تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

وقوله : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قال العوفي ، عن ابن عباس : أي : وإنك لعلى دين{[29147]} عظيم ، وهو الإسلام . وكذلك قال مجاهد ، وأبو مالك ، والسدي ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وابن زيد .

وقال عطية : لعلى أدب عظيم . وقال مَعْمَر ، عن قتادة : سُئلت عائشةُ عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : كان خلقه القرآن ، تقول كما هو في القرآن .

وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة قوله : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ذكر لنا أن سعد{[29148]} بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قال : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة ، عن زُرارة بن أوفى{[29149]} عن سعد بن هشام قال : سألت عائشة فقلت : أخبريني يا أم المؤمنين - عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : أتقرأ القرآن ؟ فقلتُ : نعم . فقالت : كان خلقه القرآن{[29150]} .

هذا حديث طويل . وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه ، من حديث قتادة بطوله{[29151]} وسيأتي في سورة " المزمل " إن شاء الله تعالى .

وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا يونس ، عن الحسن قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن{[29152]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا شريك ، عن قيس بن وهب ، عن رجل من بني سواد قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : أما تقرأ القرآن : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ؟ قال : قلت : حدثيني عن ذاك . قالت : صنعت له طعامًا ، وصنعت له حفصة طعامًا ، فقلت لجاريتي : اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبلُ فاطرحي الطعام ! قالت : فجاءت بالطعام . قالت : فألقت{[29153]} الجارية ، فوقعت القصعة فانكسرت - وكان نِطْعًا {[29154]} - قالت : فجمعه رسول الله وقال : " اقتضوا - أو : اقتضى - شك أسود - ظَرفًا مكان ظَرفِك " . قالت : فما قال شيئًا{[29155]} .

وقال ابن جرير : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس ، حدثنا أبي ، حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن سعد{[29156]} بن هشام : قال : أتيت عائشة أم المؤمنين فقلت لها : أخبريني بخلُق النبي{[29157]} صلى لله عليه وسلم . فقالت : كان خلقه القرآن . أما تقرأ : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }

وقد روى أبو داود والنسائي ، من حديث الحسن ، نحوه{[29158]}

وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، وأخبرني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جُبَير بن نفير قال : حججتُ فدخلتُ على عائشة ، رضي الله عنها ، فسألتها عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالت : كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن .

وهكذا رواه أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي . ورواه النسائي في التفسير ، عن إسحاق بن منصور ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، به{[29159]}

ومعنى هذا أنه ، عليه السلام ، صار امتثالُ القرآن ، أمرًا ونهيًا ، سجية له ، وخلقًا تَطَبَّعَه ، وترك طبعه الجِبِلِّي ، فمهما أمره القرآن فعله ، ومهما نهاه عنه تركه . هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم ، من الحياء والكرم والشجاعة ، والصفح والحلم ، وكل خلق جميل . كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : خدمتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي : " أف " قط ، ولا قال لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته ؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا ولا مَسسْتُ خزًا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شَمَمْتُ مسكًا ولا عطرًا كان أطيب من عَرَق رسول الله صلى الله عليه وسلم{[29160]}

وقال البخاري : [ حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله ]{[29161]} حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها ، وأحسن الناس خلقًا ، ليس بالطويل البائن ، ولا بالقصير{[29162]}

والأحاديث في هذا كثيرة ، ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب " الشمائل " .

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادمًا له قط ، ولا امرأة ، ولا ضرب بيده شيئًا قط ، إلا أن يجاهد في سبيل الله . ولا خُيِّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا ، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم ، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله ، فيكون هو ينتقم لله ، عز وجل{[29163]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن محمد بن عَجْلان ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إنما بُعِثتُ لأتمم صالح الأخلاق " . تفرد به{[29164]}


