قال عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن الأعمش ومنصور ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، في قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ ] }{[12369]} الآية ، قال : هو رجل من بني إسرائيل ، يقال له : بَلْعم بن أبَرَ . وكذا رواه شعبة وغير واحد ، عن منصور ، به .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12370]} هو صيفي بن الراهب .
قال قتادة : وقال كعب : كان رجلا من أهل البلقاء ، وكان يعلم الاسم الأكبر ، وكان مقيما ببيت{[12371]} المقدس مع الجبارين .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12372]} هو رجل من أهل اليمن ، يقال له : بَلْعَم ، آتاه الله آياته فتركها .
وقال مالك بن دينار : كان من علماء بني إسرائيل ، وكان مجاب الدعوة ، يقدمونه في الشدائد ، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مَدْين يدعوه إلى الله ، فأقطعه وأعطاه ، فتبع دينه وترك دين موسى ، عليه السلام .
وقال سفيان بن عيينة ، عن حُصَين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12373]} هو بلعم بن باعر . وكذا قال مجاهد وعكرمة .
وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[12374]} قال : هو بلعام - وقالت ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت .
وقال شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما ]{[12375]} في قوله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ [ آيَاتِنَا ] }{[12376]} قال : هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت .
وقد روي من غير وجه ، عنه وهو صحيح إليه ، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه ، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ، ولكنه لم ينتفع بعلمه ، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته ، وظهرت لكل من له بصيرة ، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه ، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة ، قبحه الله [ تعالى ]{[12377]} {[12378]} وقد جاء في بعض الأحاديث : " أنه ممن آمن لسانه ، ولم يؤمن قلبه " ؛ فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة ، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } قال : هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها واحدة . قال : فلك واحدة ، فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل . فدعا الله ، فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فلما علمت أن{[12379]} ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، وأرادت شيئًا آخر ، فدعا الله أن يجعلها كلبة ، فصارت كلبة ، فذهبت دعوتان . فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله ، فعادت كما كانت ، فذهبت الدعوات الثلاث ، وسميت البسوس . {[12380]} غريب .
وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة ، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل ، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو رجل من مدينة الجبارين ، يقال له : " بلعام " {[12381]} وكان يعلم اسم الله الأكبر .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيره من علماء السلف : كان [ رجلا ]{[12382]} مجاب الدعوة ، ولا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه .
وأغرب ، بل أبعد ، بل أخطأ من قال : كان قد{[12383]} أوتي النبوة فانسلخ منها . حكاه ابن جرير ، عن بعضهم ، ولا يصح{[12384]}
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما نزل موسى بهم - يعني بالجبارين - ومن معه ، أتاه يعني بلعام{[12385]} - أتاه بنو عمه وقومه ، فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا ، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه . قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ، ذهبت دنياي وآخرتي . فلم يزالوا به حتى دعا عليهم ، فسلخه الله ما كان عليه ، فذلك قوله تعالى : { فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ [ مِنَ الْغَاوِينَ ] }{[12386]}
وقال السدي : إن الله لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [ المائدة : 26 ] بعث يوشع بن نون نبيا ، فدعا بني إسرائيل ، فأخبرهم أنه نبي ، وأن الله [ قد ]{[12387]} أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدقوه . وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له : " بلعم " وكان عالمًا ، يعلم الاسم الأعظم المكتوم ، فكفر - لعنه الله - وأتى الجبارين وقال لهم : لا ترهبوا بني إسرائيل ، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون ! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا ، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء ، يعظمهن{[12388]} فكان ينكح أتانا له ، وهو الذي قال الله تعالى{[12389]} { فَانْسَلَخَ مِنْهَا }
وقوله : { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } أي : استحوذ عليه وغلبه على أمره ، فمهما أمره امتثل وأطاعه ؛ ولهذا قال : { فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } أي : من الهالكين الحائرين{[12390]} البائرين .
وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا محمد بن بكر ، عن الصلت بن بَهْرام ، حدثنا الحسن ، حدثنا جُنْدُب البجلي في هذا المسجد ؛ أن حذيفة - يعني بن اليمان ، رضي الله عنه - حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مما أتخوف عليكم رجُل قرأ القرآن ، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رِدْء الإسلام اعتراه{[12391]} إلى ما شاء الله ، انسلخ منه ، ونبذه وراء ظهره ، وسعى على جاره بالسيف ، ورماه بالشرك " . قال : قلت : يا نبي الله ، أيهما أولى بالشرك : المرمي أو الرامي ؟ قال : " بل الرامي " .
هذا إسناد جيد{[12392]} والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين ، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء ، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وغيرهما .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتل يا محمد على قومك نبأ الذي آتيناه آياتنا، يعني خبره وقصته...إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبر رجل كان الله آتاه حججه وأدلته، وهي الآيات. وقد دللنا على أن معنى الآيات الأدلة والأعلام فيما مضى بما أغنى عن إعادته، وجائز أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك بَلْعَم، وجائز أن يكون أمية [بن أبي الصلت]، وكذلك الآيات إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه، فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية، وعناه بها فجائز أن يكون الذي كان أوتيها بلعم، وجائز أن يكون أمية، لأن أمية كان فيما يقال قد قرأ من كتب أهل الكتاب، وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على من أمر نبيّ الله عليه الصلاة والسلام أن يتلو على قومه نبأه أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوّة، فغير جائز أن يكون معنيا به أمية لأن أمية لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئا من ذلك. ولا خبر بأيّ ذلك المراد وأيّ الرجلين المعنيّ يوجب الحجة ولا في العقل دلالة على أن ذلك المعنيّ به من أيّ. فالصواب أن يقال فيه ما قال الله، ويقرّ بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله.
"فانْسَلَخَ مِنْها" فإنه يعني: خرج من الآيات التي كان الله آتاها إياه، فتبرأ منها... عن ابن عباس، قال: كان الله آتاه آياته فتركها... ابن عباس: "فانْسَلَخَ مِنْها" قال: نزع منه العلم.
وقوله: "فَأتْبَعَهُ الشّيْطانُ" يقول: فصيره لنفسه تابعا ينتهي إلى أمره في معصية الله، ويخالف أمر ربه في معصية الشيطان وطاعة الرحمن.
وقوله: "فَكانَ مِنَ الغاوينَ" يقول: فكان من الهالكين لضلاله وخلافه أمرَ ربه وطاعة الشيطان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها}... لا ندري في من نزلت؟ وهو في جميع مكذبّي الآيات، وليس يجب أن نخص997 واحدا، أو يشار إلى أحد نزل فيه. ولكن نقول: إنها نزلت في جميع مكذبي الآيات.
وقوله تعالى: {فانسلخ منها} خرج منها ونزع منها، وقيل: تركها، وكله واحد. ثم يحتمل {فانسلخ منها} أي كانوا قبلوها مرة، ثم ردّوها من بعد القبول. ويحتمل أن لم يقبلوها ابتداء، فخرجوا منها وكذّبوها.
وقوله تعالى: {فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} فيه دلالة أن الله لا يُتبع الشيطان أحدا ولا يزيغه إلا بعد ما كان منه الاختيار للضلال والميل إليه حين قال: {فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} إنما أتبع الشيطان بعد ما كان منه الانسلاخ والنّزع...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال قتادة: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله، فذلك قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا}...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشيطان صيره لنفسه تابعاً بإجابته له حين أغواه. والثاني: أن الشيطان متبع من الإنس على ضلالته من الكفر. والثالث: أن الشيطان لحقه فأغواه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الحقُّ -سبحانه- يظهر الأعداء في دار الخُلَّة ثم يردُّهم إلى سابق القسمة، ويُبْرِزُ الأولياء بنعتِ الخلاف والزَّلَّة، ثم يغلب عليهم مقسومات الوصلة. ويقال أقامه في محل القربة، ثم أبرز له من مكامن المكر ما أعدَّ له من سابق التقدير؛ فأصبح والكلُّ دونه رتبة، وأمسى والكلب فوقه -مع خساسته... ويقال ليست العِبْرَةُ بما يلوح في الحال، إنما العبرة بما يؤول إليه في المآل...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
