{ والذين تبوءوا الدار } نزلوا وأقاموا به ؛ معطوف على المهاجرين ، { والإيمان } أي وأخلصوا الإيمان ، { من قبلهم } أي من قبل تبوء المهاجرين لها وقيل : الجملة مستأنفة لمدح الأنصار بخصال حميدة ؛ منها : محبتهم للمهاجرين ، ورضاهم باختصاص الفيء بهم . { ولا يجدون في صدورهم حاجة } أي شيئا محتاجا إليه{ مما أوتوا } مما أعطى المهاجرين من الفيء وغيره{ خصاصة } حاجة وأصلها : من خصاص البيت ، وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح . { ومن يوق شح نفسه } أي يوق بتوفيق الله شحها حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق . والشح : البخل مع الحرص .
{ الذين تبوَّؤا الدار } : هم الأنصار الذين سكنوا المدينة .
{ ولا يجدون في صدورهم حاجة } : الحاجة هنا : الحسد والغيظ .
{ مما أوتوا } : مما أُعطي المهاجرون من الفيء .
{ ويؤثِرون } : ويقدمون غيرهم على أنفسهم ، ولو كان بهم خَصاصة : ولو كانوا فقراء .
{ ومن يوقَ شح نفسه } : ومن يحفظ نفسه من البخل والحرص على المال . المفلحون : الفائزون .
ثم مدح اللهُ تعالى الأنصار وأثنى عليهم ثناء عاطرا حين طابت أنفسهم عن الفيء ، ورضوا أن يكون للمهاجرين من إخوانهم ، وقال : إنهم مخلصون في إيمانهم ، ذوو صفات كريمة ، وشيم جليلة ، تدلّ على كرم النفوس ، ونبل الطباع .
( 1 ) فهم يحبّون المهاجرين ، وقد أسكنوهم معهم في دورهم ، وآخَوهم ، وبعضهم نزل لأخيه من المهاجرين عن بعض ماله .
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال المهاجرون :
« يا رسول الله ما رأينا مثلَ قوم قِدمنا عليهم : حُسْنَ مواساةٍ في قليل ، وحسنَ بذل في كثير ! لقد كفونا المئونة ، وأشركونا في المهيّأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، قال : لا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم » .
والمهيأ : كل ما يريح الإنسان من مكان أو طعام . فعلّمهم الرسول الكريم أن يثنوا على إخوانهم الأنصار ويدعوا لهم مقابل ما أكرموهم به .
( 2 ) وهم لا يحسّون في أنفسهم شيئا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره .
( 3 ) ويؤثرون إخوانهم المهاجرين على أنفسهم ويقدّمونهم ، ولو كان بهم حاجة ، وهذا منتهى الكرم والإيثار ، وغاية التضحية . ولذلك ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم ارحم الأنصارَ وأبناء الأنصار .
ثم بين الله تعالى أن الذي ينجو من البخل يفوز برضا الله ويكون من المفلحين فقال : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتقوا الشحّ ، فإن الشح قد أهلكَ من كان قَبلكم ، حَملَهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلّوا محارمهم » رواه الإمام أحمد والبخاري في : الأدب المفرد ، والبيهقي .
وقال الرسول الكريم : « لا يجتمعُ الإيمانُ والشحُّ في قلبٍ عبدٍ أبداً » رواه الترمذي وأبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
وليس المراد من تقوى الشح الجودَ بكل ما يملك ، وإنما أن يؤديَ الزكاة ، ويَقري الضيف ويعطي ما يستطيع كما روي عن الرسول الكريم أنه قال : « بَرِئَ من الشحّ من أدى الزكاةَ وقَرَا الضيف ، وأعطى في النائبة » .
وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلا ومرجعا يرجع إليه المؤمنون ، ويلجأ إليه المهاجرون ، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر ، فلم يزل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار ، حتى انتشر الإسلام وقوي ، وجعل يزيد شيئا شيئا فشيئا ، وينمو قليلا قليلا ، حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن ، والبلدان بالسيف والسنان .
الذين من جملة أوصافهم الجميلة أنهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } وهذا لمحبتهم لله ولرسوله ، أحبوا أحبابه ، وأحبوا من نصر دينه .
{ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي : لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها ، وهذا يدل على سلامة صدورهم ، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها .
ويدل ذلك على أن المهاجرين ، أفضل من الأنصار ، لأن الله قدمهم بالذكر ، وأخبر أن الأنصار لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، فدل على أن الله تعالى آتاهم ما لم يؤت الأنصار ولا غيرهم ، ولأنهم جمعوا بين النصرة والهجرة .
وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي : ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم ، وتميزوا بها على من سواهم ، الإيثار ، وهو أكمل أنواع الجود ، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها ، وبذلها للغير مع الحاجة إليها ، بل مع الضرورة والخصاصة ، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي ، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها ، ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه ، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا ، والإيثار عكس الأثرة ، فالإيثار محمود ، والأثرة مذمومة ، لأنها من خصال البخل والشح ، ومن رزق الإيثار فقد وقي شح نفسه { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ووقاية شح النفس ، يشمل وقايتها الشح ، في جميع ما أمر به ، فإنه إذا وقي العبد شح نفسه ، سمحت نفسه بأوامر الله ورسوله ، ففعلها طائعا منقادا ، منشرحا بها صدره ، وسمحت نفسه بترك ما نهى الله عنه ، وإن كان محبوبا للنفس ، تدعو إليه ، وتطلع إليه ، وسمحت نفسه ببذل الأموال في سبيل الله وابتغاء مرضاته ، وبذلك يحصل الفلاح والفوز ، بخلاف من لم يوق شح نفسه ، بل ابتلي بالشح بالخير ، الذي هو أصل الشر ومادته ، فهذان{[1037]} الصنفان ، الفاضلان الزكيان هم الصحابة الكرام والأئمة الأعلام ، الذين حازوا من السوابق والفضائل والمناقب ما سبقوا به من بعدهم ، وأدركوا به من قبلهم ، فصاروا أعيان المؤمنين ، وسادات المسلمين ، وقادات المتقين{[1038]} .
{ والذين تبوؤوا الدار والإيمان } نزلوا المدينة وقبلوا الايمان ، { من قبلهم } من قبل المهاجرين وهم الأنصار ، { يحبون من هاجر إليهم } من المسلمين ، { ولا يجدون في صدورهم حاجة } غيظا وحسدا { مما أوتوا } مما أوتي المهاجرين من الفيء وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا ألا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة فطابت أنفس الأنصار بذلك فذلك قوله :{ ويؤثرون على أنفسهم } أي يختارون اخوانهم المهاجرين بالمال على أنفسهم ، { ولو كان بهم خصاصة } حاجة وفاقة إلى المال { ومن يوق شح نفسه } من حفظ من الحرص المهلك على المال وهو حرص يحمله على امساك المال عن الحقوق والحسد { فأولئك هم المفلحون } .
ولما مدح المهاجرين وأعطاهم فطابت نفوس الأنصار بذلك وكانوا في كل حال معه صلى الله عليه وسلم كالميت بين يدي الغاسل ، مهما شاء فعل ، ومهما أراد منهم صار إليه ووصل ، أتبعه مدحهم جبراً لهم وشكراً لصنيعهم فقال عاطفاً على مجموع القصة : { والذين تبوؤ } أي جعلوا بغاية جهدهم { الدار } الكاملة في الدور وهي التي أعدها الله في الأزل للهجرة وهيأها للنصرة وجعلها دائرة على جميع البلدان محيطة بها غالبة عليها محل إقامتهم وملابستهم وصحبتهم وملازمتهم لكونها أهلاً لأن يعود إليها من خرج منها فلا يهجرها{[63915]} أصلاً ، فهي محل مناه وليست موضعاً{[63916]} يهاجر منه{[63917]} لبركتها أو خيرها .
ولما كان المراد الإبلاغ في مدحهم ، قال مضمناً " تبوؤا " معنى لازم : { والإيمان } أي و{[63918]}لابسوه وصحبوه وخصوه بالصحبة ولزموه لزوماً هو كلزوم المنزل الذي لا غنى لنازله عنه ، ويجوز أن يكون الإيمان{[63919]} وصفاً للدار بإعادة العاطف للإشارة إلى{[63920]} التمكن في كل من الوصفين فيكون كأنه قيل : تبوؤا المدينة التي هي الدار وهي الإيمان لأنها محل تمكن الإيمان وانتشاره وظهوره في سائر البلدان فلشدة ملابستها{[63921]} له{[63922]} سميت به ، ويجوز أن يكون المعنى : ومحل الإيمان إشارة إلى أنهم ما أقاموا بها لأجل أن أموالهم بها بل محبة في الإيمان علماً منهم بأنه لا يتم بدره ، ويكمل شرفه وقدره ، وتنشر أعلامه ويقوى ذكره إلا بها ، ولولا ذلك لهجروها{[63923]} وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان حله ، فهو مدح لهم بأنه متصفون بالهجرة بالقوة مع اتصافهم بالنصرة بالفعل{[63924]} .
ولما كان انفرادهم بإقامة الإيمان في الدار المذكورة قبل قدوم المهاجرين عليهم مدحاً تاماً ، قال مادحاً لهم بذلك دالاً بإثبات الجارّ على أنهم لم يستغرقوا زمان القبل من حين إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمرين{[63925]} : { من قبلهم } أي قبل هجرة المهاجرين لأن وصفهم بالهجرة لم يكن إلا بعد إيجادها فالأنصار جمعوا التمكن في الإيمان إلى التمكن في الدار من قبل أن يجمع المهاجرون بينهما بالهجرة .
ولما ابتدأ ذكرهم هذا الابتداء الجليل ، أخبر عنهم بقوله : { يحبون } أي على سبيل التجديد والاستمرار ، وقيل العطف على المهاجرين ، وهذه{[63926]} حال فيكون هذا حكماً بالمشاركة { من هاجر } وزادهم محبة فيهم وعطفاً عليهم بقوله : { إليهم } لأن القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه ، والدليل الشهودي على ما أخبر الله {[63927]}عنهم به{[63928]} من المحبة أنهم شاطروا المهاجرين في أموالهم وعرضوا عليهم أن يشاطروهم نساءهم على شدة غيرتهم ، فأبى المهاجرون المشاطرة في النساء وقبلوا منهم الأموال .
