الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

قوله : ( لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ ) الآية [ 283 ] .

قال ابن عباس : " قوله : ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمُ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) ، منسوخة بقوله : ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) [ 285 ]( {[9194]} ) .

ومعنى قوله : " إنها منسوخة " ، أي نزلت على نسختها لأنها خبر ، والأخبار لا تنسخ( {[9195]} ) .

وقد قيل : إن الآية محكمة ، وإن( {[9196]} ) المؤمن والكافر يحاسبان بما أبديا( {[9197]} ) وأخفيا ، فيغفر للمؤمن ، ويعاقب الكافر( {[9198]} ) .

وقيل : إن الآية مخصوصة في كتمان الشهادة خاصة وإظهارها( {[9199]} ) .

روي ذلك عن ابن عباس( {[9200]} ) .

وروي عن عائشة( {[9201]} ) أنها قالت : / " ما هَمَّ به العبد من خطيئة عوقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا " ( {[9202]} ) .

قال ابن عباس " إذا جمع الله الخلائق يقول : أنا أخبركم بما أكننتم في أنفسكم . فأما المؤمنون فيغفر لهم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من شكهم وتكذيبهم ، فذلك قوله : ( فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَّشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَّشَاءُ ) [ 283 ]( {[9203]} ) .

قال ابن عباس : " لما نزلت هذه/ الآية وقع في قلوبهم شيء ، فقال لهم( {[9204]} ) النبي عليه السلام : " قُولُوا( {[9205]} ) : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا " ( {[9206]} ) ، فَأَلْقَى اللهُ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَأَنْزَلَ : ( امَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالمُومِنُونَ ) إلى ( أَوَ( {[9207]} ) اَخْطَأْنَا ) . قال : " قَدْ فَعَلْتُ " ( رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً ) ، قال : " قَدْ فَعَلْتُ " ، ( وَاعْفُ عَنَّا ) إلى آخر السورة . قال : " قَدْ فَعَلْتُ " ( {[9208]} ) .

وقال السدي : " وقعت عليهم شدة عند نزول : ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمُ أَوْ تُخْفُوهُ ) حتى نسخها ما( {[9209]} ) بعدها( {[9210]} ) " .

أي أزالت الشدة ، من قولهم : " نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ " ( {[9211]} ) أي أزالته( {[9212]} ) .

( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ 283 ] .

أي يقدر على العفو لما أخفته نفس المؤمن ، وعلى العقاب فيما أخفته نفس الكافر من الكفر والشك في الدين( {[9213]} ) .

وقال حذيفة : " سمعت النبي عليه السلام( {[9214]} ) يقول( {[9215]} ) : " أُعْطِيتُ آيَاتٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ ، لَمْ يُعْطَهَا( {[9216]} ) نَبِيٌّ قَبْلِي ، وَلاَ يُعْطَاهَا أَحَدٌ مِنْ بَعْدِي ، ثم قرأ : ( لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمُ ) حتى ختم السورة " ( {[9217]} ) .

وروى أبو هريرة أنه : " لما نزلت على النبي عليه السلام( {[9218]} ) هذه الآية : ( لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ ) ، وسمعوا فيها : ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمُ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجثوا( {[9219]} ) على الركب فقالوا : " لا نطيق( {[9220]} ) ، كلفنا من العمل ما لا نطيق ولا نستطيع ، فأنزل الله : ( امَنَ الرَّسُولُ ) إلى آخرها( {[9221]} ) .

وقال محمد بن كعب القرظي( {[9222]} ) : " ما بعث الله نبياً إلا أمره أن يعرض على قومه ، ( لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ ) إلى قوله : ( وَيُعَذِّبْ مَنْ يَّشَاءُ ) إلا قالوا : لا نطيق أن نؤاخذ بما نوسوس في قلوبنا ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزلها عليه فآمن بها ، وعرضها على قومه ، فآمنوا بها ، وقالوا : ( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ) ، قال : فخفف الله عنهم ، فأنزل : ( امَنَ الرَّسُولُ )( {[9223]} ) .

وحكى عنهم " أنهم قالوا : ( سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) وأنزل الله : ( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً اِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) ، فنسخ المؤاخذة بالوسوسة . وقاله ابن مسعود( {[9224]} ) .

وقالت عائشة( {[9225]} ) : هو الرجل يهم بالمعصية ، ولا يعملها ، فيرسل عليه من الهم والحزن بقدر ما همَّ به من/ المعصية ، فذلك محاسبته " ( {[9226]} ) .