تقدير الكلام: أنا أنعمنا على هذا العبد بالنعم العظام، والأيادي الجسام في باب الدين، بما مكناه في ذلك من تحصيل الرتبة الكبيرة، والمنزلة الرفيعة على بابنا ويصير رفيعا عندنا، عظيم القدر، كبير الجاه، ولكنه جهل قدر نعمتنا، فمال إلى الدنيا الخسيسة الحقيرة، وآثر شهوة نفسه الدنيئة الرديئة، ولم يعلم أن الدنيا كلها لا تزن عند الله أدنى نعمة من نعم الدين، ولا تساوي عنده جناح بعوضة، وكان في ذلك بمنزلة الكلب الذي لا يعرف الإكرام من الإهانة، والرفعة من الحقارة، وإنما الكرامة كلها عنده في كسرة يطعم، أو عراق مائدة يرمي إليه، سواء تقعده على سرير معك أو تقيمه في التراب والقذر بين يديك، فهمته وكرامته ونعمته كلها في ذلك. فهذا العبد السوء إذ جهل قدر نعمتنا، ولم يعرف حق ما آتيناه من كرامتنا وكلت بصيرته، وساء في مقام القربة أدبه بالالتفات إلى غيرنا، والاشتغال عن ذكر نعمتنا، بدنيا حقيرة ولذة خسيسة، فنظرنا إليه نظر السياسة، وأحضرناه ميدان العدل وأمرنا فيه بحكم الجبروت فسلبناه جميع خلعنا وكرماتنا، ونزعنا من قلبه معرفتنا، فانسلخ عاريا عن جميع ما آتيناه من فضلنا، فصار كلبا طريدا، أو شيطانا رجيما، نعوذ بالله، ثم نعوذ بالله من سخطه وأليم عقابه، إنه رؤوف رحيم...
... أما قوله: {فأتبعه الشيطان}... قال أهل المعاني: المقصود منه بيان أن من أوتي الهدى، فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى، ومال إلى الدنيا، حتى تلاعب به الشيطان كان منتهاه إلى البوار والردى، وخاب في الآخرة والأولى، فذكر الله قصته ليحذر الناس عن مثل حالته...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} أي {واتلُ} على من كان حاضراً من كفار اليهود وغيرهم ولما كان تعالى قد ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته وذكر إقرارهم بذلك وإشهادهم على أنفسهم ذكر حال من آمن به، ثم بعد ذلك كفر كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطلعوا عليه من كتب الله المنزلة وتبشيرها به، وذكر صفاته فلما بعث كفروا به...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فشبه سبحانه من أتاه كتابه، وعلمه العلم الذي منعه غيره، فترك العمل به واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق: فالكلب الذي هو من أخس الحيوانات، وأوضعها قدرا، وأخسها نفسا، وهمته لا تتعدى بطنه. وأشدها شرها وحرصا. ومن حرصه: أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم، ويستروح حرصا وشرها، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم، والعذرة أحب إليه من الحلوى، وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا واحدا يتناول منها شيئا إلا هر عليه وقهره، لحرصه وبخله وشرهه.
ومن عجيب أمره وحرصه: أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية، وحال زرية نبحه، وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته. وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة: وضع له خطمه بالأرض، وخضع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه: بالكلب في حال لهثه: سر بديع، وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه: إنما كان لشدة لهفه على الدنيا، لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له: إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده: أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث وهكذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا، وترك اللهف عليها، فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع، وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثا: يلهث قائما، وقاعدا، وماشيا، وواقفا، وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث.
فهكذا مشبهه: شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث.
قال مجاهد: وذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن تركته لم يهتد إلى خيرا كالكلب إن كان رابضا، لهث، وإن طرد لهث...
وقال أبو محمد بن قتيبة: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال الصحة، وحال المرض، والعطش.
فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، وقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال، كالكلب إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث..
ونظيره قوله سبحانه: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} [الأعراف: 193].
وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعاني:
فمنها: قوله: {آتيناه آياتنا} فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته، فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه ثم قال: {فانسلخ منها} أي خرج منها، كما تنسلخ الحية من جلدها، وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم.
ولم يقل: فسلخناه منها:؛ لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.
