{ الذي خلق الموت والحياة } أي خلق بقدرته موت من شاء وما شاء موته ، وحياة من شاء وما شاء حياته من الممكنات المقهورة بسلطانه . والحياة صفة وجودية تقتضي الحس والحركة . والموت : صفة وجودية تضاد الحياة ، أو هو عدم الحياة عما هي من شأنه . وخلقه على المعنى الأول : إيجاده . وعلى الثاني : تقديره أزلا . { ليبلوكم } ليختبركم ، أي يعاملكم معاملة من يختبركم ، وإلا فهو سبحانه أعلم بكم{ أيكم أحسن عملا } أسرع في طاعة الله ، وأورع عن محارم الله ، وأتم فهما لما يصدر عن الله ، وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه سبحانه . والجملة مفعول ثان " ليبلوكم " لتضمنه معنى العلم ؛ فإن الاختبار طريق إليه .
الأولى- قوله تعالى : " الذي خلق الموت والحياة " قيل : المعنى خلقكم للموت والحياة ، يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة . وقدم الموت على الحياة ؛ لأن الموت إلى القهر أقرب ، كما قدم البنات على البنين فقال : " يهب لمن يشاء إناثا{[15175]} " [ الشورى : 49 ] . وقيل : قدمه لأنه أقدم ؛ لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطفة والتراب ونحوه . وقال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله تعالى أذل بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء ) . وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه ، الفقر والمرض والموت ، وإنه مع ذلك لو ثاب ) .
المسألة الثانية- " الموت والحياة " قدم الموت على الحياة ؛ لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم{[15176]} قال العلماء : الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما ، وتبدل حال ، وانتقال من دار إلى دار . والحياة عكس ذلك . وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل : أن الموت والحياة جسمان ، فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء - وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم السلام يركبونها - خطوتها مد البصر ، فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حيي ، ولا تطأ على شيء إلا حيي . وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي{[15177]} . حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس . والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي .
قلت : وفي التنزيل " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم{[15178]} " ، [ السجدة : 11 ] ، " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة{[15179]} " [ الأنفال : 50 ] ثم " توفته رسلنا{[15180]} " [ الأنعام : 61 ] ، ثم قال : " الله يتوفى الأنفس حين موتها{[15181]} " [ الزمر : 42 ] . فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم . وهو سبحانه المميت على الحقيقة ، وإنما يمثل الموت بالكبش في الآخرة ويذبح على الصراط ؛ حسب ما ورد به الخبر الصحيح . وما ذكر عن ابن عباس يحتاج إلى خبر صحيح يقطع العذر . والله أعلم . وعن مقاتل أيضا : خلق الموت ، يعني النطفة والعلقة والمضغة ، وخلق الحياة ، يعني خلق إنسانا ونفخ فيه الروح فصار إنسانا .
قلت : وهذا قول حسن ، يدل عليه قوله تعالى " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " وتقدم الكلام فيه في سورة " الكهف{[15182]} " . وقال السدي في قوله تعالى : " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " أي أكثركم للموت ذكرا وأحسن استعدادا ، ومنه أشد خوفا وحذرا . وقال ابن عمر : تلا النبي صلى الله عليه وسلم " تبارك الذي بيده الملك - حتى بلغ - أيكم أحسن عملا " فقال : ( أورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله ) . وقيل : معنى " ليبلوكم " ليعاملكم معاملة المختبر ، أي ليبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره ، وبالحياة ليبين شكره . وقيل : خلق الله الموت للبعث والجزاء ، وخلق الحياة للابتلاء . فاللام في " ليبلوكم " تتعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت ، ذكره الزجاج . وقال الفراء والزجاج أيضا : لم تقع البلوى على " أي " لأن فيما بين البلوى و " أي " إضمار فعل ، كما تقول : بلوتكم لأنظر أيكم أطوع . ومثله قوله تعالى : " سلهم أيهم بذلك زعيم{[15183]} " [ القلم : 40 ] أي سلهم ثم انظر أيهم . " فأيكم " رفع بالابتداء و " أحسن " خبره . والمعنى : ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا . " وهو العزيز " في انتقامه ممن عصاه . " الغفور " لمن تاب .
ودل على ذلك بقوله : { الذي خلق } أي قدر وأوجد .
ولما كان الخوف من إيقاع المؤلم أدعى إلى الخضوع ، لأنه أدل على الملك مع أن الأصل {[66653]}في الأشياء العدم{[66654]} ، قدم قوله : { الموت } أي هذا الجنس ، وهو زوال الحياة عن الحي ، الذي هو في غاية الاقتدار على التقلب بجعله جماداً كأن لم يكن به حركة أصلاً . أول ما يفعل في تلك الدار بعد استقرار{[66655]} كل فريق في داره هوأن{[66656]} يعدم هذا الجنس ، فيذبح بعد أن يصور في صورة كبش . { والحياة } أي هذا الجنس ، وهو المعنى الذي يقدر الجماد به على التقلب بنفسه وبالإرادة{[66657]} ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الموت خلقه الله على صورة كبش أملح ، لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات ، والحياة على صورة فرس بلقاء ، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها فلا يجد ريحها شيء إلا حيي ، وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها ، وألقاه على الحلي الذي ألقاه بنو إسرائيل ، ونوى أن يكون عجلاً فصار عجلاً{[66658]} .