ولما أخبرهم بالمحبة ورغبهم في إدامتها ، عطف على هذا الخبر ما هو من ثمراته فقال : { ولا يجدون } أي{[63929]} أصلاً { في صدورهم } التي هي مساكن قلوبهم فتصدر منها أوامر{[63930]} القلوب فضلاً عن أن{[63931]} تنطق ألسنتهم . ولما كان المراد نفي الطلب منهم لما خص به المهاجرين ، وكان الحامل على طلب ذلك الحاجة ، وكان كل أحد{[63932]} يكره أن ينسب إلى الحاجة وإن أخبر بها عن نفسه في وقت ما لغرض قال : { حاجة } موقعاً اسم السبب على المسبب { مما أوتوا } أي المهاجرون من الفيء وغيره من أموال بني النضير وغيرهم من أي مؤت كان فكيف إذا كان المؤتي هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإذا لم يجدوا حاجة تدعوهم إلى الطلب فلأن لا يجدوا حسداً ولا غيظاً من باب الأولى ، فهذه الآية من أعظم حاث على حسن الإخاء محذر من الحسد والاستياء . ولما أخبر عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الإخبار بتحليهم بالفضائل{[63933]} فقال : { ويؤثرون } عظم ذلك بقصر الفعل فصار المعنى : يوقعون الأثرة وهي اختيار{[63934]} الأشياء الحسنة لغيرهم تخصيصاً لهم بها لا على أحبائهم مثلاً بل { على أنفسهم } فيبذلون لغيرهم { كائناً{[63935]} } من كان ما في أيديهم ، وذكر النفس دليل على أنهم في{[63936]} غاية النزاهة من الرذائل لأن النفس إذا ظهرت كان القلب أطهر ، وأكد ذلك بقوله : { ولو كان } أي كوناً هو في غاية المكنة { بهم }{[63937]} أي خاصة لا بالمؤثر{[63938]} { خصاصة } أي فقر وخلل في الأحوال وحاجة شديدة تحيط بهم من كل جانب ، من خصائص البناء وهي{[63939]} فرجه .
ولما كان التقدير : فمن كان كذلك فهو من الصادقين : عطف عليه{[63940]} قوله : { ومن } ولما كان المقصود النزاهة عن الرذيلة من أي جهة كانت ، وكان علاج الرذائل صعباً جداً ، لا يطيقه الإنسان إلا بمعونة من الله شديدة ، بنى للمفعول{[63941]} قوله : { يوق شح نفسه } أي يحصل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس ، وقاية تحول بينه وبينها ، فلا يكون مانعاً لما عنده ، حريصاً على ما {[63942]}عند غيره{[63943]} حسداً ، قال ابن عمر رضي الله عنه : الشح أن تطمح عين الرجل فيما{[63944]} ليس له ، قال صلى الله عليه وسلم{[63945]} : " اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، حملهم{[63946]} على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " .
ولما كان النظر إلى{[63947]} التطهير من سفساف الأخلاق عظيماً ، سبب عنه إفهاماً لأنه{[63948]} لا يحصل ما سببه عنه بدونه قوله { فأولئك } : أي العالو المنزلة { هم } أي خاصة لا غيرهم { المفلحون * } أي{[63949]} الكاملون في الفوز بكل مراد ، قال القشيري : وتجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة{[63950]} والأكابر ، ومن أسرته{[63951]} الأخطار وبقي في شح نفسه فهو في مصارفة معاملته ومطالبة الناس في استيفاء حظه ، فليس له من مذاقات هذه الطريقة شيء .
وشرح الآية أن{[63952]} الأنصار كانوا لما قدم عليهم المهاجرون قسموا دورهم وأموالهم بينهم وبينهم ، فلما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير خطب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ما صنعوا بالمهاجرين من إنزالهم إياهم وأثرتهم على أنفسهم ، ثم قال " إن أحببتم{[63953]} قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليّ من بني النضير " ، وكان المهاجرون{[63954]} على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم ، فقال السعدان رضي الله عنهما : بل يقسم بين المهاجرين خاصة ويكونون في دورنا{[63955]} كما كانوا ، وقالت الأنصار : رضينا وسلمنا ، وفي رواية أنهم{[63956]} قالوا : اقسم فيهم{[63957]} هذه خاصة واقسم لهم{[63958]} من أموالنا ما شئت ، فنزلت{[63959]} { ويؤثرون على أنفسهم } - الآية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار ، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : جزاكم الله خيراً يا معشر الأنصار " ، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال العنزي : جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت *** بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أنا أمنا *** تلاقي الذي يلقون منا لملت{[63960]}
فهم لعمري الحقيقون باسم إخوان الصفا ، وخلان المروءة والوفاء ، والكرامة والاصطفا{[63961]} ، ورضي الله عنهم وعن تابعيهم من الكرام الخلفا والسادة والحنفا{[63962]} .