البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ} (106)

الابيضاض والاسوداد معروفان ، ويقال : بيض فهو أبيض .

وسود : فهو أسود ، ويقال : هما أصل الألوان .

ذاق الشيء استطعمه ، وأصله بالفم ثم استعير لكل ما يحس ويدرك على وجه التشبيه بالذي يعرف عند الطعم .

تقول العرب : قد ذقتُ من إكرام فلان ما يرغبني في قصده .

ويقولون : ذقِ الفرقَ واعرف ما عنده .

وقال تميم بن مقبل :

أو كاهتزاز رديني تذاوقه *** أيدي التجار فزادوا متنه لينا

وقال آخر :

وإن الله ذاق حلوم قيس *** فلما راء حفتها قلاها

يعنون بالذوق العلم ، إما بالحاسة ، وإما بغيرها .

{ يوم تبيضُّ وجوه وتسودّ وجوه } الجمهور على أن ابيضاض الوجوه واسودادها على حقيقة اللون .

والبياض من النور ، والسواد من الظلمة .

قال الزمخشري : فمن كان من أهل نور الدين وُسمَ ببياض اللون وإسفاره وإشراقه ، وابيضت صحيفته وأشرقت ، وسعى النور بين يديه وبيمينه .

ومن كان من أهل ظلمة الباطل وُسمَ بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت ، وأحاطت به الظلمة من كل جانب .

انتهى كلامه .

وقال ابن عطية : وبياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله قاله الزجاج وغيره .

ويحتمل عندي أن تكون من آثار الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم : « أأنتم الغر المحجلون » من آثار الوضوء .

وأما سوادُ الوجوه فقال المفسرون : هو عبارة عن ارتدادها وإظلامها بغمم العذاب .

ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك تسويداً ينزله الله بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقاً ، وهذه أقبح طلعة .

ومن ذلك قول بشار :

وللبخيل على أمواله علل *** زرق العيون عليها أوجه سود

انتهى كلامه .

وقال قوم : البياض والسواد مثلان عبر بهما عن السرور والحزن لقوله تعالى : { ظل وجهه مسوداً } وكقول العرب لمن نال أمنيته : ابيض وجهه .

ولمن جاء خائباً : جاء مسودّ الوجه .

وقال أبو طالب :

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه *** وقال امرؤ القيس :

وأوجههم عند المشاهد غران *** وقال زهير :

وأبيض فياض يداه غمامة *** وبدأ بالبياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى .

وأسند الابيضاضَ والاسوداد إلى الوجوه وإنْ كان جميع الجسد أبيض أو أسود ، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه ، وهو أشرف أعضائه .

والمراد : وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين قاله أبيُّ بن كعب .

وقيل : وجوه المهاجرين والأنصار ، ووجوه بني قريظة والنضير .

وقيل : وجوه السنة ، ووجوه أهل البدعة .

وقال عطاء : وجوه المخلصين ، ووجوه المنافقين .

وقيل : وجوه المؤمنين ، ووجوه أهل الكتاب والمنافقين .

وقيل : وجوه المجاهدين ، ووجوه الفرار من الزحف .

وقيل : تبيضّ بالقناعة ، وتسودّ بالطمع .

وقال الكلبي : تسفر وجوه من قدر على السجود إذا دعوا إليه ، وتسودّ وجوه مَنْ لم يقدر .

واختلفوا في وقت ابيضاض الوجوه واسودادها ، فقيل : وقت البعث من القبور .

وقيل : وقت قراءة الصحف .

وقيل : وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان .

وقيل : عند قوله : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون }

وقيل : وقت أنْ يُؤمَرَ كل فريق بأن يتبع معبوده والعامل في { يوم تبيض } ما يتعلق به .

ولهم عذاب عظيم أيْ وعذابٌ عظيم كائن لهم يوم تبيض وجوه .

وقال الحوفي : العامل ، فيه محذوف تدل عليه الجملة السابقة ، أي : يعذبون يوم تبيض وجوه .

وقال الزمخشري : بإضمار اذكروا ، أو بالظرف وهو لهم .

وقال قوم : العامل عظيم ، وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أنّ عظمَ العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أنْ يعمل فيه عذاب ، لأنه مصدر قد وصف .

وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو رزين العقيلي ، وأبو نهيك : تبيض وتسودّ بكسر التاء فيهما ، وهي لغة تميم : وقرأ الحسن ، والزهري ، وابن محيصن ، وأبو الجوزاء : تبياض وتسواد بألف فيهما .

