الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة . ويقال : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه ، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه . ويقال : إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه . ويقال : ذلك عند قوله تعالى : " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " {[3341]} [ يس : 59 ] . ويقال : إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده ، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم ، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون ، فيقول الله تعالى للمؤمنين : " من ربكم " ؟ فيقولون : ربنا الله عز وجل فيقول لهم : " أتعرفونه إذا رأيتموه " . فيقولون : سبحانه ! إذا اعترف عرفناه . {[3342]} فيرونه كما شاء الله . فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى ، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا ، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم ؛ وذلك قوله تعالى : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " . ويجوز " تِبْيَضّ وتِسْوَدّ " بكسر التائين ؛ لأنك تقول : ابيضت ، فتكسر التاء كما تكسر الألف ، وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب . وقرأ الزهري " يوم تبياض وتسواد " ويجوز كسر التاء أيضا ، ويجوز " يوم يبيض وجوه " بالياء على تذكير الجمع ، ويجوز " أجوه " مثل " أقتت " . وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم . واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم .

الثانية : واختلفوا في التعيين ، فقال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة .

قلت : وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " قال : ( يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة ) ذكره أبو بكر{[3343]} أحمد بن علي بن ثابت الخطيب . وقال فيه : منكر من حديث مالك . قال عطاء : تبيض وجوه المهاجرين والأنصار ، وتسود وجوه بني قريظة والنضير . وقال أبي بن كعب : الذين اسودت وجوههم هم الكفار ، وقيل لهم : أكفرتم بعد إيمانكم لإقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر . هذا اختيار الطبري . الحسن : الآية في المنافقين . قتادة هي في المرتدين . عكرمة : هم{[3344]} قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به ؛ فذلك قوله : " أكفرتم بعد إيمانكم " وهو اختيار الزجاج . مالك بن أنس : هي في أهل الأهواء . أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم : هي في الحرورية . وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال : ( هي في القدرية ) . روى الترمذي عن أبي غالب قال : رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على باب دمشق{[3345]} ، فقال أبو أمامة : كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء ، خير قتلى من قتلوه - ثم قرأ - " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " إلى آخر الآية . قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه . قال : هذا حديث حسن . وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني فرطكم{[3346]} على الحوض ، من مر علي شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا ، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم ) . قال أبو حازم{[3347]} : فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال : أهكذا سمعت من سهل بن سعد ؟ فقلت : نعم . فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : ( فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : سحقا سحقا لمن غير بعدي ) . وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجْلَون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ) . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتدعين منه المسودي الوجوه ، وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم ، كالخوارج على اختلاف فرقها ، والروافض على تباين ضلالها ، والمعتزلة على أصناف أهوائها ، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون ، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم ، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي ، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع ، كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية ، والخبر كما بينا ، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان . وقد قال ابن القاسم : وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء . وكان يقول : تمام الإخلاص تجنب المعاصي .

الثالثة : قوله تعالى : " فأما الذين اسودت وجوههم " في الكلام حذف ، أي فيقال لهم " أكفرتم بعد إيمانكم " يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى . ويقال : هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به . وقال أبو العالية : هذا للمنافقين ، يقال{[3348]} : أكفرتم في السر{[3349]} بعد إقراركم في العلانية . وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب ( أما ) لأن المعنى في قولك :( أما زيد فمنطلق ، مهما يكن من شيء فزيد منطلق ) .


[3341]:- راجع جـ15 ص 46.
[3342]:- هذه عبارة ابن الأثير، أي إذا وصف نفسه بصفة تحققه بها عرفناه في ب: إذا عرّفناه عرفناه، وفي هـ: إذا عرفناه عرفنا. وفي د: إذا رأيناه عرفناه.
[3343]:- كذا في د و ب وهـ وفي ز: أبو بكر محمد.
[3344]:- في هـ و د: هؤلاء قوم.
[3345]:- في صحيح الترمذي: "على درج مسجد دمشق"، في د وهـ: على برج دمشق.
[3346]:- الفرط (بفتحتين): الذي يتقدم الواردين ليصلح لهم الحياض.
[3347]:- أبو حازم هو سلمة بن دينار، أحد رجال سند هذا الحديث.
[3348]:- في د و ب و هـ: يقول.
[3349]:- في د و هـ و ب: مع.