صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } عن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة ، فجاءت عير من الشام ؛ فانفتل الناس إليها حتى لم يبق بالمسجد إلا اثنا عشر رجلا ، فنزلت الآية . وكانت العير تحمل طعاما إلى المدينة ، والوقت وقت غلاء وشدة ، وكان من عادتهم إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ؛ وهو المراد باللهو في الآية . ويروى أن هذه الحادثة وقعت ثلاث مرات ، وأنه صلى الله عليه وسلم قال بعد الثالثة : ( والذي نفسي بيده لو اتبع آخركم أو لكم لالتهب عليكم الوادي نارا ) . " انفضوا إليها " تفرقوا عنك إليها ؛ من الفض ، وهو كسر الشيء والتفريق بين أجزائه ؛ كفض ختم الكتاب . وقيل : إن الذي سوغ لهم الخروج وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز ، لا لانقضاء المقصود وهو الصلاة . وقد كان صلى الله عليه وسلم أول الإسلام يصلى الجمعة قبل الخطبة كالعيدين ، فلما وقعت هذه الواقعة ونزلت الآية قدم الخطبة وأخر الصلاة . { وتركوك } على المنبر{ قائما } تخطب . ثم وعظهم الله بقوله : { ما عند الله } من الثواب على الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم{ خير من اللهو } مما يلهيكم عن الطاعة ، وعن البقاء مع الرسول{ ومن التجارة } التي تبتغون منها الربح والمنافع العاجلة ، ولن يفوتك ما قدر لكم من الرزق والنفع إذا أقمتم على طاعته . { والله خير الرازقين } . والله أعلم .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} (11)

قوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } .

ذلك عتاب من الله للمؤمنين على ما وقع منهم ، إذ انصرفوا عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا . فنزلت الآية {[4541]} { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } المراد باللهو هنا الطبل أو المزامير . وقد كانوا إذا حصل نكاح لعب أهله وضربوا بالطبل وعزفوا على المزامير ومروا بذلك على المسجد فإذا رأى الناس عير التجارة أو صوت اللهو { انفضوا إليها } أي انصرفوا إلى التجارة . وقد كنّى بالتجارة دون اللهو لدخوله في حكمها أو لأنها أهم . أو لأنها آخر الاسمين .

قوله : { وتركوك قائما } أي انصرفوا إلى التجارة وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر يخطب ولم يبق معه إلا قليل منهم .

قوله : { قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } أي قل لهم يا محمد : ما عند الله من حسن الجزاء وجميل العطاء أفضل وأحسن مما انصرفتم إليه . وإنما انصرفتم نحو متاع زائل ما ينبغي لكم أن تخفّوا إليه ذاهبين تاريكين الخطبة وسماع الموعظة والذكرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم { والله خير الرازقين } الله جل وعلا هو المالك وهو الرازق فاسألوه يعطكم من فضله وهو سبحانه خير رزاق .

ومن أحكام الجمعة انعقادها بجماعة . واختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة . فقيل : تنعقد باثنين ، وهو قول الحسن البصري . وقيل : تنعقد بثلاثة وهو قول الليث ابن سعد . وقيل : تنعقد بأربعة وهو قول الإمام أبي حنيفة . وقيل : تنعقد باثني عشر رجلا . وعند الإمام الشافعي ، تنعقد بأربعين رجلا . وعلى هذا قالوا : كل قرية فيها أربعون رجلا بالغين عقلاء أحرارا مقيمن لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة وجبت عليهم الجمعة .

واشترط الإمام أبو حنيفة لوجوبها وانعقادها ، المصر الجامع والسلطان . وعلى هذا لا تصح الجمعة عند الحنيفة بغير إذن الإمام وحضوره ، خلافا لجمهور العلماء إذ قالوا : تجب الجمعة ولو لم يأذن الإمام أو يحضر . وهو الصحيح استنادا إلى ظاهر الآية فإنها بإطلاقها تفيد الوجوب .

أما الخطبة ، فهي شرط في انعقاد الجمعة فلا تصح إلا بها . وهو قول الجمهور من العلماء . وقيل : إنها مستحبة . والصحيح وجوبها ويدل على هذا قوله : { وتركوك قائما } فقد ذم الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم وترك السماع لخطبته وهو ( عليه الصلاة والسلام ) لم يصل الجمعة إلا بخطبة . وتصح الخطبة يوم الجمعة من غير وضوء مع الكراهة ولا تجب إعادتها . واشترط الإمام الشافعي في الجديد الطهارة .

وإذا دخل المصلي المسجد والإمام يخطب فإنه لا يصلي ، بل يجلس ليستمع وهو قول الإمام مالك ، خلافا للشافعي وآخرين إذ قالوا : يصلي ركعتين خفيفتين ثم يجلس . وذلك لما رواه مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما " {[4542]} .


[4541]:أسباب النزول للنيسابوري ص 286.
[4542]:تفسير ابن كثير جـ 4 ص 366 – 369 وتفسير القرطبي جـ 18 ص 111- 118 وأحكام القرآن للجصاص جـ 5 ص 340 –343.