ومنها: قوله سبحانه {فأتبعه الشيطان} أي لحقه وأدركه، كما قال في قوم فرعون: {فأتبعوهم مشرقين} [الشعراء: 60] وكان محفوظا محروسا بآيات الله محمي الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرة وخطفة، فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته {فكان من الغاوين} العاملين بخلاف علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.
ومنها: أنه سبحانه قال: {ولو شئنا لرفعناه بها} فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العلم، فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره، وقصد مرضاة الله، فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه، ولم ينفعه به، فنعوذ بالله من علم لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع، لا يرفع أحد به رأسا، فإن الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه.
والمعنى: لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ولو شئنا لرفعناه بعمله.
بها وقالت طائفة: الضمير في قوله «لرفعناه» عائد على الكفر. والمعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا. قال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.
وهذا المعنى حق، والأول هو مراد الآية. وهذا من لوازم المراد.
وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية، فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها.
وقوله: {ولكنه أخلد إلى الأرض} قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض.
وقال مجاهد: سكن، وقال مقاتل رضي بالدنيا، وقال أبو عبيدة: لزمها وأبطأ.
والمخلد من الرجال: هو الذي يبطئ مشيته، ومن الدواب: التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته.
وقال الزجاج: خلد وأخلد، وأصله من الخلود. وهو الدوام والبقاء، ويقال: «أخلد فلان بالمكان»إذا أقام به...قلت: ومنه قوله تعالى: {يطوف عليهم ولدان مخلدون} [الواقعة: 17] أي قد خلقوا للبقاء، لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سن واحد أبدا...
وقوله: {واتبع هواه} قال الكلبي: اتبع مسافل الأمور، وترك معاليها.
وقال أبو روق: اختار الدنيا على الآخرة، وقال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه...
فإن قيل: الاستدراك «بلكن» يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها، أو ينفي ما أثبت، كما تقول: لو شئت لأعطيته، لكني لم أعطه ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته، فالاستدراك يقتضي: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ، أو لم نرفع، فكيف استدرك بقوله: {ولكنه أخلد إلى الأرض} بعد قوله: {ولو شئنا لرفعناه بها}؟
قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أن مضمون قوله: {ولو شئنا لرفعناه بها} أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: من إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنه آثر الدنيا، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا مثل ضربه الله تعالى للمكذبين بآيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أيدها به من الآيات العقلية والكونية، وهو مثل من آتاه الله آياته فكان عالما بها حافظا لقواعدها وأحكامها، قادرا على بيانها والجدل بها، ولكنه لم يؤت العمل مع العلم، بل كان عمله مخالفا لعلمه تمام المخالفة، فسلبها لأن العلم الذي لا يعمل به لا يلبث أن يزول فأشبه الحية التي تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض...أو كان في التباين بين علمه وعمله كالمنسلخ من العلم التارك له كالثوب الخلق يلقيه صاحبه والثعبان يتجرد من جلده حتى لا يبقى له به صلة... فحاصل معنى المثل أن المكذبين بآيات الله تعالى المنزلة على رسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه على إيضاحها بالحجج والدلائل كالعالم الذي حرم ثمرة الانتفاع من علمه لأن كلا منهما لم ينظر في الآيات نظر تأمل واعتبار وإخلاص.
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} التلاوة القراءة وإلقاء الكلام الذي يعاد ويكرر للاعتبار به، والضمير في عليهم للناس المخاطبين بالدعوة وأولهم كفار مكة...
