غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

102

والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن يبيض بعض الوجوه ويسود بعضها ونظير ذلك في القرآن :{ وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة }[ عبس :38-41 ] وفي أمثال هذه الألوان للمفسرين قولان : أحدهما - وإليه ميل أبي مسلم - : أن البياض مجاز عن الفرح والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى :{ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّاً }[ النحل :58 ] ولما سلم الحسن بن علي الأمر على معاوية قال له رجل : يا مسوّد وجوه المؤمنين . وتمام الخبر سوف يجيء إن شاء الله في تفسير سورة القدر ، ولبعض الشعراء في الشيب :

يا بياض القرون سودت وجهي *** عند بيض الوجوه سود القرون .

وثانيهما : أن السواد والبياض محمولان على ظاهرهما وهما النور والظلمة ، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة . فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وسعى النور بين يديه وبيمينه ، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكمده واسودت صحيفته وأحاطت به الظلمة من كل جانب .

قالوا : والحكمة في ذلك أن يعرف أهل الموقف كل صنف فيعظمونهم أو يصغرون بحسب ذلك ويحصل لهم بسببه مزيد بهجة وسرور أو ويل وثبور . وأيضاً إذا عرف المكلف في الدنيا أنه يحصل له في الآخرة إحدى الحالتين ازدادت رغبته في الطاعات وترك المحرمات . قلت : والتحقيق فيه أن والهيئات والأخلاق الحميدة أنوار ، والملكات والعادات الذميمة ظلمات ، وكل منهما لا يظهر آثارهما كما هي إلا بعد المفارقة إلى الآخرة { انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً }[ الحديد :13 ] واحتج أهل السنة بالآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر وإنه ليس ههنا منزلة بين المنزلتين ، لأنه قسم أهل القيامة إلى قسمين : مبيض الوجوه وهم المؤمنون ، ومسودها وهم الكافرون لقوله تعالى في آخر الآية { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } واعترض القاضي عليه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه ، وأيضاً لفظ وجوه نكرة فلا يفيد العموم . وأيضاً المذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ، ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين فكذا القول في الفساق . والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم ، فيكون الخطاب لجميع الكفار ؟ وأنه أيضاً جعل موجب العذاب في آخر الآية هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث إنه بعد الإيمان . فإن قيل : لم قدم البياض على السواد أوّلاً وعكس آخراً ؟ فالجواب بعد تسليم إفادة الواو الترتيب ، أنه بدأ بذكر أهل الثواب وختم بهم أيضاً تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال : " سبقت رحمتي غضبي " ولما في ذلك من رعاية حسن المطلع والمقطع وأنه فن بديع في الفصاحة . ومن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ؟ قال أبي بن كعب : هم جميع الكفار لأنهم آمنوا وقت الميثاق ، ورواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد أكفرتم بعدما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو ما نصبه الله من دلائل التوحيد والنبوة ؟ وقال عكرمة والأصم والزجاج : إنهم أهل الكتاب آمنوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكفروا به بعد بعثه . وقال قتادة : إنهم المرتدون . وقال الحسن : هم المنافقون . وقيل : هم الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " . ولما رأى أبو أمامة رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق دمعت عنياه ثم قال : كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء ، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء . فقال له أبو غالب : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم أسمعه ، إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبعاً ما حدثتكموه .

قال : فما شأنك دمعت عيناك ؟ قال : رحمة لهم . كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية . ثم أخذ بيده فقال : إن بأرضك منهم كثيراً فأعاذك الله منهم . هذا مما أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في جامعه . ولكن المشهور من مذهب أهل السنة أنّ الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة ، والاستفهام في قوله تعالى : { أكفرتم } بمعنى الإنكار . قال القاضي : وفيه وكذا في قوله : { ما كنتم تكفرون } دليل على أن الكفر منهم لا من الله . وقالت المرجئة : فيه دلالة على أن العذاب لا يكون إلا للكافر .

/خ111