التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

ثم حذر الله - تعالى - الناس من أهوال يوم القيامة ، وأمرهم بأن يتسلحوا بالإيمان وبالعمل الصالح حتى ينجوا من عذابه فقال : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ . . . }

قوله - تعالى - { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } : بياض الوجوه وسوادها محمولان على الحقيقة عند جمهور العلماء . وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يوجب ترك هذه الحقيقة فوجب الحمل على ذلك .

قال الألوسى : قال بعضهم يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفاً لهم وإظهارا لآثار أعمالهم فى ذلك الجمع . ويوسم أهل الباطل بضد ذلك .

والظاهر أن الابيضاض والأسوداد يكونان لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه ؛ لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه ، وهو أشرف أعضائه واختلف فى وقت ذلك فقيل : وقت البعث من القبور وقيل وقت قراءة الصحف " .

ويرى بعض العلماء أن بياض الوجوه هنا المراد منه لازمه وهو الفرح والسرور ، كما أن سوادها المراد منه لازمه أيضاً وهو الحون والغم وعليه يكون التعبير القرآنى محمولا على المجاز لا على الحقيقة .

قال الفخر الرازى ما ملخصه : وهذا مجاز مشهور قال - تعالى - { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } ويقال : لفلان عندى يد بيضاء وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه : ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل . . ويقال من وصل إليه مكروه : أربَدّ وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته . . . وعلى هذا فمعنى الآية : أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه ، فإن رأى ما يسره ابيض وجهه بمعنى أنه استبشر بنعم الله وفضله ، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة عليه اسود وجهه بمعنى أنه يشتد حزنه وغمه " .

والظرف " يوم " فى قوله { يَوْمَ تَبْيَضُّ } إلخ منصوب على أنه مفعول به بفعل محذوف والتقدير : اذكر يوم تبيض وجوه وتسود وجوه والمراد الاعتبار والاتعاظ ويجوز أن يكون العامل فيه قوله { عَظِيمٌ } فى قوله قبل ذلك { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . أى أولئك الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات لهم عذاب فى هذا اليوم الهائل الشديد الذي تبيض فيه وجوه المؤمنين وتسود فيه وجوه الكافرين والفاسقين .

وفى وصف هذا اليوم بأنه تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه تهويل لأمره . وتعظيم لشأنه وتشويق لما يرد بعد ذلك من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضة وأصحاب الوجوه المسودة ، وترغيب للمؤمنين فى الإكثار من التزود بالعمل الصاحل وترهيب للكافرين من التمادى فى كفرهم وضلالهم .

والتنكير فى قوله { وُجُوهٌ } للتكثير . أى تبيض وجوه عدد كثير من المؤمنين وتسود وجوه كثيرة للكافرين .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } وقوله - تعالى - { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } قال صاحب الكشاف : " البياض من النور والسواد من الظلمة .

فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته ، واشرقت ، وسعى النور بين يديه وبيمينه . ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده ، واسودت صحيفته وأظلمت وأحاطت به الظلمة من كل جانب . نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمة الباطل وأهله " .

ثم بين - سبحانه - حال الذين اسودت وجوههم وسوء عاقبتهم فقال : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ } بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة فيقال لهم { أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } وحذف هذا القول المقدر والذى هو جواب إما لدلالة الكلام عليه ، ومثله كثير فى القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي قائلين ربنا أبصرنا وسمعنا وقوله تعالى - { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } أي قائلين لهم : سلام عليكم .

والاستفهام في قوله : { أَكْفَرْتُمْ } للتوبيخ والتعجب من حالهم .

قال الآلوسى والظاهر من السياق أن هؤلاء هم أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم ، هو كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه . وقيل هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة ، وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان ؛ لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله - تعالى - ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم " .

وقوله { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } أى فادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب وآلامه بسبب استمراركم على الكفر وموتكم عليه .

والأمر فى قوله { فَذُوقُواْ } للإهانة والإذلال ، وهو من باب الاستعارة فى { فَذُوقُواْ } استعارة تبعية تخييلية . وفى العذاب استعارة مكنية : حيث شبه العذاب بشىء يدرك بحاسة الأكل والذوق تصويراً له بصورة ما يذاق ، وأثبت له الذوق تخييلا - وهو قرينة المكنية .

وأل فى العذاب للعهد أى فذوقوا العذاب المعهود الموصوف بالعظم ، والذى سبق أن حذركم الله - تعالى - منه ، ولكنكم لم تعيروا التحذير انتباها ، بل تماديتم فى كفركم وضلالكم حتى أدرككم الموت وأنتم على هذه الحال الشنيعة .