تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

وقوله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } يعني : يوم القيامة ، حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسودّ وجوه أهل البِدْعَة والفرقة ، قاله ابن عباس ، رضي الله عنهما{[5467]} .

{ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } قال الحسن البصري : وهم المنافقون : { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } وهذا الوصف يَعُمّ كل كافر .


[5467]:في ر: "عنه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ فَأَمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه . وأما قوله : { فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } فإن معناه : فأما الذين اسودّت وجوههم ، فيقال لهم : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } . ولا بدّ ل «أمّا » من جواب بالفاء ، فلما أسقط الجواب سقطت الفاء معه ، وإنما جاز ترك ذكر «فيقال » لدلالة ما ذكر من الكلام عليه . وأما معنى قوله جلّ ثناؤه : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُني به ، فقال بعضهم : عُني به أهل قبلتنا من المسلمين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } . . . الاَية ، لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون ، ولقد ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ ، لَيَرِدَنّ عَليّ الحَوْضَ مِمّنْ صَحِبَنَي أقْوَامٌ ، حتى إذَا رُفِعُوا إليّ ورأيْتُهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي ، فلأَقُولَنّ رَبّ أصحابِي أصحَابِي ، فَلَيُقالَنّ إنّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ » . وقوله : { وأمّا الّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ } هؤلاء أهل طاعة الله والوفاء بعهد الله ، قال الله عز وجل : { فَفِي رحْمة اللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح ، عن أبي مجالد ، عن أبي أمامة : { فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُم بَعْدَ إيَمانِكُمْ } قال : هم الخوارج .

وقال آخرون : عنى بذلك كل من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بين في كتابه . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عليّ بن الهيثم ، قال : أخبرنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، في قوله : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } قال : صاروا يوم القيامة فريقين ، فقال لمن اسودّ وجهه وعيرهم : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } قال : هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم ، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم ، وأقرّوا كلهم بالعبودية ، وفطرهم على الإسلام ، فكانوا أمة واحدة مسلمين ، يقول : أكفرتم بعد إيمانكم ، يقول بعد ذلك الذي كان في زمان آدم ، وقال في الاَخرين : الذين استقاموا على إيمانهم ذلك ، فأخلصوا له الدين والعمل ، فبيض الله وجوههم ، وأدخلهم في رضوانه وجنته .

وقال آخرون : بل الذين عنوا بقوله : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } : المنافقون . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : { يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوه } . . . الاَية ، قال : هم المنافقون كانوا أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم .

وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار ، وأن الإيمان الذي يوبخون على ارتدادهم عنه ، هو الإيمان الذي أقرّوا به يوم قيل لهم : { ألَسْتُ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلَى شَهِدْنا } . وذلك أن الله جلّ ثناؤه جعل جميع أهل الاَخرة فريقين : أحدهما سوداء وجوهه ، والاَخر بيضاء وجوهه ، فمعلوم إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان أن جميع الكفار داخلون في فريق من سوّد وجهه ، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بيض وجهه ، فلا وجه إذا لقول قائل عنى بقوله : { أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } بعض الكفار دون بعض ، وقد عمّ الله جلّ ثناؤه الخبر عنهم جميعهم ، وإذا دخل جميعهم في ذلك ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ، ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة ، كان معلوما أنها المرادة بذلك .

فتأويل الاَية إذا : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيضّ وجوه قوم ، وتسودّ وجوه آخرين¹ فأما الذين اسودّت وجوههم ، فيقال : أجحدتم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتموه عليه ، بأن لا تشركوا به شيئا ، وتخلصوا له العبادة بعد إيمانكم ، يعني : بعد تصديقكم به ، { فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } يقول : بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق¹ وأما الذين ابيضت وجوههم ممن ثبت على عهد الله وميثاقه ، فلم يبدل دينه ، ولم ينقلب على عقبيه بعد الإقرار بالتوحيد ، والشهادة لربه بالألوهة ، وأنه لا إله غيره { ففي رَحْمَةِ اللّهِ } يقول : فهم في رحمة الله ، يعني في جنته ونعيمها ، وما أعدّ الله لأهلها فيها ، { هُمْ فيها خَالِدُونَ } أي باقون فيها أبدا بغير نهاية ولا غاية .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

والعامل في قوله { يوم } الفعل الذي تتعلق به اللام ، وفي قوله { ولهم عذاب عظيم } [ آل عمران : 105 ] قال الزجاج : تقديره ويثبت لهم عذاب عظيم .

