{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ } أي : ولما وصل إلى مدين وورد ماءها ، وكان لها بئر تَرده رعاء الشاء { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ } أي : جماعة { يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ } أي : تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يُؤذَيا . فلما رآهما موسى ، عليه السلام ، رق لهما ورحمهما ، { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } أي : ما خبركما لا تردان مع هؤلاء ؟ { قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } أي : لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء ، { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي : فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مّنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتّىَ يُصْدِرَ الرّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولَمّا وَرَدَ موسى مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً يعني جماعة مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ نَعَمهم ومواشيهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مِنَ النّاسِ يَسْقونَ يقول : كثرة من الناس يسقون .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله أُمّةً مِنَ النّاسِ قال : أناسا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وقع إلى أمة من الناس يسقون بمدين أهل نَعَم وشاء .
حدثنا عليّ بن موسى وابن بشّار ، قالا : حدثنا أبو داود ، قال : أخبرنا عمران القطان ، قال : حدثنا أبو حمزة عن ابن عباس ، في قوله : وَلمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ قال عليّ بن موسى : قال : مثل ماء جوبكم هذا ، يعني المحدثة . وقال ابن بشار : مثل محدثتكم هذه ، يعني جوابكم هذا .
وقوله : وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرأتَيْنِ تَذُودَانِ يقول : ووجد من دون أمة الناس الذين هم على الماء ، امرأتين تذودان ، يعني بقوله : تَذُودَان تَحبِسان غنمهما يقال منه : ذاد فلان غنمه وماشيته : إذا أراد شيء من ذلك يَشِذّ ويذهب ، فردّه ومنعه يذودها ذَوْدا . وقال بعض أهل العربية من الكوفيين : لا يجوز أن يقال : ذدت الرجل بمعنى : حبسته ، إنما يقال ذلك للغنم والإبل . وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إني لبِعُقْرِ حَوْضِي أذُودُ النّاسَ عَنْهُ بَعَصَايَ » فقد جعل الذّود صلى الله عليه وسلم في الناس ومن الذّود قول سُوَيد بن كُراع :
أبِيتُ عَلى بابِ القَوَافِي كأنّمَا *** أذُودُ بِها سِرْبا مِنَ الوَحْشِ نُزّعا
وَقَدْ سَلَبَتْ عَصَاكَ بَنُو تَمِيمٍ *** فَمَا تَدْرِي بأيّ عَصا تَذُودُ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : تَذُودانِ يقول : تحبسان .
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : حدثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس وَوَجَدَ مِنْ دونِهِمُ امْرأتَيْنِ تَذُودانِ يعني بذلك أنهما حابستان .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جُبَير ، في قوله : امْرأتَيْنِ تَذُودَانِ قال : حابستين .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَوَجَدَ مِنْ دونِهِمْ امْرأتَيْنِ تَذُودَانِ يقول : تحبِسان غنمهما .
واختلف أهل التأويل في الذي كانت عنه تذود هاتان المرأتان ، فقال بعضهم : كانتا تذودان غنمهما عن الماء ، حتى يَصْدُر عنه مواشي الناس ، ثم تسقيان ماشيتهما لضعفهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك قوله : امْرأتَيْنِ تَذُودانِ قال : تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا وتخلو لهما البئر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرأتَيْنِ يعني دون القوم تذودان غنمهما عن الماء ، وهو ماء مدين .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : تذودان الناس عن غنمهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَلَما وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مِنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرأتَيْنِ تَذُودانِ قال : أي حابستين شاءهما تذودان الناس عن شأنهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه تَذُودانِ قال : تذودان الناس عن غنمهما .
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال معناه : تحبسان غنمهما عن الناس حتى يفرغوا من سقي مواشيهم .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لدلالة قوله : ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ على أن ذلك كذلك ، وذلك أنهما شكتا أنهما لا تسقيان حتى يصدر الرعاء ، إذ سألهما موسى عن ذَوْدِهما ، ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس ، كان لا شكّ أنهما كانتا تخبران عن سبب ذودهما عنها الناس ، لا عن سبب تأخر سقيهما إلى أن يُصْدِر الرعاء .