[29147]:- (1) في أ: "لعلى خلق".
[29148]:- (2) في أ: "أ، سعيد".
[29149]:- (3) في أ: "زرارة بن أبي أوفي".
[29150]:- (4) تفسير عبد الرزاق (2/245).
[29151]:- (5) صحيح مسلم برقم (746).
[29152]:- (6) المسند (6/216).
[29153]:- (7) في أ: "فالتفتت".
[29154]:- (8) في هـ، م، أ: "نطع"، والمثبت من المسند.
[29155]:- (1) المسند (6/11).
[29156]:- (2) في هـ، أ: "سعيد"، والمثبت من م وتفسير الطبري.
[29157]:- (3) في م: "رسول الله".
[29158]:- (4) تفسير الطبري (29/13) وسنن أبي داود برقم (1352) وسنن النسائي (3/220).
[29159]:- (5) تفسير الطبري (29/13) والمسند (6/188) وسنن النسائي الكبرى برقم (11138).
[29160]:- (6) صحيح البخاري برقم (6038) وصحيح مسلم برقم (2309).
[29161]:- (7) زيادة من م، أ، وصحيح البخاري.
[29162]:- (8) صحيح البخاري برقم (3549).
[29163]:- (1) المسند (6/232).
[29164]:- (2) المسند (2/381).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم ، وذلك أدب القرآن الذي أدّبه الله به ، وهو الإسلام وشرائعه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ يقول : دين عظيم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ يقول : إنك على دين عظيم ، وهو الإسلام .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : خُلُقٍ عَظِيمٍ قال : الدين .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : سألت عائشة عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن ، تقول : كما هو في القرآن .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ذُكر لنا أن سعيد بن هشام سأل عائشة عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قال : قلت : بلى ، قال : فإن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن .

حدثنا عُبيد بن آدم بن أبي إياس ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا المبارك بن فضالة ، عن الحسن ، عن سعيد بن هشام ، قال : أتيت عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها ، فقلت : أخبريني عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن ، أما تقرأ : وإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جُبير بن نُفَير قال : حججت فدخلت على عائشة ، فسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن .

حدثنا عبيد بن أسباط ، قال : ثني أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، في قوله : وَإنّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيمٍ قال : أدب القرآن .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ . قال : على دين عظيم .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ . يعني دينه ، وأمره الذي كان عليه ، مما أمره الله به ، ووكله إليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : خلقه القرآن{[11230]} أدبه وأوامره ، وقال علي رضي الله عنه : الخلق العظيم أدب القرآن ، وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع ، وذلك لا محالة رأس الخلق ووكيده ، أما أن الظاهر من الآية أن الخلق هي التي تضاد مقصد الكفار في قولهم مجنون ، أي غير محصل لما يقول ، وإنما مدحه تعالى بكرم السجية وبراعة القريحة والملكة الجميلة وجودة الضرائب{[11231]} ، ومنه قوله عليه السلام : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق »{[11232]} . وقال جنيد : سمي خلقه عظيماً ، إذ لم تكن له همة سوى الله تعالى ، عاشر الخلق بخلقه وزايلهم بقلبه ، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق ، وفي وصية بعض الحكماء ، عليك بالخلق مع الخلق وبالصدق مع الحق ، وحسن الخلق خير كله . وقال صلى الله عليه وسلم : «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار »{[11233]} . وقال : «ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن »{[11234]} ، وقال : «أحبكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً »{[11235]} والعدل والإحسان والعفو والصلة من الخلق .


[11230]:أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، ومسلم، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه عن سعد بن هشام، قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أخبرني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن (وإنك لعلى خلق عظيم)، وأخرج مثله ابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي الدرداء، وأخرج مثله ابن مردويه عن عبد الله بن شقيق العقيلي، وأخرج مثله ابن أبي شيبة، والترمذي وصححه، وابن مردويه عن أبي عبد الله الجدلي، وأخرج ابن مردويه عن زينب بنت يزيد بن وسق قالت: كنت عند عائشة إذ جاءها نساء أهل الشام، فقلن: يا أم المؤمنين، أخبرينا عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كان خلقه القرآن، وكان أشد الناس حياء من العواتق في خدرها . (الدر المنثور).
[11231]:من معافي الضرب: المشاركة في الأمر والإسراع فيه.
[11232]:أخرجه الإمام مالك في موطئه، والإمام احمد في مسنده (2/381)، ولفظه فيه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
[11233]:أخرجه أبو داود: وابن حبان في صحيحه، عن عائشة رضي الله عنها، وقد رمز له الإمام السيوطي في "الجامع الصغير" بأنه حديث حسن، ولفظه كما جاء فيه (إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم).
[11234]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده (6/442)، والترمذي في البر، ولفظه كما في مسند أحمد: عن عطاء بن نافع أنهم دخلوا على أم الدرداء فأخبرتهم أنها سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أفضل شيء في الميزان – قال ابن أبي بكير: أثقل شيء في الميزان- يوم القيامة الخلق الحسن).
[11235]:أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، وفي المناقب، والترمذي في البر، وأحمد في مسنده (4/193)، ولفظه كما جاء في مسند أحمد: عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقا، الثرثارون المتفيقهون المتشدقون).