قال القاضي : وذلك ضعيف من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن عظم العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أن يكون العامل قوله عذاب ، لأنه مصدر قد وصف ، «وبياض الوجوه » : عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله ، قال الزجّاج -وغيره- : ويحتمل عندي أن يكون ذلك من آثار الوضوء كما قال النبي عليه السلام ، ( أنتم الغر المحجلون من آثار الوضوء ) {[3404]} ، وأما «سواد الوجوه » ، فقال المفسرون هي عبارة عن اربدادها وإظلامها بغم العذاب ، ويحتمل أن يكون ذلك تسويداً ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقاً وهذه أقبح طلعة ، ومن ذلك قول بشار : [ البسيط ]

وَلِلْبَخِيلِ عَلى أَمْوالِهِ عِلَلٌ . . . زُرْقٌ العُيونِ عَلَيْها أَوْجُةٌ سُودُ{[3405]}

وقرأ يحيى بن وثاب ، «تِبيض وتِسود » بكسر التاء ، وقرأ الزهري ، «تبياض » وجوه ، «وتسواد » وجوه بألف ، وهي لغة ، ولما كان صدر هذه الآية ، إخباراً عن حال لا تخص أحداً معيناً ، بدىء بذكر البياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى ، فلما فهم المعنى ، وتعين له «الكفار والمؤمنون » ، بدىء بذكر الذين اسودت وجوههم للاهتمام بالتحذير من حالهم ، وقوله تعالى : { أكفرتم } تقرير وتوبيخ ، متعلق بمحذوف ، تقديره : فيقال لهم : أكفرتم ؟ وفي هذا المحذوف هو جواب «أما » ، وهذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدر لا يستغنى المعنى عنه ، كقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة }{[3406]} المعنى فأفطر فعدة وقوله تعالى : { بعد إيمانكم } يقتضي أن لهؤلاء الموقنين إيماناً متقدماً ، فاختلف أهل التأويل في تعيينهم ، فقال أبي بن كعب : الموقفون جميع الكفار ، والإيمان الذي قيل لهم بسببه { بعد إيمانكم } هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم { ألست بربكم ؟ قالوا بلى }{[3407]} وقال أكثر المتأولين : إنما عني بالتوقيف في هذه الآية أهل القبلة من هذه الأمة ، ثم اختلفوا ، فقال الحسن : الآية في المنافقين ، يؤمنون بألسنتهم ويكفرون بقلوبهم ، فيقال لهم : { أكفرتم بعد إيمانكم } ؟ أي ذلك الإيمان بألسنتهم ، وقال السدي : هي فيمن كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا ، وقال أبو أمامة{[3408]} : الآية في الخوارج وقال قتادة : الآية في أهل الردة ، ومنه الحديث : ليردن عليَّ الحوض رجال من أصحابي حتى إذا رفعوا إليّ اختلجوا فأقول : أصحابي أصحابي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : فسحقاً فسحقاً{[3409]} ، وفي بعض طرقه : فأناديهم : ألا هلم ، ألا هلم ، وذكر النحاس قولاً : إن الآية في اليهود ، وذلك أنهم آمنوا بصفة محمد واستفتحوا به ، فلما جاءهم من غيرهم كفروا ، فهذا كفر بعد إيمان ، وروي عن مالك أنه قال : الآية في أهل الأهواء .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

إن كان هذا ففي المختلجين{[3410]} منهم القائلين ما هو كفر ، وروي حديث : أن الآية في القدرية{[3411]} وقال أبو أمامة : سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنها في الحرورية{[3412]} ، وقد تقدم عنه أنها في الخوارج وهو قول واحد ، وما في قوله { بما كنتم } مصدرية .


