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، به{[6259]} .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حُجَين بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمَر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الَّذِي لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُمَثِّلُ اللهُ لَهُ مَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبتَان ، ثم يُلْزِمهُ يطَوّقه ، يَقُول : أنَا كَنزكَ ، أنَا كَنزكَ " .

وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ، به{[6260]} ثم قال النسائي : وروايةُ عبد العزيز ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، أثبتُ من رواية عبد الرحمن ، عن أبيه عبد الله بن دينار ، عن أبي صالح ، عن أبى هريرة .

قلت : ولا منافاة بينهما{[6261]} فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين ، والله أعلم . وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويَه من غير وجه ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة . ومن حديث محمد بن أبي حميد ، عن زياد الخطمي ، عن أبي هريرة ، به .

حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن جامع ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " مَا مِنْ عَبْدٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إلا جُعِلَ لَهُ شُجَاعٌ أقْرَعُ يَتْبَعُهُ ، يَفِرّ منه وهو يَتْبَعُه فَيقُولُ : أنَا كَنْ " . ثُمَّ قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .

وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن جامع بن أبي راشد ، زاد الترمذي : وعبد الملك بن أعين ، كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة ، عن عبد الله بن مسعود ، به . ثم قال الترمذي : حسن صحيح . وقد رواه الحاكم في مستدركه ، من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري ، كلاهما عن أبي إسحاق السَّبيعي ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، به {[6262]}ورواه ابن جرير من غير وجه ، عن ابن مسعود ، موقوفا .

حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أمية بن بِسْطام ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنزا مُثِّلَ لَهُ شُجُاعًا أَقْرَعَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ زَبِيبَتَان ، يَتْبَعُه ويَقُولُ : مَنْ أَنْتَ ؟ وَيْلَكَ . فيقُولُ : أنَا كَنزكَ الَّذِي خَلَّفتَ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُه حَتَّى يُلْقِمَه يَدَه فَيقْضِمَها ، ثم يَتْبَعه سَائِر جَسَ " . إسناده جيد قوي ولم يخرجوه{[6263]} .

وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البَجَلي{[6264]} ورواه ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث بَهْز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَأْتِي الرَّجُلُ مَولاهُ فيَسْأله من فَضْلِ مَالِهِ{[6265]} عِنْدَهُ ، فَيَمْنَعهُ إيَّاهُ ، إلا دُعِي لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجاعٌ يَتَلَمَّظُ فَضْلَهُ الَّذِي مَنَعَ " . لفظ ابن جرير{[6266]} .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن أبي قَزَعة ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمه ، فيَسْأله من فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ عِنْدَهُ ، فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْه ، إلا أخُرِج له من جَهَنَّم شُجَاعٌ يَتَلَمَّظ ، حتى يُطوّقه " .

ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزَعَة - واسمه حُجَيْر{[6267]} بن بَيان - عن أبي مالك العبدي موقوفا . ورواه من وجه آخر عن أبي قَزَعَة مرسلا{[6268]} .

وقال العَوْفي عن ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب الذين بَخِلُوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها .

رواه ابن جرير . والصحيح الأول ، وإن دخل هذا في معناه . وقد يقال : [ إن ]{[6269]} هذا أولى{[6270]} بالدخول ، والله أعلم .

وقوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ، فإن الأمور كُلَّها مرجعها إلى الله عز وجل . فقدموا لكم من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : بِنياتِكم وضمائركم .


[6256]:في: "تحسبن".
[6257]:في أ: "أمره إليه".
[6258]:في أ، و: "فيأخذ".
[6259]:صحيح البخاري برقم (1403، 4565).
[6260]:المسند (2/98) وسنن النسائي (5/38).
[6261]:في و: "بين الروايتين".
[6262]:المسند (1/377) وسنن الترمذي برقم (3012) وسنن النسائي (5/11) وسنن ابن ماجة برقم (1784) والمستدرك (2/298).
[6263]:عزاه إلى أبي يعلى في المطالب العالية الحافظ ابن حجر (1/254) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2255) وابن حبان في صحيحه برقم (803) "موارد"والبزار في مسنده (1/418) "كشف الأستار" والطبراني في المعجم الكبير (2/91) والحاكم في المستدرك (1/338) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، كلهم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. وقال البزار: "إسناده حسن".
[6264]:المعجم الكبير (2/322) ولفظه: "ما من ذي رحم يأتي رحمه فيسأله فضلا أعطاه الله إياه فيبخل عليه إلا أخرج له يوم القيامة من جهنم حية يقال لها: شجاع يتلمظ فيطوف به". قال الهيثمي في المجمع (8/154): "رواه الطبراني في الأوسط والكبير وإسناده جيد".
[6265]:في ر، أ، و: "مال".
[6266]:تفسير الطبري (7/435) ورواه أحمد في مسنده (5/3) والنسائي في السنن (1/358).
[6267]:في أ، و: "حجر" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
[6268]:تفسير الطبري (7/434).
[6269]:زيادة من أ، و.
[6270]:في أ: "روى".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبۡخَلُونَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ هُوَ خَيۡرٗا لَّهُمۖ بَلۡ هُوَ شَرّٞ لَّهُمۡۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِۦ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (180)

{ ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم } القراءات فيه على ما سبق . ومن قرأ بالتاء قدر مضافا ليتطابق مفعولاه أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم ، وكذا من قرأ بالياء إن جعل الفاعل ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو من يحسب وإن جعله الموصول كان المفعول الأول محذوفا لدلالة يبخلون عليه أي ولا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرا لهم . { بل هو } أي البخل . { شر لهم } لاستجلاب العقاب عليهم . { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } بيان لذلك ، والمعنى سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق ، وعنه عليه الصلاة والسلام " ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعله الله شجاعا في عنقه يوم القيامة " . { ولله ميراث السماوات والأرض } وله ما فيهما مما يتوارث ، فما لهؤلاء يبخلون عليه بماله ولا ينفقونه في سبيله ، أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله بهلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والعقوبة . { والله بما تعملون } من المنع والإعطاء . { خبير } فمجازيهم . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالتاء على الالتفات وهو أبلغ في الوعيد .