ثم قال تعالى : { إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم } .
العامل في إذ عند الطبري { تعملون } ، أي : وكان الله بصيرا بعملكم إذ جاؤوكم {[55307]} .
وقيل : التقدير : اذكر إذ جاؤوكم .
وقيل : هي بدل من إذ الأولى {[55308]} .
والاختيار لمن قرأ " الظنونا " و " الرسولا " و " السبيلا " بألف أن يقف عليها لأنها إنما جيء بالألف في هذا على التشبيه بالقوافي والفواصل التي يوقف عليها بالألف فيجب أن تجري مجرى ما شبهت به . وهي مع ذلك تمام ووقف حسن {[55309]} .
وقيل : إن هذه الألفات إنما جيء بها لبيان حركة ما قبلها كهاء السكت ، فهذا مؤكد الوقف عليها لمن أثبتها في الوصل والوقف . ويدل على قوة الوقف عليها لمن أثبتها ، قراءة الكسائي {[55310]} وابن كثير {[55311]} وحفص {[55312]} بألف فيهن في الوقف دون الوصل {[55313]} .
ومعنى الآية : واذكروا إذ جاءتكم جنود الأحزاب من فوقكم ومن أسفل منكم .
قال يزيد بن رومان {[55314]} : الذين جاؤوهم من فوقهم بنو قريظة ، والذين جاؤوهم من أسفل منهم قريش وغطفان {[55315]} . ومعنى { ومن أسفل } من ناحية مكة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر بني قريظة ولم يؤذهم وكتب لهم عهودا ، وكتبوا له في الموادعة والصلح ، فنقضوا العهود وجمعوا عليه الجموع ونافقوا [ عليه ] {[55316]} مع قريش وكان المتولي لذلك حيي بن أخطب {[55317]} استمد {[55318]} على النبي صلى الله عليه وسلم بقريش ومن اتبعه من العرب ، واستمدت قريش بعيينة بن بدر {[55319]} فأقبل بمن أطاعه من غطفان .
واستمدت غطفان بحلفائهم من بني أسد ، واستمدوا الرجال من بني سليم {[55320]} فخرجوا في جمع عظيم ، فهم الذين سماهم الله الأحزاب ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خروجهم أخذ في حفر الخندق ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في العمل فعملوه مستعجلين يبادرون قدوم العدو ، ورأى المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بطش {[55321]} معهم في العمل ليكون أجد لهم وأقوى بإذن الله . فذكر أنه عرض لهم حجر في محفرهم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم معولا من أحدهم فضرب به ثلاثا فكسر الحجر في الثالثة ، فذكر أن سلمان الفارسي أبصر عن كل ضربة برقة {[55322]} ذهبت ثلاثة وجوه ، كل مرة يتبعها سلمان بصره ، فذكر ذلك سلمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قد رأيت كهيئة البرق وموج الماء عند كل ضربة ضربتها يا رسول الله ، ذهبت إحداهن من نحو المشرق ، والأخرى نحو اليمن ، والأخرى نحو الشام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أوقد رأيت ذلك يا سلمان ؟ قال : نعم رأيت ذلك/ قال : فإنه ابيض إحداهن مدائن كسرى ومدائن تلك البلاد ، وفي الأخرى مدينة الروم والشام ، والأخرى مدائن اليمن وقصورها ، والتي رأيت [ بالبصر ] {[55323]} تبلغهن الدعوة إن شاء الله " {[55324]} .
وكان حفر الخندق في شوال في سنة أربع من الهجرة ، فلما تم الحفر أقبل أبو سفيان {[55325]} ومن معه من المشركين فنزلوا بأعلى وادي [ فينا ] {[55326]} من تلقاء الغابة فحاصروهم قريبا من عشرين يوما . وقيل أكثر من ذلك .