وقوله : قالَ ما خَطْبُكُما يقول تعالى ذكره : قال موسى للمرأتين ما شأنكما وأمركما تذودان ماشيتكما عن الناس ، هلا تسقونها مع مواشي الناس والعرب ، تقول للرجل : ما خَطْبُك : بمعنى ما أمرك وحالك ، كما قال الراجز :
*** يا عَجَبا ما خَطْبُهُ وَخَطْبي ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا العباس ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : أخبرنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال : قال لهما : ما خطْبُكُما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : وجد لهما رحمة ، ودخلته فيهما خشية ، لما رأى من ضعفهما ، وغَلَبةِ الناس على الماء دونهما ، فقال لهما : ما خطبكما : أي ما شأنكما ؟ .
وقوله : قالَتا لا نَسْقي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ يقول جلّ ثناؤه : قالت المرأتان لموسى : لا نسقي ماشيتنا حتى يصدر الرعاء مواشِيَهم ، لأنا لا نطيق أن نسقي ، وإنما نسقي مواشينا ما أفضلَتْ مواشي الرعاء في الحوض ، والرّعاء : جمع راع ، والراعي جمعه رعاء ورُعاة ورعيان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : حدثنا القاسم ، قال : ثني سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : لما قال موسى للمرأتين : ما خَطْبُكُما ؟ قالَتا لا نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ : أي لا نستطيع أن نسقي حتى يسقي الناس ، ثم نَتّبع فضلاتهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُريج ، قوله : حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ قال : تنتظران تسقيان من فضول ما في الحياض حياض الرعاء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قالَتا لا نَسْقِي حتى يُصْدرَ الرّعاءُ امرأتان لا نستطيع أن نزاحم الرجال وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يقدر أن يمسّ ذلك من نفسه ، ولا يسِقي ماشيته ، فنحن ننتظر الناس حتى إذا فرغوا أسقينا ثم انصرفنا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز سوى أبي جعفر القارىء وعامة قرّاء العراق سوى أبي عمرو : يُصْدِر الرّعاءُ بضم الياء ، وقرأ ذلك أبو جعفر وأبو عمرو بفتح الياء من يصدر الرعاء عن الحوض . وأما الآخرون فإنهم ضموا الياء ، بمعنى : أصدر الرعاءُ مواشيهم ، وهما عندي قراءتان متقاربتا المعنى ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ يقولان : لا يستطيع من الكبر والضعف أن يسقَى ماشيته .
وقوله : فَسَقى لَهُما ذُكِرَ أنه عليه السلام فتح لهما عن رأس بئر كان عليها حَجَر لا يطيق رفعه إلا جماعة من الناس ، ثم استسقى فسقى لهما ماشيتهما منه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : فتح لهما عن بئر حجرا على فيها ، فسقى لهما منها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج بنحوه ، وزاد فيه : قال ابن جريج : حجرا كان لا يطيقه إلاّ عشرة رَهْط .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الحجّاج ، عن الحكم ، عن شريح ، قال : انتهى إلى حجر لا يرفعه إلا عشرة رجال ، فرفعه وحده .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : رحمهما موسى حين قالَتا لا نَسْقي حتى يُصْدِرَ الرّعاءُ وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ فأتى إلى البئر فاقتلع صخرة على البئر كان النفر من أهل مَدْيَنَ يجتمعون عليها ، حتى يرفعوها ، فسقى لهما موسى دلوا فأروتا غنمهما ، فرجعتا سريعا ، وكانتا إنما تسقيان من فُضول الحياض .
حدثني العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس فَسَقَى لَهُما فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرا حتى كانت أوّل الرعاء رِيا ، فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : تصدّق عليهما نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فسقى لهما ، فلم يلبث أن أروى غنمهما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أخذ دلوهُما موسى ، ثم تقدّم إلى السقاء بفضل قوّته ، فزاحم القوم على الماء حتى أخّرهم عنه ، ثم سقى لهما .