{ في جيدها حبل من مسد } الجيد : العنق . والمسد : ما مسد ، أي فتل فتلا شديدا من الحبال من ليف أو جلد ، أو من لحاء شجر باليمن يسمى المسد ؛ أي في عنقها حبل مما مسد من الحبال . وهو تصوير لها بصورة الحطابة التي تحمل الحزمة ، وتربطها في عنقها بحبل ؛ تحقيرا لها ، لتمتعض من ذلك هي وزوجها ، إذ كانا في بيت العزة والشرف ، ومنصب الثروة والجدة . ويحتمل أن يكون المعنى : أنها تكون في جهنم على الصورة التي كانت عليها في الدنيا ؛ حين كانت تحمل حزمة الشوك لتلقيها في طريقه صلى الله عليه وسلم إيذاء له ؛ فلا تزال على ظهرها في النار حزمة من حطب شجرة الزقوم ، أو من الضريع . وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار ؛ كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه . وقد هلكت هي وزوجها كافرين .
قوله تعالى : " في جيدها " أي عنقها . وقال امرؤ القيس :
وجيدٍ كجيد الريم ليس بفَاحِشٍ *** إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ{[16549]}
" حبل من مسد " أي من ليف ، قال النابغة :
مقذوفةٍ بدخِيسِ النَّحْضِ بازِلُهَا *** له صريفٌ صريفُ القَعْوِ بالمسد{[16550]}
يا مَسَدَ الخُوصِ تعوَّذْ مني *** إن كنت لدْناً ليِّناً فإني
ما شئت من أشمط مُقْسَئِنّ{[16551]}
وقد يكون من جلود الإبل ، أو من أوبارها ، قال الشاعر :
ومسد أمرَّ من أيانقِ *** لَسْنَ بأنياب ولا حقائق{[16552]}
وجمع الجيد أجياد ، والمسد أمساد . أبو عبيدة : هو حبل يكون من صوف . قال الحسن : هي حبال من شجر تنبت باليمن تسمى المسد ، وكانت تفتل . قال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا ، فكانت تعير النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف ، فخنقها الله جل وعز به فأهلكها ، وهو في الآخرة حبل من نار . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : { في جيدها حبل من مسد } قال : سلسلة ذرعها سبعون ذراعا- وقاله مجاهد وعروة بن الزبير- تدخل من فيها ، وتحرج من أسفلها ، ويلوى سائرها على عنقها . وقال قتادة : { حبل من مسد } قال : قلادة من ودع . الودع : خرز بيض تخرج من البحر ، تتفاوت في الصغر والكبر . قال الشاعر :
والحلمُ حلمُ صبيٍّ يمرِثُ الوَدَعَهْ{[16553]}
والجمع : ودعات . الحسن : إنما كان خرزا في عنقها . سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقتها في عداوة محمد . ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة . وقيل : إن ذلك إشارة إلى الخذلان ، يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء ، كالمربوط في جيده بحبل من مسد . والمسد : الفتل . يقال : مسد حبله يمسِده مسدا ، أي أجاد فتله . قال{[16554]} :
يقول : إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار ويشده . ودابة ممسودة الخلق : إذا كانت شديدة الأسر{[16555]} . قال الشاعر :
ومَسَدٍ أُمِرَّ من أيانق *** صُهْبٍ عِتَاقٍ ذاتِ مُخٍّ زاهِقِ
لسن بأنيابٍ ولا حقائقِ{[16556]}
قال الفراء : هو مرفوع ، والشعر مكفأ{[16557]} . يقول : بل مخهن مكتنز ، رفعه على الابتداء . قال : ولا يجوز أن يريد ( ولا ضعاف زاهق مخهن ) ، كما لا يجوز أن تقول : مررت برجل أبوه قائم ، بالخفض . وقال غيره : الزاهق هنا : بمعنى الذاهب ، كأنه قال : ولا ضعاف مخهن ، ثم رد الزاهق على الضعاف . ورجل ممسود : أي مجدول الخلق . وجارية حسنة المسد والعصب والجدل والأرم{[16558]} ؛ وهي ممسودة ومعصوبة ومجدولة ومأرومة . والمساد ، على فعال : لغة في المساب{[16559]} ، وهي نحي السمن ، وميقاء العسل ، قال جميعه الجوهري . وقد اعترض فقيل : إن كان ذلك حبلها الذي تحتطب به ، فكيف يبقى في النار ؟ وأجيب عنه بأن الله عز وجل قادر على تجديده كلما احترق . والحكم ببقاء أبي لهب وامرأته في النار مشروط ببقائهما على الكفر إلى الموافاة{[16560]} ، فلما ماتا على الكفر صدق الإخبار عنهما . ففيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم . فامرأته خنقها الله بحبلها ، وأبو لهب رماه الله بالعدسة{[16561]} بعد وقعة بدر بسبع ليال ، بعد أن شجته أم الفضل{[16562]} . وذلك أنه لما قدم الحيسُمانُ مكة يخبر خبر بدر ، قال له أبو لهب : أخبرني خبر الناس . قال : نعم ، والله ما هو إلا أن لقينا القوم ، فمنحناهم أكتافنا ، يضعون السلاح منا حيث شاؤوا ، ومع ذلك ما لمت الناس . لقينا رجالا بيضا على خيل بلق ، لا والله ما تبقي منا . يقول : ما تبقي شيئا . قال أبو رافع : وكنت غلاما للعباس أنحت الأقداح في صفة زمزم ، وعندي أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، فرفعت طنب الحجرة ، فقلت : تلك والله الملائكة . قال : فرفع أبو لهب يده ، فضرب وجهي ضربة منكرة ، وثاورته{[16563]} ، وكنت رجلا ضعيفا ، فاحتملني ، فضرب بي الأرض ، وبرك على صدري يضربني . وتقدمت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فتأخذه وتقول : استضعفتَه أن غاب عنه سيده ! وتضربه بالعمود على رأسه فتفلقُه شجَّةٌ منكرة . فقام يجر رجليه ذليلا ، ورماه الله بالعدسة ، فمات ، وأقام ثلاثة أيام لم يدفن حتى أنتن ، ثم إن ولده غسلوه بالماء ، قذفا من بعيد ، مخافة عدوى العدسة . وكانت قريش تتقيها كما يتقى الطاعون . ثم احتملوه إلى أعلى مكة ، فأسندوه إلى جدار ، ثم رضموا{[16564]} عليه الحجارة .
{ في جيدها حبل من مسد } الجيد العنق والمسد الليف ، وقيل : الحبل المفتول ، وفي المراد به ثلاثة أقوال :
الأول : أنه إخبار عن حملها الحطب في الدنيا على القول الأول ، وفي ذلك تحقير لها ، وإظهار لخساسة حالها .
والآخر : أن حالها في جهنم يكون كذلك ، أي : يكون في عنقها حبل .
الثالث : أنها كانت لها قلادة فاخرة ، فقالت : لأنفقنها على عداوة محمد ، فأخبر عن قلادتها بحبل المسد على جهة التفاؤل والذم لها بتبرجها ، ويحتمل قوله : وامرأته وما بعده وجوها من الإعراب يختلف الوقف باختلافها ، وهي أن يكون امرأته مبتدأ ، و{ حمالة الحطب } خبره ، أو يكون { حمالة الحطب } نعت ، والخبر { في جيدها حبل من مسد } ، أو يكون امرأته معطوفا على الضمير في يصلى ، وحمالة الحطب نعت ، أو خبر ابتداء مضمر .