[3404]:- أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة. (الجامع الصغير: 1/365)
[3405]:- هو بشار بن برد، أبو معاذ، لقبه المرعث، ولد بالبصرة ونشأ في بني عقيل مولعا بالاختلاف إلى الأعراب فشب فصيح اللسان صحيح البيان، كان يعيش في ظلال الشعر، ولد أكمه، وكان هجاء يتغزل بالنساء، ويهتك ستر الحشمة حتى نقم الناس منه وتمنوا موته فأمر المهدي العباسي صاحب شرطته أن يضربه بالسوط فضربه حتى مات سنة: 167 هـ وقد أوفى على السبعين "الأغاني 3/129" والبيت من قطعة يهجو بها العباس بن محمد العباسي. والعلل: المعاذير الذي يبديها البخيل ليصرف العفاة، وسميت عللا لأنها يبرهن بها على وجه منع العطاء. وشبه بشار هذه العلل بحرّاس يتخذها البخيل على أمواله على طريق المكنية وأثبت لها أعينا زرقا ووجوها سودا على طريقة التخييل. والمقصود من البيت: التشنيع وعلامة الشر، فقوله: "زرق العيون" تشويه وتوسيم بالشر (تعليق الشيخ الطاهر بن عاشور 3/128 على ديوان بشار).
[3406]:- من الآية (184) من سورة البقرة.
[3407]:- من الآية (172) من سورة الأعراف.
[3408]:- هو صدي بن عجلان بن الحارث الباهلي، مشهور بكنيته، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من الصحابة، وروى عنه جماعة منهم مكحول وشهر بن حوشب، سكن الشام وتوفي سنة 86هـ. "الإصابة 2/182".
[3409]:- أخرجه الإمام أحمد والبخاري، ومسلم، عن أنس وعن حذيفة. "الجامع الصغير 2/386".
[3410]:- المختلج: هو الذي نقل عن قومه ونسبه فيهم إلى قوم آخرين، اختلج الشيء انتزعه.
[3411]:- الحديث المشار إليه: هو حديث أبي أمامة الباهلي، وقد أخرجه الثعلبي في تفسيره من طريق عكرمة، وكذا الحاكم. وقد أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وعبد الرزاق وإسحاق والطبراني وأبو يعلى، كلهم من طريق أبي غالب. "تعليق الكشاف لابن حجر 1/399 ط: 1" وابن كثير في تفسيره 1/390". والقدرية: قوم يجحدون القدر، أو ينسبون إلى التكذيب بما قدر الله من الأشياء وينقسمون إلى اثنتي عشرة فرقة.
[3412]:- الحرورية: فرقة من الخوراج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه، تنسب إلى موضع بظاهر الكوفة يقال له حروراء، وتنقسم إلى اثنتي عشرة فرقة أيضا.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بذلك جلّ ثناؤه: أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه. وأما قوله: {فأمّا الّذِينَ اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ} فإن معناه: فأما الذين اسودّت وجوههم، فيقال لهم: {أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. ولا بدّ ل «أمّا» من جواب بالفاء، فلما أسقط الجواب سقطت الفاء معه، وإنما جاز ترك ذكر «فيقال» لدلالة ما ذكر من الكلام عليه. وأما معنى قوله جلّ ثناؤه: {أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ} فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُني به، فقال بعضهم: عُني به أهل قبلتنا من المسلمين...

وقال آخرون: عنى بذلك كل من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بين في كتابه وقال آخرون: بل الذين عنوا بقوله: {أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ}: المنافقون.

فتأويل الآية إذا: أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيضّ وجوه قوم، وتسودّ وجوه آخرين¹ فأما الذين اسودّت وجوههم، فيقال: أجحدتم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتموه عليه، بأن لا تشركوا به شيئا، وتخلصوا له العبادة بعد إيمانكم، يعني: بعد تصديقكم به، {فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} يقول: بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قوله تعالى: {وأما الذين ابيضت وجوههم...} وصف الله جل وعلا وجوه أهل الجنة بالبياض، لأن البياض هو غاية ما يكون به الصفاء، لأن كل الألوان تظهر في البياض، ووصف جل وعلا وجوه أهل النار بالسواد فيها، شبيه بالظلمة، وقد يحتمل أن يكون المراد من وصف البياض والسواد ليس البياض والسواد، ولكن البياض هو كناية عن شدة السرور والفرح، والسواد كناية عن شدة الحزن والأسف كقوله: {وجوه يومئذ مسفرة} {ضاحكة مستبشرة} [عبس: 38 و 39] ووصف وجوه أهل الجنة بالضحك وليس على حقيقة الضحك، ولكن [هو] بغاية السرور والفرح، وكذلك وجوه أهل الناس وصفها بالغبر والقتر، وهو وصف لشدة الحزن، والله أعلم. وقوله تعالى: {أكفرتم بعد إيمانكم} يحتمل وجوها: يحتمل {أكفرتم بعد} ما آمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بوجودكم بعثه وصفته في كتابكم؟...