فلما اشتد البلاء على المسلمين نافق كثير من الناس وتكلموا بكلام قبيح ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما الناس فيه من البلاء جعل يبشرهم ويقول : " والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة ، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا ، وأن تدفع إلي مفاتيح الكعبة ، وليهلكن الله قيصرا ولننفقن أموالهم في سبيل الله " {[55327]} فقال رجل من المنافقين : ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق ، وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن هاهنا لا يؤمن أحدنا أن يذهب لغائط ، ما يعدنا إلا غرورا .
وقال آخرون منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ، وقال آخرون : إئذن لنا فإن بيوتنا عورة ، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ليذكرهم حلفهم ويناشدهم ، فسبوا الرسل وعندوا عن الحق وأبوا إلا نقض العهد والخلاف عليه فشق ذلك على النبي عليه السلام والمسلمين ، فلما اشتد الأمر على المسلمين قال النبي عليه السلام : " اللهم إني أسألك عهدك ووعدك ، اللهم إن تشاء لا تعبد " {[55328]} .
وأقبل نوفل بن عبد الله المخزومي {[55329]} ، من المشركين على فرس له ليقحمه على الخندق ، فوقع في الخندق فقتله الله وكبت {[55330]} به المشركين ، وعظم في صدورهم فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يعطوه الدية على أن يدفعه إليهم ليدفنوه فأبى أن يأخذ منهم شيئا ، ولم يمنعهم من دفنه {[55331]} . ورمي يومئذ سعد بن معاذ {[55332]} رمية قطعت الأكحل {[55333]} من عضده ، فقال : اللهم اشفني من بني قريظة قبل الممات ، فرقا {[55334]} الدم بعدما انفجر {[55335]} . وكان هو الذي وجهه النبي عليه السلام إلى بني قريظة يذكرهم العهد ويناشدهم الله فيما عقدوا مع النبي ، فسبوه وأبلغوا فيه ، فرجع إلى النبي مغضبا عليهم ، فلما فرج الله تعالى عن المسلمين وتفرقت الأحزاب عنهم ، أمر الله نبيه بقتال بني قريظة ، فخرج النبي عليه السلام إليهم فقاتلهم ، فتحصنوا في حصونهم ، فحاصرهم بضع عشر ليلة فعظم عليهم البلاء ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيهم رجلا ، وأن يختاروا من شاؤوا من أصحابه ، فاختاروا سعدا فنزلوا على حكمه ، فحكم فيهم سعد بأن يقتل مقاتلهم وتسبى نساؤهم وذراريهم وتقسم أموالهم ، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد : " حكمت فيهم بحكم الله " {[55336]} فقتل رسول الله مقاتلهم وكانوا ست مائة مقاتل وسبى ذراريهم ثم أعقب الدم على سعد فلم يرقأ حتى مات رضي الله عنه ، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل عليه السلام حيث قبض سعد من جوف الليل معتجرا بعمامة {[55337]} من استبرق {[55338]} فقال : يا محمد من هذا الحبيب الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد فوجده قد مات {[55339]} وقال حملة نعش سعد : إن كان لبادنا {[55340]} وما حملت جنازة أخف منه ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن له حملة غيركم والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد واهتز له العرش " {[55341]} .
ابن القاسم عن مالك قال : حدثني يحيى بن سعيد {[55342]} : لقد نزل لموت سعد سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبلها {[55343]} .
