والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن يبيض بعض الوجوه ويسود بعضها ونظير ذلك في القرآن :{ وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة }[ عبس :38-41 ] وفي أمثال هذه الألوان للمفسرين قولان : أحدهما - وإليه ميل أبي مسلم - : أن البياض مجاز عن الفرح والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى :{ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّاً }[ النحل :58 ] ولما سلم الحسن بن علي الأمر على معاوية قال له رجل : يا مسوّد وجوه المؤمنين . وتمام الخبر سوف يجيء إن شاء الله في تفسير سورة القدر ، ولبعض الشعراء في الشيب :
يا بياض القرون سودت وجهي *** عند بيض الوجوه سود القرون .
وثانيهما : أن السواد والبياض محمولان على ظاهرهما وهما النور والظلمة ، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة . فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وسعى النور بين يديه وبيمينه ، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكمده واسودت صحيفته وأحاطت به الظلمة من كل جانب .
قالوا : والحكمة في ذلك أن يعرف أهل الموقف كل صنف فيعظمونهم أو يصغرون بحسب ذلك ويحصل لهم بسببه مزيد بهجة وسرور أو ويل وثبور . وأيضاً إذا عرف المكلف في الدنيا أنه يحصل له في الآخرة إحدى الحالتين ازدادت رغبته في الطاعات وترك المحرمات . قلت : والتحقيق فيه أن والهيئات والأخلاق الحميدة أنوار ، والملكات والعادات الذميمة ظلمات ، وكل منهما لا يظهر آثارهما كما هي إلا بعد المفارقة إلى الآخرة { انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً }[ الحديد :13 ] واحتج أهل السنة بالآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر وإنه ليس ههنا منزلة بين المنزلتين ، لأنه قسم أهل القيامة إلى قسمين : مبيض الوجوه وهم المؤمنون ، ومسودها وهم الكافرون لقوله تعالى في آخر الآية { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } واعترض القاضي عليه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه ، وأيضاً لفظ وجوه نكرة فلا يفيد العموم . وأيضاً المذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ، ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين فكذا القول في الفساق . والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم ، فيكون الخطاب لجميع الكفار ؟ وأنه أيضاً جعل موجب العذاب في آخر الآية هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث إنه بعد الإيمان . فإن قيل : لم قدم البياض على السواد أوّلاً وعكس آخراً ؟ فالجواب بعد تسليم إفادة الواو الترتيب ، أنه بدأ بذكر أهل الثواب وختم بهم أيضاً تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال : " سبقت رحمتي غضبي " ولما في ذلك من رعاية حسن المطلع والمقطع وأنه فن بديع في الفصاحة . ومن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ؟ قال أبي بن كعب : هم جميع الكفار لأنهم آمنوا وقت الميثاق ، ورواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد أكفرتم بعدما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو ما نصبه الله من دلائل التوحيد والنبوة ؟ وقال عكرمة والأصم والزجاج : إنهم أهل الكتاب آمنوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكفروا به بعد بعثه . وقال قتادة : إنهم المرتدون . وقال الحسن : هم المنافقون . وقيل : هم الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " . ولما رأى أبو أمامة رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق دمعت عنياه ثم قال : كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء ، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء . فقال له أبو غالب : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم أسمعه ، إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبعاً ما حدثتكموه .
قال : فما شأنك دمعت عيناك ؟ قال : رحمة لهم . كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية . ثم أخذ بيده فقال : إن بأرضك منهم كثيراً فأعاذك الله منهم . هذا مما أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في جامعه . ولكن المشهور من مذهب أهل السنة أنّ الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة ، والاستفهام في قوله تعالى : { أكفرتم } بمعنى الإنكار . قال القاضي : وفيه وكذا في قوله : { ما كنتم تكفرون } دليل على أن الكفر منهم لا من الله . وقالت المرجئة : فيه دلالة على أن العذاب لا يكون إلا للكافر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.