قوله : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ . . ) الآية [ 52-63 ] معناه : فلما ( علم )( {[10022]} ) عيسى صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون قتله وأحس بمعنى : وجد وعلم برزية أو غيرها( {[10022]} ) .
يقال : أحس( {[10024]} ) الأمر إذا علمه ، وحس القوم قتلهم ، والحس حس الدابة من الغبار ، والحس ضد البرد( {[10025]} ) .
وقيل معناه : فلما علم عيسى صلى الله عليه وسلم الجحود به ، والتكذيب له( {[10026]} ) .
( قَالَ مَنَ اَنْصَارِيَ إِلَى اللَّهِ ) أي : من أعواني على هؤلاء ( مع الله )( {[10027]} ) . وإلى بمعنى : " مع " ( {[10028]} ) .
وكان من قصة عيسى صلى الله عليه وسلم( {[10029]} ) ما حكاه السدي في حكاية طويلة نذكر معناها مختصراً ، قال : كذبت( {[10030]} ) بنو إسرائيل عيسى صلى الله عليه وسلم ، وأخرجته حين دعاهم إلى الإيمان به ، فخرج هو وأمه ، فنزل على رجل ، فأضافهما وأحسن إليهما ، وكان على تلك المدينة جبار معتد ( فجاء ) صاحب البيت يوماً وعليه ، حزن وهم ، فقالت مريم لزوجته : ما شأن زوجك( {[10031]} ) ؟ أراه حزيناً( {[10032]} ) ؟ فأبت أن تخبرها بشيء ، فقالت لها مريم : أخبريني لعل الله عز وجل يفرج كربته ، قالت المرأة لمريم : إن لنا ملكاً جباراً يجعل على كل رجل منا يوماً يطعمه هو وجنوده ويسقيهم من الخمر ، فإن لم يفعل عاقبه ، وقد بلغت نوبته اليوم علينا [ وليس معنا سعة ، فقالت مريم لها : فقولي له : فلا يهتم فإني آمر( {[10033]} ) ابني [ أن ] يدعو له( {[10034]} ) ، فَيُكْفَى ]( {[10035]} ) . فقالت مريم لعيسى صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم : " يا أمه إني إن فعلت كان في ذلك شر ، قالت : فلا تبال( {[10036]} ) ، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا ، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم فقولي له : إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ، فلما ملأهن أعلمه فدعا عيسى صلى الله عليه وسلم الله عز وجل فحول ما في القدور لحماً ومرقاً وخبزاً وما في الخوابي خمراً لم ير مثله ، فلما جاء الملك أكل وشرب فقال : من أين لك هذا ؟ وتقصى عليه حتى أخبره فقال : عندي غلام لا يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه وأنه دعا الله حتى جعل الماء خمراً ، وكان قد توفي للملك ابن ، فقال : إن رجلاً دعا الله حتى رد الماء خمراً ليستجيبن له حتى يحيي ابني ، فدعا عيسى صلى الله عليه وسلم ، فكلمه وسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه – فقال عيسى صلى الله عليه وسلم : " لا تفعل [ فإنه إن( {[10037]} ) ] عاش كان شراً ، فقال الملك : لا أبالي أراه فقط ، فاشترط عليه عيسى صلى الله عليه وسلم أن يحيي ولده ، ويتركه هو وأمه يخرجان فشرط له ذلك فدعا الله تعالى ، فقام الغلام ، وانصرف عيسى صلى الله عليه وسلم( {[10038]} ) .
فلما رأى أهل المملكة( {[10039]} ) الغلام عاش تنادوا بالسلاح وقالوا : قد أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه ، فاقتلوه .