ويحتمل قوله: {أكفرتم} أنتم بعد [أن] آمن منكم فرق؟ لأن منهم من قد آمن، ومنهم من قد كفر، فقال لمن كفر: {أكفرتم} أنتم، وقد آمن منكم نفر؟ ألا ترى أنه قال: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق}؟ [الأعراف: 159] والله أعلم، وقال: أراد بالإيمان الذي قالوا حين اخرجوا من ظهر آدم...

وقوله تعالى: {فذوقوا العذاب} في الظاهر أمر، لكنه في الحقيقة ليس بأمر لأن العذاب لا يذاق، وإنما يذوق هو، فكأنه قال: اعلموا أن عليكم العذاب.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ}... البياض من النور، والسواد من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه، وابيضت صحيفته وأشرقت. وسعى النور بين يديه وبيمينه. ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده، واسوّدتْ صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب. نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله {أَكْفَرْتُمْ} فيقال لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم. والظاهر أنهم أهل الكتاب. وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وبياض الوجوه: عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله، قال الزجّاج -وغيره-: ويحتمل عندي أن يكون ذلك من آثار الوضوء كما قال النبي عليه السلام، (أنتم الغر المحجلون من آثار الوضوء)، وأما «سواد الوجوه»، فقال المفسرون هي عبارة عن اربدادها وإظلامها بغم العذاب، ويحتمل أن يكون ذلك تسويداً ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم، على نحو حشرهم زرقاً وهذه أقبح طلعة...

ولما كان صدر هذه الآية، إخباراً عن حال لا تخص أحداً معيناً، بدئ بذكر البياض لشرفه، وأنه الحالة المثلى، فلما فهم المعنى، وتعين له «الكفار والمؤمنون»، بدئ بذكر الذين اسودت وجوههم للاهتمام بالتحذير من حالهم، وقوله تعالى: {أكفرتم} تقرير وتوبيخ، متعلق بمحذوف، تقديره: فيقال لهم: أكفرتم؟...وقوله تعالى: {بعد إيمانكم} يقتضي أن لهؤلاء الموقنين إيماناً متقدماً...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

أورد العلماءُ فيه خمسة أقوال:

الأول: أنهم المنافقون؛ قاله الحَسن.

الثاني: أنهم المرتدّون؛ قاله مجاهد.

الثالث: أهل الكتاب؛ قاله الزجاج.

الرابع: أنهم جميع الكفار؛ أقرّوا بالتوحيد في صُلْب آدم ثم كفَرُوا بعد ذلك؛ قاله أُبيّ بن كعب.

الخامس: رواه ابن القاسم عن مالك أنهم أهل الأهواء. قال مالك: وأي كلام أبْيَنُ مِنْ هذا؟

وهذا الذي قاله ممكن في معنى الآية، لكن لا يتعيَّنُ واحدٌ منها إلا بدليل.

والصحيح أنه عامّ في الجميع.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما أمر اليهود ببعض الأشياء ونهاهم عن بعض، ثم أمر المسلمين بالبعض ونهاهم عن البعض أتبع ذلك بذكر أحوال الآخرة، تأكيدا للأمر...

وفي الآية سؤالات...

[منها] أنه تعالى ذكر القسمين أولا فقال: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} فقدم البياض على السواد في اللفظ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض. والجواب عنه من وجوه: أحدها: أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب وثانيها: أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب...

وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض، لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن، ثم ختم بذكرهم أيضا تنبيها على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب...

[ومنها:] من المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟. والجواب:... أن المراد: أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة، والدليل على صحة هذا التأويل، قوله تعالى فيما قبل هذه الآية {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون} [آل عمران: 70] فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات، وقال للمؤمنين {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} [آل عمران: 105]. ثم قال ههنا {أكفرتم بعد إيمانكم} فكان ذلك محمولا على ما ذكرناه حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها، وعلى هذين الوجهين تكون الآية عامة في حق كل الكفار...