ويجوز كسر التاء في تبياض وتسواد ، ولم ينقل أنه قرئ بذلك .

{ فأما الذين اسودّت وجوههم ، أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ .

وابتدىء بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم ، ولمجاورة قوله : وتسودّ وجوه ، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم .

فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر .

وقد تقدّم الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جواباً ، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها ، والخبر هنا محذوف للعلم به .

والتقدير : فيقال لهم : أكفرتم ؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } أي يقولون : سلام عليكم .

ولمّا حذف الخبر حذفت الفاء ، وإنْ كان حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله :

فأمّا القتال لا قتال لديكم *** ولكنّ سيرا في عرض المواكب

يريد فلا قتال ، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل : قد اعترض على النحاة في قولهم : لما حذف .

يقال : حذفت الفاء بقوله تعالى : { وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } تقديره فيقال لهم : أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف فيقال ، ولم تحذف الفاء .

فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جواباً له .

ولقوله : أكفرتم ، ومن نظم العرب : إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً ، كما في قوله تعالى : { فإمّا يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } فقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين ، وليس أفلم جواب أمّا ، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي .

انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي .

أمّا قوله : قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ، لأنه ما من نحوي إلا خرّج الآية على إضمار فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه .

وأمّا ما اعترض به من قوله : { وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي } وأنهم قدروه فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال : ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء ، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال حذف ، فيقال : وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب أمّا ، ويقال بعدها محذوف .

وفاء أفلم تحتمل وجهين ، أحدهما أن تكون زائدة .

وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قولَ الشاعر :

يموت أناس أو يشيب فتاهم *** ويحدث ناس والصغير فيكبر

يريد : يكبر وقول الآخر :

لما اتقى بيد عظيم جرمها *** فتركت ضاحي جلدها بتذبذب

يريد : تركت .

وقال زهير :

أراني إذا ما بت بتّ على هوى *** فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا

يريد ثم .

وقول الأخفش : وزعموا أنهم يقولون أخوك ، فوجد يريدون أخوك وجد .

والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، وتقدم الكلام فيقال لهم : ما يسوؤهم ، فإلم تكن آياتي ، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله : { أفلم يسيروا في الأرض } وهذا على مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو : توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء .

فالفاء هنا ليست مرتبة ، وإنما هي مفسرة للوضوء .

كذلك تكون في { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } مفسرة للقول الذي يسوؤهم وقول هذا الرجل .

فلما بطل هذا يعني أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من قوله ، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن ، وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل ، وأنه سواء في الآيتين .

وإذا كان كذلك فجواب أمّا هو ، فيقال في الموضعين ، ومعنى الكلام عليه .

وأمّا تقديره : أأهملتكم ، فلم تكن آياتي ، فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة ، لكنْ اعتنى بالاستفهام ، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين .

وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قوله الأول مذكور في النحو .

وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك .

وعلى تقدير قول هذا الرجل : أأهملتكم ، فلا بدّ من إضمار القول وتقديره ، فيقال : أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب أما .

وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة .

وقول هذا الرّجل : فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : أكفرتم ، يعني أنْ فذوقوا العذاب جواب لأمّا ، ولقوله : أكفرتم ؟ والاستفهام هنا لا جواب له ، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم .

وأمّا قول هذا الرّجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يجعل لكل جواب أنَّ لا يكن ظاهراً فمقدر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً ، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : { فإما يأتينكم } الآية .

وزعمه أن قوله تعالى : { فلا خوف عليهم } جواب للشرطين .

فقولٌ روي عن الكسائي .

وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره : فاتبعوه .

والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول .

وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله : { فإما يأتينكم } الآية .

والهمزة في { أكفرتم } للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم .

والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم ، فإنْ كانوا الكفار فالتقدير : بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم كالذرّّ ، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان .

وإن كانوا قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه ، وكفرهم به بعده ، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه ، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم ، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم .

وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم الإيمان حقيقة وفي قوله : { أكفرتم } .

قالوا : تلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات ، لأن قوله : فأما الذين اسودت غيبة ، وأكفرتم مواجهة بما كنتم ، الباء سببية وما مصدرية .

/خ109