ومر( {[10040]} ) عيسى صلى الله عليه وسلم وأمه فصحبهما يهودي وكان مع اليهودي رغيفان ، ومع عيسى صلى الله عليه وسلم رغيف فقال له عيسى صلى الله عليه وسلم : تشاركنا ؟ فقال اليهودي : نعم ، فلما رأى اليهودي أن ليس مع عيسى إلا رغيف ندم فلما نام( {[10041]} ) جعل اليهودي يأكل الرغيف ، فلما أكل لقمة قال له عيسى صلى الله عليه وسلم : ما تصنع ؟ فيقول : لا شيء حتى فرغ( {[10042]} ) [ من ]( {[10043]} ) الرغيف كله ، فلما أصبحا قال له عيسى صلى الله عليه وسلم : طعامك فجاء برغيف ، فقال له عيسى صلى الله عليه وسلم : أين الرغيف الآخر ؟ قال : ما كان معي إلا واحد .
ثم انطلقوا حتى مروا براعي غنم فقال( {[10044]} ) عيسى صلى الله عليه وسلم : يا صاحب الغنم أجزرنا شاة من غنمك ، قال الراعي : نعم ، أرسل صاحبك يأخذها : فأرسل عيسى صلى الله عليه وسلم اليهودي( {[10045]} ) فجاءه( {[10046]} ) بالشاة( {[10047]} ) ، فذبحوها وشووها ثم قال لليهودي : كل ولا تكسر عظماً . فأكلوا حتى شبعوا فرد عيسى صلى الله عليه وسلم العظام في الجلد ثم ضربها بعصاه ، وقال : قومي بإذن الله . فقامت الشاة ، فقال : يا صاحب الغنم : خذ شاتك فقال له الراعي : من أنت ؟ قال : أنا عيسى ابن مريم ، قال له : أنت الساحر ، وفر منه ، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم لليهودي : بالذي أحيى هذه الشاة بعدما أكلناها ، كم كان معك رغيفاً ؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد .
فمروا بصاحب بقر ، فسأله عيسى صلى الله عليه وسلم عجلاً فأعطاه عجلاً فذبحه ، وشواه وأكله ، وصاحب البقر ينظر ، ثم جمع عيسى صلى الله عليه وسلم العظام في الجلد وقال : قم بإذن الله ، فقام وله خوار ، فقال : يا صاحب البقر ، خذ عجلك فقال : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى ، قال : عيسى الساحر( {[10048]} ) ، ثم فر منه ، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم لليهودي : بالذي أحيى الشاة بعدما أكلناها ، والعجل بعدما أكلناه ، كم كان معك رغيفاً ؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد .
ثم انطلقا( {[10049]} ) حتى أتيا قرية ، فنزل عيسى صلى الله عليه وسلم في أسفلها واليهودي في أعلاها ، فأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى صلى الله عليه وسلم وقال : أنا أحيي الموتى وكان يملك تلك القرية مرض شديد فانطلق اليهودي ينادي من يبتغي( {[10050]} ) طبيباً ؟ حتى أتى باب الملك ، فأخبر بمرض الملك فقال : أدخلوني عليه فأنا أبرئه ، فدخل عليه فأخذ برجله ، وضربه بالعصا كما كان عيسى صلى الله عليه وسلم يفعل ، فمات الملك من الضربة فأخذ اليهودي ليصلب فبلغ عيسى صلى الله عليه وسلم الخبر ، فأتى ووجده قد رفع على الخشبة [ فقال( {[10051]} ) ]( {[10052]} ) : أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركولي صاحبي ؟ قالوا : نعم ، فأحيى عيسى صلى الله عليه وسلم الملك ، وأنزل اليهودي فقال : يا عيسى أنت أعظم الناس علي منة ، والله لا أفارقك أبداً ، قال له عيسى صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالذي أحيى الشاة والعجلة بعدما أكلناها وأحيى هذا بعد [ ما ] مات( {[10053]} ) ، وأنزلك من الجذع بعدما رفعت عليه كم كان معك رغيفاً ؟ فحلف اليهودي بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد .
فانطلقا حتى مرَّا( {[10054]} ) على كنز قد حفرته السباع فقال اليهودي : يا عيسى هذا المال ؟ فقال له عيسى صلى الله عليه وسلم : دعه فإن له أهلاً يهلكون عليه وجعل اليهودي يتشوق إلى المال ، ويكره أن يعصي عيسى صلى الله عليه وسلم ، فانطلقا .