ثم قال تعالى: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}. وفيه فوائد الأولى: أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصا بمن كفر بعد إيمانه، فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافرا أصليا الثانية: قال القاضي قوله {أكفرتم بعد إيمانكم} يدل على أن الكفر منه لا من الله وكذا قوله {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

في قوله: {أكفرتم}. قالوا: تلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات، لأن قوله: فأما الذين اسودت غيبة، وأكفرتم مواجهة بما كنتم، الباء سببية وما مصدرية.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما قدم ما لأهل الكتاب المقدمين على الكفر على علم يوم القيامة في قوله {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم} [آل عمران: 77] وختم تلك الآية بأنهم لهم عذاب أليم واستمر حتى ختم هذه الآية بأنه مع ذلك عظيم؛ بين ذلك اليوم بقوله -بادئاً بما هو أنكى لهم من تنعيم أضدادهم: {يوم تبيض وجوه} أي بما لها من المآثر الحسنة {وتسود وجوه} بما عليها من الجرائر السيئة {فأما الذين اسودت وجوههم} بدأ بهم لأن النشر المشوش أفصح، ولأن المقام للترهيب وزيادة النكاية لأهله، فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً: {أكفرتم} يا سود الوجوه وعبيد الشهوات! {بعد إيمانكم} بما جبلتم عليه من الفطر السليمة ومكنتم به من العقول المستقيمة من النظر في الدلائل، ثم بما أخذ عليكم أنبياؤكم من العهود {فذوقوا العذاب} أي الأليم العظيم {بما كنتم تكفرون} وأنتم تعلمون، فإنكم في لعنة الله ماكثون...

تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :

{فَذُوقُوا العَذَابَ} أمر إهانة بالشروع في أول العذاب، ولا يزال يزداد، أو أمر تسخير بأن تذوق العذاب كل شعرة وكل جزء من أبدانهم، شبه العذاب بشيء يذاق {بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} بسبب كونكم تكفرون، أو عوضه.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