ثم قسم رسول الله أموالهم بين من حفر من المسلمين المهاجرين خاصة ، وكان جميع الخيل التي مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة وثلاثين فرسا ، فقسم لكل فرس سهمين ، وأخرج حيي بن أخطب {[55344]} فقال له النبي عليه السلام/ : " هل أخزاك الله ؟ فقال : قد ظهرت علي ، وما لمت نفسي في جهادك والشدة عليك ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فضربت عنقه ، كل ذلك بعين سعد بن معاذ " {[55345]} .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كاتبهم ، وذلك أنه دس على الأحزاب من قال لهم : إن بني قريظة أرسلوا إلى النبي يدعونه إلى الصلح على أن يرد بني النضير إلى دورهم وأموالهم ويدفعون إليه الرهن الذي عندهم من رجال قريش ، وذلك أن بني النضير قالت لقريش : لا نقاتل معكم حتى تعطونا سبعين رجلا منكم رهنا عندنا ، فلما بلغ ذلك قريشا عظم عليهم الأمر ووجهوا إلى بني النضير أن يقاتلوا معهم ، فقالت بنو النضير : وجهوا إلينا الرهن ، ونقاتل ، فتحقق الأمر عند قريش ، فعملوا على الانصراف [ عن ] {[55346]} النبي عليه السلام مع ما حل بهم من الريح ، وما دخل قلوبهم من الرعب ، فكان ذلك كله من سبب تفرقهم عن النبي لطفا من الله بالمؤمنين .
وروي أن الرجل الذي مضى بذلك إلى قريش هو نعيم {[55347]} بن مسعود {[55348]} ، فلما قضى الله قضاءه في بني قريظة وصرف المشركين عن النبي نزل القرآن يعرف الله المؤمنين نعمته التي أنعم عليهم من الريح والجنود التي أرسل على عدوهم .
وقوله : { وتظنون بالله الظنونا } هو ما كان المنافقون يخوضون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقولهم : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ، وقولهم : لا مقام لكم ، فأمر بعضهم بعضا بالانصراف عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر الله تعالى المسلمين وصبرهم على البلاء ، وأن منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، ولم يبدلوا دينا ولا نية على ما كانوا عليه {[55349]} .
وروي أن قوله : { من المؤمنين رجال } نزلت في قوم من المؤمنين تخلفوا عن بدر لعذر منعهم ، فعاهدوا الله لئن جاءهم مثل يوم بدر ليرين مكانهم ، فلما كان يوم أحد قال بعضهم حتى مات ، ووفى بعهده ، فهو قوله جل ذكره : { فمنهم من مضى نحبه } وبقي بعضهم سالما ، وهو قوله : { ومنهم من ينتظر } ثم أخبر عنهم أنهم ما بدلوا يعني : عهدهم بم ينقضوه .
ثم ذكر أنه تعالى رد الكافرين بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وأنه كفى الله المؤمنين قتالهم ، ثم ذكر بني قريظة ونصره للمؤمنين عليهم ، فقال : { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب } أي : عاونوا قريشا ومشركي العرب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . { من صياصيهم } أي : من حصونهم ، يعني بني قريظة ، وأنه قذف في قلوبهم الرعب .
{ فريقا تقتلون وتاسرون فريقا } أي تقتلون المقاتلة ، وتسبون النساء والأطفال ، وأنه أورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم وأنزل الله في ذلك تسعا وعشرين آية أولها : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } {[55350]} .
ومعنى { زاغب الأبصار } : شخصت من الخوف .
والبصر الناظر ، وجملة العين مقلة وهي شحمة العين : البياض والسواد ، وفي المقلة الحدقة ، وهي السواد الذي في وسط المقلة ، وفي الحدقة الناظر ، وهو موضع البصر يسمى الإنسان {[55351]} ، والعين كالمرآة يرى فيها الوجه وفيها الناظر ، وهما عرقان على حرفي الأنف يسيلان من المؤقين {[55352]} إلى الوجه ، وفيها أشياء كثيرة قد ذكرت في خلق الإنسان .
وقوله : { وبلغت القلوب الحناجر } أي نبت عن أماكنها من الرعب .
قال قتادة : لولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت {[55353]} .
وقيل : المعنى بلغ وجفها {[55354]} من شدة الفزع الحلوق ، فهي بالغة الحلوق بالوجيف {[55355]} .
ثم قال تعالى : { وتظنون بالله الظنونا } أي : ظننتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغلب .
هذا خطاب للمنافقين ، ظنوا ظنونا كاذبة فأخلف الله ظنهم بنصره للمؤمنين .