وقيل لليهود لأن المثل تابع لقصة موسى في السورة... {فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين} أي فترتب على انسلاخه منها باختياره أن لحقه الشيطان فأدركه وتمكن من الوسوسة له إذ لم يبق لديه من نور العلم والبصيرة ما يحول دون قبول وسوسته، وأعقب ذلك أن صار من الغاوين أي الفاسدين المفسدين... {ولو شئنا لرفعناه بها} أي ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات إلى درجات الكمال والعرفان، التي تقرن فيها العلوم بالأعمال، {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] – لفعلنا بأن تخلق له الهداية خلقا، ونحمله عليها طوعا أو كرها، فإن ذلك لا يعجزنا، وإنما هو مخالف لسنتنا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكمثل للانحراف عن سواء الفطرة، ونقض لعهد الله المأخوذ عليها، ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها.. ذلك الذي آتاه الله آياته، فكانت في متناول نظره وفكره؛ ولكنه انسلخ منها، وتعرى عنها ولصق بالأرض، واتبع الهوى؛ فلم يستمسك بالميثاق الأول، ولا بالآيات الهادية؛ فاستولى عليه الشيطان؛ وأمسى مطروداً من حمى الله، لا يهدأ ولا يطمئن ولا يسكن إلى قرار...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أعقب ما يُفيد أن التوحيد جعل في الفطرة بذكر حالة اهتداء بعض الناس إلى نبذ الشرك في مبدأ أمره ثم تعرّض وساوس الشيطان له بتحسين الشرك. ومناسبتُها للتي قبلها إشارة العبرة من حال أحد الذين أخذ الله عليهم العهد بالتوحيد والامتثال لأمر الله، وأمده الله بعلم يعينه على الوفاء بما عاهد الله عليه في الفطرة، ثم لم ينفعه ذلك كله حين لم يقدر الله له الهدى المستمر. وشأن القصص المفتتحة بقوله: {واتل عليهم} أن يقصد منها وعظ المشركين بصاحب القصة بقرينة قوله: {ذلك مثل القوم}... ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قوماً تغلب عليهم الأمية فأراد الله أن يبلّغ إليهم من التعليم ما يُساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة،...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... إن هذا مثل من تحيط به آيات الله التي تدعم فطرته التي فطر الناس عليها، فلا يلتفت إلى دلالتها، ويتركها منسلخا عما تدعو إليه كما ينسلخ اللابس من ثوبه الذي يستره، ويجمله، وينحط إلى مهاوي الشيطان. هذا، وإن كتب التفسير في هذه الآية مملوءة بأساطير يهودية لم تثبت بسند صحيح يصلح تفسيرا للقرآن، ولذلك ضربنا عن ذكرها صفحا؛ ذلك أنهم زعموا أن قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه} يتعرض لقصة شخص معين، فاستعانوا بالإسرائيليات، ليعلموا من هو. والحقيقة أنه ليس بشخص معين، إنما هو تصوير لمن تأتيه الآيات السابقات بالنور فيتركها. وزعموا أن قوله تعالى: {فاقصص القصص} ففهموا من هذا أنها قصة لها أشخاص ورجال وحوادث، فاستعاروها من بني إسرائيل، وهذا لا يساعده النص، إنما النص في قصص المثل ذاته؛ ولذلك قال تعالى: {ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}...
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا}... والمهم ليس اسمه، المهم أن إنسانا آتاه الله آياته ثم انسلخ من الآيات، فبدلا من أن ينتفع بها صيانة لنفسه، وتقربا إلى ربه {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} واتبع هواه ومال إلى الشيطان...
و كلمة "انسلخ "دليل على أن الآيات محيطة بالإنسان إحاطة قوية لدرجة أنها تحتاج جبروت معصية لينسلخ الإنسان منها؛ ...
فكأن ربنا يوضح أنه سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الآيات فانسلخ منها، وهذا يعني أن الآيات تحيط بالإنسان كما يحيط الجلد بالجسم ليحفظ الكيان العام للإنسان؛ ... والله عز وجل يقول هنا: {آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا}. وكان يجب ألا يغفل عنها، لأن الإتيان نعمة جاءت ليحافظ الإنسان عليها، لكن الإنسان انسلخ من الآيات...
وإذا انسلخ من آتاه خبر الإيمان عن المنهج يقول الشيطان: إنه يصلح أن يتبعني، وكأن الشيطان حين يجد واحدا فيه أمل، فهو يجري وراءه مخافة أن يرجع إلى ما آتاه الله من الكتاب الحامل للمنهج،...
يقول الحق: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}... الغاوي والغَوي هو من يضل عن الطريق وهو الممعن في الضلال، ونعلم أن الهدى هو الطريق الموصل للغاية، ومن يشذ عن الطريق الموصل للغاية يضل أو يتوه في الصحراء. وهو الذي يُسمى "الغاوي"، ومادام من الغاوين عن منهج الله فالفساد ينشأ منه لأنه فسد في نفسه ويفْسد غيره...