...المختار عند الأستاذ الإمام حمل العذاب في الآية على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جميعا. ويدل على ما يكون في الآخرة الآيات التي ذكرناها آنفا في بحث استعمال السواد والبياض في المعاني إذ فيها التصريح بذكر ذلك اليوم. وأما ما يكون في الدنيا فقد قال الأستاذ الإمام في بيانه ما مثاله: أما المتفقون الذين جمعوا عزائمهم وإرادتهم على العمل بما فيه مصلحة أمتهم وملتهم، واعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة التي فيها عزتهم وشرفهم، وأصبح كل واحد منهم عونا للآخر ووليا له، فأولئك تبيض وجوههم- أي تنبسط وتتلألأ بهجة وسرورا- عند ظهور أثر الاتفاق والاعتصام ونتائجهما وهي السلطة والعزة والشرف وارتفاع المكانة وسعة السلطان. وهذا الأثر ظاهر في الأمم المتفقة المتحدة التي يتألم مجموعها إذا أهين واحد منها في قطر من أقطار الأرض بعيد أو قريب، وتجيش جميعها مطالبة بنصره والانتقام له لأنه ظلم وأهين، ولا يصح عندها أن يكون منها ثم يظلم أو يهان وتكون هي راضية ناعمة البال. أولئك الأقوام ترى على وجوههم لألاء العزة وتألق البشر بالشرف والرفعة، وهو ما يعبر عنه ببياض الوجه. وأما المختلفون لافتراقهم في المقاصد، وتباينهم في المذاهب والمشارب، الذين لا يتناصرون ولا يتعاضدون ولا يهتم أفرادهم بالمصلحة العامة التي فيها شرف الملة وعزة الأمة، فهم الذين تسود وجوههم بالذلة والكآبة يوم تظهر عاقبة تفرقهم واختلافهم بقهر الأجنبي لهم ونزعه السلطة من أيديهم... (فأما الذين اسودت وجوههم) فيقال لهم (أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) قال الأستاذ الإمام: يقال لهم هذا القول في الدنيا وفي الآخرة: أما في الدنيا فلا بد أن يوجد في الناس من يقول للأمة التي وقع لها ذلك مثل هذا القول تغليظا عليها، لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين. وأما في الآخرة فيوبخهم الله في مثل هذا السؤال. وأقول: يجوز أن يكون المراد بيان الشأن لا الحكاية عن قول لساني وقع بالفعل، والمعنى أن شأنهم حينئذ أن يقال فيهم أو لهم ذلك القول. بل هذا هو المتعين عندي والكلام في الأمم لا في الأفراد. والكفر في عرف القرآن ليس خاصا بما يعده الفقهاء والمتكلمون كفرا... فمن عرف أن المتفرقين في الدين يعدون من الكفار والمشركين كما يقال (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) [الروم: 31] وقال عز وجل لنبيه (ص): (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) [الأنعام: 159] فمن تذكر هذا لا يتوقف في فهم الآية التي نفسرها، ولا يجيز لنفسه صرفها عن ظاهرها لأجل مطابقة عرف الفقهاء الذين ترجع مسائل الكفر بعد الإيمان عندهم إلى جحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، وفي معناه كل ما اعتقد المكلف أنه من الدين ثم كذبه. ولكن القرآن يعد الخروج من مقاصد الدين الحقيقية بالعمل من الكفر. وقد فهم السلف الصالح من الكتاب والسنة أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وله شعب كثيرة من أعظمها تحري العدل واجتناب الظلم (مثلا) فمن استرسل في الظلم حتى صار صفه له كان كافرا كما قال تعالى: (والكافرون هم الظالمون). فإذا كان الظالمون كافرين في عرفه فكيف لا يكون المتفرقون المختلفون كافرين والاعتصام بالوحدة وترك التفرق والاختلاف من أعظم شعبه بل ذلك هو أساسه الذي لا يثبت بناؤه إلا عليه. ولذلك وردت هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها عقب قوله: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) فإن ما قررته من وجوب الاعتصام والنهي عن التفرق أولا وآخرا وإناطة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمة قوية متحدة هو بيان السبيل التي يجب علينا سلوكها لنموت مسلمين.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يخبر تعالى عن حال يوم القيامة وما فيه من آثار الجزاء بالعدل والفضل، ويتضمن ذلك الترغيب والترهيب الموجب للخوف والرجاء فقال: {يوم تبيض وجوه} وهي وجوه أهل السعادة والخير، أهل الائتلاف والاعتصام بحبل الله {وتسود وجوه} وهي وجوه أهل الشقاوة والشر، أهل الفرقة والاختلاف، هؤلاء اسودت وجوههم بما في قلوبهم من الخزي والهوان والذلة والفضيحة، وأولئك أبيضت وجوههم، لما في قلوبهم من البهجة والسرور والنعيم والحبور الذي ظهرت آثاره على وجوههم كما قال تعالى: {ولقاهم نضرة وسرورا} نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم، وقال تعالى: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} {فأما الذين اسودت وجوههم} فيقال لهم على وجه التوبيخ والتقريع: {أكفرتم بعد إيمانكم} أي: كيف آثرتم الكفر والضلال على الإيمان والهدى؟ وكيف تركتم سبيل الرشاد وسلكتم طريق الغي؟ {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} فليس يليق بكم إلا النار، ولا تستحقون إلا الخزي والفضيحة والعار...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهنا يرسم السياق مشهدا من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية.. فنحن في مشهد هول. هول لا يتمثل في الفاظ ولا في أوصاف. ولكن يتمثل في آدميين أحياء. في وجوه وسمات.. هذه وجوه قد أشرقت بالنور، وفاضت بالبشر، فابيضت من البشر والبشاشة، وهذه وجوه كمدت من الحزن، وغبرت من الغم، واسودت من الكآبة.. وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه. ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب: (أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون!)..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وفي تعريف هذا اليوم بحصول بياض وجوه وسواد وجوه فيه، تهويل لأمره، وتشويق لما يرِد بعده من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضّة، والوجوه المسودّة: ترهيباً لفريق وترغيباً لفريق آخر. والأظهر أن عِلْم السامعين بوقوع تبييض وجوه وتسويد وجوه في ذلكَ اليوم حاصل من قبل: في الآيات النازلة قبل هذه الآية، مثل قوله تعالى: {ويوم القيامة ترى الَّذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة} [الزمر: 60] وقوله: {وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترَة} [عبس: 38 41].

