تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

وقوله : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } : أما المحاريب فهي البناء الحسن ، وهو أشرف شيء في المسكن وصدره .

وقال مجاهد : المحاريب بنيان دون القصور . وقال الضحاك : هي المساجد . وقال قتادة : هي المساجد والقصور ، وقال ابن زيد : هي المساكن . وأما التماثيل فقال عطية العوفي ، والضحاك والسدي : التماثيل : الصور . قال مجاهد : وكانت من نحاس . وقال قتادة : من طين وزجاج .

وقوله : { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } الجواب : جمع جابية ، وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء ، كما قال الأعشى ميمون بن قيس :

تَرُوحُ عَلَى آل المَحَلَّق جَفْنَةٌ *** كَجَابِيَة الشَّيخ العِراقي تَفْهَق{[24187]} {[24188]}

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { كَالْجَوَابِ } أي : كالجوبة من الأرض .

وقال العوفي ، عنه : كالحياض . وكذا قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك وغيرهم .

والقدور الراسيات : أي الثابتات ، في أماكنها{[24189]} لا تتحول ولا تتحرك عن أماكنها لعظمها . كذا قال مجاهد ، والضحاك ، وغيرهما .

وقال عكرمة : أثافيها منها .

وقوله : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا } أي : وقلنا لهم اعملوا شكرًا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين .

وشكرًا : مصدر من غير الفعل ، أو أنه مفعول له ، وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول وبالنية ، كما قال :

أفَادَتْكُمُ النّعْمَاء منِّي{[24190]} ثَلاثةً : *** يدِي ، ولَسَاني ، وَالضَّمير المُحَجَّبَا

قال أبو عبد الرحمن الحُبلي{[24191]} : الصلاة شكر ، والصيام شكر ، وكل خير تعمله لله شكر . وأفضل الشكر الحمد . رواه ابن جرير .

وروى هو وابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب القُرَظي قال : الشكر تقوى الله والعمل الصالح .

وهذا يقال لمن هو متلبس بالفعل ، وقد كان آل داود ، عليه السلام ، كذلك قائمين بشكر الله قولا وعملا .

قال{[24192]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر ، حدثنا جعفر - يعني : ابن سليمان - عن ثابت البُنَاني قال : كان داود ، عليه السلام ، قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة ، فكان لا تأتي عليهم{[24193]} ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي ، فغمرتهم هذه الآية : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } .

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن أحب الصلاة إلى الله صلاةُ داودَ ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وأحب الصيام إلى الله صيام داود ، كان يصوم يوما ويفطر يوما . ولا يَفر إذا لاقى » . {[24194]}

وقد روى أبو عبد الله بن ماجه من حديث سُنيْد بن داود ، حدثنا يوسف بن محمد بن المُنْكَدِر ، عن أبيه ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قالت أمّ سليمان بن داود لسليمان : يا بني ، لا تكثر النوم بالليل ، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرًا يوم القيامة » . {[24195]}

وروى ابن أبي حاتم عن داود ، عليه السلام ، هاهنا أثرا غريبا مطولا جدا ، وقال أيضًا :

حدثنا أبي ، حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا أبو يزيد{[24196]} فيض بن إسحاق الرقي{[24197]} قال : قال فضيل في قوله تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا } . فقال داود : يا رب ، كيف أشكرك ، والشكر نعمة منك ؟ قال : " الآن شكرتني حين علمت{[24198]} أن النعمة{[24199]} مني " .

وقوله : { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } إخبار عن الواقع .


[24187]:- في ت: "بقهق".
[24188]:- البيت في تفسير الطبرى (22/49).
[24189]:- في ت ، س ، أ: "أماكنهم".
[24190]:- في ت: "عندى".
[24191]:- في هـ ، ت ، س ، أ: "السلمى" والتصويت من الطبري 22/50 ، مستفادا من طبعة الشعب.
[24192]:- في ت: "روى".
[24193]:- في ت: "لا يأتي عليهن" ، وفي أ: "لا يأتي عليهم".
[24194]:- صحيح البخاري برقم (1131) وصحيح مسلم برقم (1159).
[24195]:- سنن ابن ماجه برقم (1332) وقال البوصيري في الزوائد (1/433): "هذا إسناد ضعيف".
[24196]:- في هـ: "زيد" والمثبت من ت ، س ، أ ، والجرح والتعديل 3/2/88 مستفادا من طبعة الشعب.
[24197]:- في أ: "المرى".
[24198]:- في ت ، س: "قلت".
[24199]:- في أ: "النعم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ اعْمَلُوَاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشّكُورُ } .

يعني تعالى ذكره : يعمل الجنّ لسليمان ما يشاء من محاريب ، وهي جمع محراب ، والمحراب : مقدّم كل مسجد وبيت ومصلّى ومنه قول عديّ بن زيد :

كَدُمَى العاجِ فِي المَحارِيبِ أوْ كالْ *** بَيضِ في الرّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ قال : بنيان دون القصور .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وقصور ومساجد .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ قال : المحاريب : المساكن . وقرأ قول الله : فَنادَتْهُ المَلائكَةُ وَهُوَ قائمٌ يُصَلّي فِي المحْرابِ .

حدثني عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك : يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحَارِيبَ قال : المحاريب : المساجد .

وقوله : وتَماثِيلَ يعني أنهم يعملون له تماثيل من نحاس وزجاج ، كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وتَماثِيلَ قال : من نحاس .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وتَماثِيلَ قال : من زجاج وشَبَه .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان ، عن جُوَيبر ، عن الضحاك في قول الله وتَماثِيلَ قال : الصور .

وقوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ يقول : وينحتون له ما يشاء من جفان كالجواب وهي جمع جابية ، والجابية : الحوض الذي يُجْبَي فيه الماء ، كما قال الأعشى ميمون بن قَيس :

تَرُوحُ على نادِي المُحَلّقِ جَفْنَةٌ *** كَجابِيَةِ الشّيْخِ العِرَاقِيّ تَفْهَقُ

وكما قال الاَخر :

فَصَبّحْتُ جابِيَةً صُهارِجا *** كأنّها جِلْدُ السّماءِ خارِجا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ يقول : كالجوبة من الأرض .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَجِفانٍ كالجَوَابِ يعني بالجواب : الحياض .

وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : كالحياض .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : حياض الإبل .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : جفان كجوبة الأرض من العظم ، والجوبة من الأرض : يستنقع فيها الماء .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَجِفانٍ كالجَوَابِ كالحياض .

حدثنا عمرو ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك : وَجِفانٍ كالجَوَابِ قال : كحياض الإبل من العظم .

وقوله : وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ يقول : وقدور ثابتات لا يحركن عن أماكنهنّ ، ولا تحوّل لعظمهنّ .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال : عظام .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال : عِظام ثابتات الأرض لا يزُلن عن أمكنتهن .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقُدُورٍ رَاسِياتٍ قال : مثال الجبال من عِظمها ، يعمل فيها الطعام من الكبر والعظم ، لا تحرّك ، ولا تنقل ، كما قال للجبال : راسيات .

وقوله : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا يقول تعالى ذكره : وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكرا له على ما أنعم عليكم من النعم التي خَصّكم بها عن سائر خلقه مع الشكر له على سائر نعمه التي عمكم بها مع سائر خلقه وتُرِك ذكر : وقلنا لهم ، اكتفاء بدلالة الكلام على ما ترك منه ، وأخرج قوله شُكْرا مصدرا من قوله اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ لأن معنى قوله اعْمَلُوا اشكروا ربكم بطاعتكم إياه ، وأن العمل بالذي رضي الله ، لله شكر . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا موسى بن عبادة ، عن محمد بن كعب ، قوله : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا قال : الشكر : تقوى الله ، والعمل بطاعته .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : أخبرني حَيْوَة ، عن زُهْرة بن معبد ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا وأفضل الشكر : الحمد .

قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرا قال : أعطاكم وعلمكم وسخر لكم ما لم يسخر لغيركم ، وعلّمكم منطق الطير ، اشكروا له يا آل داود ، قال : الحمد طرف من الشكر .

وقوله : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشّكُورُ يقول تعالى ذكره : وقليل من عبادي المخلصو توحيدي ، والمفردو طاعتي وشكري على نعمتي عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشّكُورُ يقول : قليل من عبادي الموحّدون توحيدهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَعۡمَلُونَ لَهُۥ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَٰرِيبَ وَتَمَٰثِيلَ وَجِفَانٖ كَٱلۡجَوَابِ وَقُدُورٖ رَّاسِيَٰتٍۚ ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ} (13)

{ يعملون له ما يشاء من محاريب } قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها ويحارب عليها . { وتماثيل } وصورا هي تماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وحرمة التصاوير شرع مجدد . روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما . { وجفان } وصحاف . { كالجواب } كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية وهي من الصفات الغالبة كالدابة . { وقدور راسبات } ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها . { اعملوا آل داود شكرا } حكاية عما قيل لهم { وشكرا } نصب على العلة أي : اعلموا له واعبدوه شكرا ، أو المصدر لأن العمل له شكرا أو الوصف له أو الحال أو المفعول به . { وقليل من عبادي الشكور } المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفي حقه ، لأن توفيقه الشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهايته ، ولذلك قيل الشكور من يرعى عجزه عن الشكر .