ومر بالمال بعدهما أربعة نفر ، فلما رأوه اجتمعوا عليه فقال اثنان لصاحبيهما( {[10055]} ) . انطلقا فابتاعا لنا طعاماً ودواباً نحمل( {[10056]} ) عليها هذا المال ، فانطلق الرجلان فابتاعا ذلك فقال أحدهما لصاحبه : هل لك أن تجعل لصاحبينا( {[10057]} ) في طعامهما سماً ؟ فإذا أكلا ماتا ، فيصير المال بيني وبينك ، فقال الآخر : نعم ، ففعلا ، وقال الآخران الباقيان مع المال : إذا أتى صاحبانا( {[10058]} ) فليقم كل واحد منا إلى صاحبه فيقتله( {[10059]} ) فيكون الطعام والمال بيننا ، فاتفقا على ذلك .
فلما جاء صاحباهما( {[10060]} ) ، قتلاهما ، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه ، فماتا ، فرجع عيسى صلى الله عليه وسلم إلى المال فوجد القوم عليه موتى ، فقال لليهودي : أخرجه حتى نقسمه( {[10061]} ) ، فأخرجه اليهودي فجعل عيسى صلى الله عليه وسلم يقسمه على ثلاثة ، فقال اليهودي : اتق( {[10062]} ) الله ولا تظلمني ، فإنما هو أنا وأنت ، ما هذه الثلاثة ؟ فقال له عيسى صلى الله عليه وسلم : هذا لي ، وهذا لك ، وهذا لصاحب الرغيف ، قال اليهودي : وإن أخبرتك بصاحب الرغيف تعطيني هذا المال ؟ قال [ عيسى( {[10063]} ) ] صلى الله عليه وسلم : نعم ، قال : أنا هو ، فقال له عيسى صلى الله عليه وسلم : خذ حظي وحظك ، وحظ صاحب الرغيف ، فهو حظك من الدنيا والآخرة ، فلما حمله مشى [ به ]( {[10064]} ) شيئاً( {[10065]} ) فخسف به( {[10066]} ) .
وانطلق عيسى صلى الله عليه وسلم فمر بالحواريين وهم يصطادون السمك فأعلمهم بنفسه فآمنوا به وانطلقوا معه فذلك قوله : ( مَنَ اَنصَارِيَ إِلَى اللَّهِ ) .
وقيل( {[10067]} ) : إنما سموا حواريين لبياض ثيابهم وكانوا صيادين .
وقيل : سموا( {[10068]} ) بذلك لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب .
وقيل( {[10069]} ) : كانوا غسالين يغسلون الثياب .
وقال قتادة : " الحواريون خاصة الأنبياء الذين تصلح لهم الخلافة( {[10070]} ) .
وقال الضحاك : الحواريون الأصفياء الأنبياء صلوات الله عليهم( {[10071]} ) .
وروي أن( {[10072]} ) مريم دفعت عيسى صلى الله عليه وسلم في صغره في أعمال شتى ، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يبيضون الثياب ، ويصبغونها فأراهم آيات( {[10073]} ) وصبغ لهم ألواناً شتى من ماء واحد فآمنوا به واتبعوه .
وروي أنه أدخل ثياباً كثيرة بيضاء في خابية واحدة وخرجت مختلفة الألوان كما أرادوا ، فعجبوا من ذلك ، وأيقنوا أنه ليس بسحر فآمنوا [ به ]( {[10074]} ) واتبعوه .
قوله : ( وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) هذا قول الحواريين لعيسى صلى الله عليه وسلم ، فدل ذلك أن عيسى صلى الله عليه وسلم كان على ذلك ، لا على اليهودية ولا على النصرانية ولكن كان مسلماً وكذلك برأ الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم من سائر الأديان إلا من الإسلام .