وروي أنها لما نزلت قال النبي [ عليه السلام ]( {[9227]} ) : " وَيَحِقُّ لَهُ أَنْ( {[9228]} ) يُؤْمِنَ " ( {[9229]} ) يعني نفسه .

وروي أنهم شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم( {[9230]} ) شدة ما يلقون من قوله : ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمُ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ) ، / فقال لهم النبي [ عليه السلام ]( {[9231]} ) : " لَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا " كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ . بَلْ قُولُوا( {[9232]} ) : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا " ( {[9233]} ) فأنزل الله ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم( {[9234]} ) .

وقرأ ابن عباس وابن مسعود : " لاَيُفَرِّقُ " بالياء( {[9235]} ) ، رد على ( كُلٌّ ) أي " كُلٌّ لاَ يُفَرِّقُ " .


[9194]:- انظر: تفسير مجاهد: 1/118، والإيضاح لناسخ القرآن: 167، ونواسخ القرآن: 98.
[9195]:- انظر هذا التوجيه في: المحرر الوجيز: 2/383، وتفسير القرطبي: 3/422.
[9196]:- في ع2: إلى.
[9197]:- في ع3: أبديان. وهو تحريف.
[9198]:- انظر: الإيضاح لناسخ القرآن: 167-168، ونواسخ القرآن: 101.
[9199]:- وهو قول عكرمة والشعبي في جامع البيان: 6/102، والمحرر الوجيز: 2/381.
[9200]:- انظر: الإيضاح لناسخ القرآن: 168، وناسخ القرآن: 102، والمحرر الوجيز: 2/381.
[9201]:- في ع3: عائشة رضي الله عنها.
[9202]:- انظر: نواسخ القرآن: 101، وتفسير القرطبي: 3/422.
[9203]:- المصدر السابق.
[9204]:- سقط من ع2، ع3.
[9205]:- في ق: قالوا.
[9206]:- في ع1، ع2، ق: سلما.
[9207]:- في ع2: و.
[9208]:- انظر: صحيح مسلم: 1/116، وسنن الترمذي: 5/521-522، ومستدرك الحاكم: 2/285.
[9209]:- سقط من ع2.
[9210]:- انظر: جامع البيان: 6/112.
[9211]:- في ع3: في. وهو تحريف.
[9212]:- انظر: مفردات الراغب: 511، واللسان: 3/624.
[9213]:- انظر هذا التوجيه في: جامع البيان: 6/123.
[9214]:- في ع3: صلى الله عليه وسلم.
[9215]:- في ق: يقال. وهو تحريف.
[9216]:- في ع3: يعطيها. وهو خطأ.
[9217]:- رواه أحمد في مسنده: 38305، والنسائي في فضائل القرآن: 79.
[9218]:- في ع3: صلى الله عليه وسلم.
[9219]:- في ق، ع3: فحثوا. وهو تصحيف.
[9220]:- في ع1: تطيق، وهو تصحيف.
[9221]:- انظر: مسند أبي عوانة: 1/77، وأسباب النزول: 80-81، ولباب النقول: 50، وهو أيضاً قول ابن مسعود. راجع تفسيره: 2/150-151.
[9222]:- في ع2: القرطبي، وهو تصحيف.
[9223]:- نسبه القرطبي في تفسيره: 3/423 إلى سفيان بن عيينة.
[9224]:- انظر: جامع البيان: 6/110.
[9225]:- في ع2، ق، ع3: عائشة رضي الله عنها.
[9226]:- انظر: جامع البيان: 6/116، وتفسير القرطبي: 3/422.
[9227]:- في ح، ق، ع3: صلى الله عليه وسلم.
[9228]:- في ع3: يومر، وهو تحريف.
[9229]:- رواه الحاكم وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي".انظر: المستدرك: 2/287.
[9230]:- في ع1: صلى الله عليه وسلم. وفي ع2: عليه السلام.
[9231]:- في ع3: صلى الله عليه وسلم.
[9232]:- سقط من ق، ع3.
[9233]:- انظر: تفسير القرطبي: 3/428.
[9234]:- في ع2: السلام.
[9235]:- انظر: جامع البيان: 6/126، وتفسير القرطبي: 3/429، وهي أيضاً قراءة يعقوب في النشر: 2/237، والتحبير: 95.