ولما ذكر الدال على القدرة أتبعه غايته ، وهو الحكم الذي هو خاصة الملوك فقال تعالى : { ليبلوكم } أي يعاملكم وهو {[66659]}أعلم بكم{[66660]} من أنفسكم معاملة المختبر لإظهار ما عندكم من العمل بالاختيار . { أيكم أحسن عملاً } أي من جهة العمل ، أي عمله أحسن من عمل غيره ، وعبارة القرآن في إسناد{[66661]} الحسن إلى الإنسان تدل على أن من كان عمله أحسن{[66662]} كان هو أحسن ، ولو أنه أبشع الناس منظراً ، ومن كان عمله أسوأ{[66663]} كان بخلاف ذلك ، والحسن إنما يدرك بالشرع ، فما حسنه الشرع فهو الحسن{[66664]} وما قبحه فهو القبيح ، وكان ذلك مفيداً للقيام بالطاعة ، لأن من تفكر في حاله علم أنه مباين لبقية الحيوانات بعقله وللنباتات بحياته ، وللجمادات بنموه ، وأن ذلك ليس {[66665]}له من{[66666]} ذاته بدليل موته ، فما كان له{[66667]} ذلك إلا بفاعل مختار ، له الحياة من ذاته ، فيجتهد في رضاه باتباع رسله إن كان عاقلاً ، فيشكره إذا أنعم ، ويصبر إن {[66668]}امتحن وانتقم ، ويخدمه بما أمر ، وينزجر عما عنه زجره ، فهذه الآية مشتملة على وجود المقتضي للسعادة وانتفاء المانع{[66669]} منها ، ووجود المقتضي إعداد وإرشاد ، فالإعداد إعانته سبحانه للعبد بإعداده لقبول السعادة ، كالحداد يلين الحديد{[66670]} بالنار ليقبل أن يكون سكيناً ، والإرشاد أخذه بالناصية إلى ما أعد له كالضرب{[66671]} بالسكين وإصلاحها للقطع بها ، وانتفاء المانع هو الموقف{[66672]} عن ذلك وهو دفع {[66673]}المشوشات والمفسدات{[66674]} كتثلم السكين وهو يجري مجرى السبب وسبب السبب ، وهو ما اشتمل عليه{[66675]} قوله صلى الله عليه وسلم :
" اللهم أعني ولا تعن عليّ " الحديث{[66676]} ، فذكره لتمام القدرة والعزة مع ذكر الأحسن دال على توفيقه بما ذكر ، ومن تأمل الآية عرف أنه ما خلق إلا ليتميز جوهره من صدق غيره أو صدقه من جوهر غيره ، وأن الدنيا مزرعة ، وأن{[66677]} الآخرة محصدة ، فيصير من نفسه على بصيرة ، وثارت{[66678]} إرادته لما خلق له تارة بالنظر إلى جمال ربه من حسن وإحسان ، وأخرى إلى جلاله من قدرة وإمكان{[66679]} ، وتارة بالنظر لنفسه بالشفقة عليها من خزي الحرمان ، فيجتهد في رضا ربه وصلاح نفسه ، خوفاً من عاقبة هذه البلوى .
ولما كان لا يغفل الابتلاء منا إلا جاهل بالعواقب ، وعاجز عن رد المسيء عن{[66680]} إساءته ، وجعله محسناً من أول نشأته ، قال نافياً لذلك عن منيع جنابه ، بعد أن نفاه بلطيف تدبيره وعظيم أمره في خلق{[66681]} الموت والحياة ، ومزيلاً بوصف العزة لما قد يقوله من يكون قوي الهمة : أنا لا أحتاج إلى تعب كبير في الوصول إليه سبحانه بل أصل إليه{[66682]} أي وقت شئت{[66683]} بأيسر سعي { وهو } أي والحال أنه وحده { العزيز } أي{[66684]} الذي يصعب الوصول إليه جداً ، من العزاز وهو المكان الوعر و{[66685]}الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ، فلو أراد جعل الكل محسنين ، ولا يكون كذلك{[66686]} إلا وهو تام القدرة فيلزم تمام{[66687]} العلم والوحدانية ووجوب الوجود أزلاً وأبداً .
ولما كان العزيز منا يهلك كل من خالفه إذا علم مخالفته{[66688]} ، قال مبيناً إمهاله للعصاة مرغباً للمسيء في التوبة ، بعد ترهيبه من الإصرار على الحوبة ، لأنه قد يكون مزدرئاً لنفسه قائلاً : إن مثلي لا يصلح للخدمة لما لي من الذنوب{[66689]} القاطعة وأين التراب من رب{[66690]} الأرباب { الغفور * } أي أنه{[66691]} مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك ، ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق ، كما قال تعالى في الحديث القدسي : " ومن أتاني يمشي أتيته هرولة {[66692]} " .