والبياض والسواد بياض وسواد حقيقيان يوسم بهما المؤمن والكافر يوم القيامة، وهما بياض وسواد خاصّان لأن هذا من أحوال الآخرة فلا داعي لصرفه عن حقيقته.

وقوله تعالى: {فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم} تفصيل للإجمال السابق، سُلك فيه طريق النشَّر المعكوس، وفيه إيجاز لأنّ أصل الكلام، فأمّا الَّذين اسودّت وجوههم فهم الكافرون يقال لهم أكفرتم إلى آخره: {وأمّا الَّذين ابيضّت وجوههم فهم المؤمنون وفي رحمة الله هم فيها خالدون}.

أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :

بيّن في هذه الآية الكريمة أن من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة الكفر بعد الإيمان، وذلك في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية. وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكذب على اللَّه تعالى وهو قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ}. وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك اكتساب السيئات، وهو قوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الليل مظلما}، وبيّن في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكفر والفجور وهو قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ 40 تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ 41 أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ 42}. وهذه الأسباب في الحقيقة شيء واحد عبّر عنه بعبارات مختلفة، وهو الكفر باللَّه تعالى.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

... وليست القضية قضية صفة ذاتية عاديّة يُراد منها تقييم الإنسان من ناحية ذاتية، لأنَّ طبيعة القضية تتصل بالجانب العام الشامل لحياة الإنسان، أمّا ذلك الفلاح وهذا العذاب فإنَّما يبرزان بأعلى صفاتهما في مواجهة الإنسان للمصير في موقفه أمام اللّه عندما يتحدّد للإنسان مصيره من خلال انطباع أعماله على وجهه، فهناك النَّاس الذين تبيضُّ وجوههم بما عملوا من خير، من خلال ما يمثِّله من صفاء ونقاء وبياض ناصع؛ وهناك النَّاس الذين تسودُّ وجوههم بما عملوا من شرّ، من خلال ما يمثِّله من سواد وظلمة وقلق، وذلك هو قوله تعالى: [يوم تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوهٌ] وهذا تعبير إيحائي عن الحالة الروحية التي تترك تأثيراتها على الصورة البارزة للإنسان من خلال عناصرها الخاصّة في الذات، فإذا كانت الروح منفتحة على الجانب المشرق من النيّات الخيّرة والأعمال الصالحة، فإنَّ ذلك ينعكس على إشراقة الوجه نوراً وإشراقاً وبِشْراً، لأنَّ هذا الإنسان لا يشكو من عقدةٍ تثقل روحه وتشوّه صورته. وأمّا إذا كانت الروح منغلقةً على الخير ومنفتحةً على الشرّ في الدوافع والأعمال، فإنَّ الإنسان يبدو من خلالها شيطاناً في ملامحه، معبّراً في وجهه، مظلماً في ذاته. وهذا ما يوحي بالحقيقة الإنسانية في تأثير الواقع الداخلي في صورة الواقع الخارجي للإنسان، بحيثُ تتمثّل ملامحه الداخلية في ملامحه الخارجية في الصورة تارةً، وفي النظرة العامّة لحركته تارةً أخرى. وقد عبّر اللّه عن ذلك بطريقةٍ أخرى في صورة المؤمنين يوم القيامة في النور الذي يسعى بين أيديهم وبإيمانهم وذلك هو قوله تعالى: [يوم تبيضُّ وجوهٌ] وبإزاء هؤلاء نرى المنافقين والمنافقات غارقين في الظلمة يستجدون النور من المؤمنين والمؤمنات [وتسودُّ وجوهٌ]. وتزداد الصورة وضوحاً في مواجهة الموقف، فيبدو لنا هؤلاء الذين اسودّت وجوههم، فإذا بنا نلمح في أوضاعهم وتقارير أعمالهم وطبيعة السؤال الإنكاري الذي يوجّه إليهم: [فأمَّا الذين اسودَّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم] صورة النَّاس الذين ساروا في خطّ الإيمان فترة من الزمن، ولكنَّهم وقعوا تحت تأثير الضغوط الذاتية من الشهوات والأطماع والأضاليل، فانحرفوا عن الخطّ، ثُمَّ تحوّل انحرافهم إلى مواجهةٍ مضادّةٍ للخطّ نفسه عندما فرضت عليهم ذاتياتهم أن يقاوموه ليرضى عنهم أولياؤهم من الكافرين والضالّين... وفي هذا إيحاء دقيق من بعيد بأنَّ على الإنسان أن لا يستسلم للثقة بإيمانه في استرخاء كسول، يؤمن معه بأنَّه لا يتزعزع مهما كانت الظروف والضغوط، بل ينبغي له أن يحرسه بالفكر والتأمّل والقراءة والحوار والعمل، لأنَّ الكثيرين من النَّاس قد ضلّوا بعد الهدى، وكفروا بعد الإيمان تحت تأثير العوامل السلبية المتنوّعة المحيطة بهم... فحاق بهم العذاب نتيجة ذلك كلّه، وواجهوا النداء الحاسم من اللّه: [فذوقوا العذاب بما كنتم تكفُرونَ]...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الوجوه المبيضة والوجوه المسودة:

في تعقيب التحذيرات القوية التي تضمنتها الآيات السابقة بشأن التفرقة والنفاق والعودة إلى عادات الكفر ونعرات الجاهلية، جاءت الآيتان الحاضرتان تشيران إلى النتائج النهائية لهذا الارتداد المشؤوم إلى خُلُق الجاهلية وعاداتها، وتصرحان بأن الكفر والنفاق والتنازع والعودة إلى الجاهلية توجب سواد الوجه، فيما يوجب الثبات على طريق الإيمان والاتحاد، والمحبة والتآلف، بياض الوجوه، فتقول (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ففي يوم القيامة تجد بعض الناس وجوههم مظلمة سوداء، والبعض الآخر وجوههم نقية بيضاء ونورانية (فأما الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) فلماذا اخترتم طريق النفاق والفرقة والجاهلية على الاتحاد في ظلّ الإسلام، فذوقوا جزاءكم العادل، وأما المؤمنون فغارقون في رحمة الله (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون).

إن هاتين الآيتين تصرحان بأن المنافقين والمتفرقين بعد ما جاءتهم البينات هم المسودة وجوههم الذائقون للعذاب الأليم بسبب كفرهم، وأما المؤمنون المتآلفون المتحابون المتحدون فهم في رحمة الله ورضوانه مبيضة وجوههم.

ولقد قلنا مراراً إن ما يلاقيه الإنسان من الأوضاع والحالات، ومن الثواب والعقاب في الحياة الآخرة ليس في الحقيقة سوى أفكاره وأعماله وتصرفاته المجسمة التي قام بها في هذه الحياة الدنيا، فهما وجهان لعملة واحدة، إنه تجسم صادق ودقيق لما كان ينويه أو يعمله هنا ليس إلاَّ.

وبعبارة أخرى: إن لكل ما يفعله الإنسان في هذه الحياة آثاراً واسعة تبقى في روحه، وقد لا تدرك في هذه الحياة، ولكنها تتجلّى بعد سلسلة من التحولات في الآخرة، فتظهر بحقائقها الواقعية، وحيث إن جانب الروح يكون أقوى في الآخرة، إذ تشتد حاكميتها وسيادتها على الجانب الآخر من الكيان البشري من هنا يكون لتلك الآثار انعكاساتها حتّى على الجسد، فتبدو الآثار المعنوية للأعمال محسوسة كما يكون الجسد محسوساً لكلّ أحد.

فكما أن الإيمان والاتحاد يوجبان الرفعة وبياض الوجوه في هذا العالم، ويوجب العكس العكس، أي أن الكفر والاختلاف يوجبان للأُمة الكافرة المتفرقة سواد الوجه والذلة، فإن هذا البياض والسواد (المجازيين) في الدنيا يظهران في الآخرة بصورة حقيقية حيث يحشر المؤمنون المتحدون المتآلفون بيض الوجوه، بينما يحشر الكافرون المتفرقون المتخاصمون سود الوجوه.

وتلك حقيقة أشارت إليها آيات أخرى في القرآن الكريم في شأن من يتمادى في المعصية ويأتي بالذنب تلو الذنب، والإثم بعد الإثم إذ يقول سبحانه: (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً).

ويقول في شأن الذين يفترون على الله الكذب (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة).

وكلّ هذه الأُمور هي المردودات والآثار الطبيعية لما يأتيه الإنسان في عالم الدنيا من الأعمال.