تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى فَٱعۡتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلۡمَحِيضِ وَلَا تَقۡرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطۡهُرۡنَۖ فَإِذَا تَطَهَّرۡنَ فَأۡتُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ} (222)

الآية 222 وقوله تعالى : ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) دل جوابه على أن السؤال كان عن قربان النساء في الحيض أو كان عن موضع الحيض ، فأخبر [ عز وجل ]{[2542]} أنه ( أذى ) ، والعرب تفعل ذلك ؛ ربما أن تفهم من الجواب مراد السؤال ، وربما تبين المراد في السؤال ، وإذا جاز أن يتبع غير وقت الأذى بالاتصال ، والله أعلم ، ولا يحتمل أن يكون الأمر باعتزال يقع على اعتزال الأبدان والأشخاص بالاتفاق ؛ إذ كل يجمع أن يمسها باليد أو أن يقبلها وغير ذلك ، إلا أنهم اختلفوا في موضع الاستمتاع .

قال أبو حنيفة رضي الله عنه : ( يستمتع بها ما فوق السرة وما تحت الركبة ، ويجتنب غير ذلك ) ، وقال محمد [ رضي الله عنه ] {[2543]} : { يجتنب شعار الدم } ، على ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { يتقي شعار الدم ، وله ما سوى ذلك } . ثم دل هذا الخبر على أن النهي في الموضع الذي فيه الأذى ؛ دليله أول الآية ( قل هو أذى ) .

وحجة أبي حنيفة رضي الله عنه ما روي أنه قال : { لها ما تحت السرة ، وله ما فوقها } ، وما روى أن أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم " إذا حضن أمرهن أن يتزرن ، ثم يضاجعهن " [ بنحوه النسائي في الكبرى : 9070 ] .

وأما محمد ، رحمه الله تعالى ، فإنه ذهب إلى ما ذكرنا أنه إنما{[2544]} ينهى عن قربان ذلك الموضع للأذى . وأما الموضع الذي لا أذى فيه فلا بأس ، ويجوز أن ينهى عن قربان هذه الأعضاء من نحو الفخذ وغيرها لاتصالها بالموضع الذي فيه الأذى .

ويحتمل أن يكون ذكر الإزار كناية عن الموضع ؛ وعلى ذلك روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عما يحل للرجل من امرأته ، وهي حائض ؟ فقالت : ( يحل له كل شيء إلا النكاح ) ، وسئلت عما يحل للمحرم من امرأته ؟ فقالت : ( لا يحل له شيء إلا الكلام ) .

وقوله : ( ولا تقربوهن ) أي لا تجامعوهن ( حتى يطهرن فإذا طهرن ) فيه لغتان : {[2545]} في حرف بعضهم [ بالتشديد ، وفي حرف آخرين بالتخفيف ]{[2546]} ؛ فمن قرأ بالتخفيف فهو عبارة عن انقطاع الدم ، [ ومن قرأ بالتشديد فإنه عبارة عن حل قربانها بعد الاغتسال ]{[2547]} . ثم من قول أصحابنا ، رحمهم الله تعالى ، أن المرأة إذا كانت أيامها عشرا يحل لزوجها أن يقربا قبل أن تغتسل ، وإذا كانت أيامها دون العشر لم يحل له أن يقربها إلا بعد الاغتسال ، ويحتمل أن تكون الآية فيما كانت أيامها دون العشر في اللغتين ؛ إذ الغالب كان على أن الحيض لا يحيط بكل وقت ، على ما روي [ أنه صلى الله عليه وسلم قال لحمنة{[2548]} بنت جحش : تحيض ]{[2549]} في علم الله من الشهر ستا أو سبعا " [ الترمذي : 128 ] . فعلى ذلك أنه إنما يحل قربانها بالاغتسال .

قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : في قوله : ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) ( إنه على ما دون العشر من المدة ؛ الغالب كان على ألا يمتد إلى أكثر الوقت ، ولا يقصر{[2550]} عن الأقل ، والله أعلم ، على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في النساء : " هن ناقصات بالعقل والدين ] " {[2551]} [ البخاري : 304 ] ، ووصف نقصان دينهن أن تحيض{[2552]} إحداهن في الشهر ستا أو سبعا ؛ وصفهن جملة بنقصان الدين{[2553]} ، ثم ذكر ما بين في التفسير عن الجملة ؛ ثبت أن ذلك كان الغالب في الجملة حتى خرج عليه الجواب أنه لا يمتد إلى الأكثر ولا يقصر{[2554]} عن الأقل ، والله أعلم ) .

وأيد هذا ما أخبر في{[2555]} ابتداء الآية أنه الأذى ، وأمر بالاعتزال ، ثم جعل له بعد الانقطاع قبل الاغتسال حكم الأذى ، فلم يجز ان يجعل الحكم لما ليس بحقيقة الأذى ، فيجعل للطهر الذي هو ضده ذلك الحكم ، والله أعلم ، وبما ليس لذلك حكم الأذى في العشر ، إن كان الوقت يضيق عنه في رفع الصلاة ، فكذا في القربان ، والله أعلم ، وعلى ما ذكرت من العرف ينصرف أمر الوقت أنها لو أخرت الاغتسال عن وقت الصلاة كان للزوج أن يقربها لما لزمها من قضاء الصلاة ؛ وهذا النوع من الأذى لا يمنع لزوم القضاء ، وحصل الخطاب على الوقت بالعرف أنهن لا يؤخرن وبما ذكرت عن لزوم القضاء الذي يمنعه حكم الأذى ، وبذلك صار غسل الحيض كغسل غيره من الأحاديث ، وهو لا يمنع القربان ، والله أعلم .

[ وحرم ]{[2556]} إتيان الأدبار بما عليه اتفاق الآثار وبما خص المكان بالأمر بالقربان وبما أمر بالاعتزال للحيض . ولو كان يحل غشيانهن في الأدبار لم يكن للأمر بالاعتزال معنى ؛ إذ قد بقي أحد الموضعين من المقصود بالغشيات ، لو احتمل ، والله أعلم .

والأصل في ذلك أن الحل في الابتداء لم يتعلق بقضاء الشهوات ، ولا كان{[2557]} هذا لها ، وإنما القضاء للشهوات خاصة الجنة ؛ فأما الدنيا فإنما جعلت لتبعثهم لقضاء الحاجات ؛ إذ بها يكون بقاء النسل والأبدان ، وبها يكون قوام الأبدان ودوام الحياة إلى انقضاء الأعمال ، وركبت فيهم الشهوات لتبعثهم على قضاء تلك الحاجات ؛ إذ لولا الشهوة لكان كل أمر من ذلك على الطباع ، يكون كالأدوية والمحنة الشديدة . فخلق الله فيهم الشهوات ليدوم ما به جرى تدبيره في أمر العالم ، ولا تتعلق الحاجات بإتيان الأدبار . ولو أحلت لكان الحل لحق الشهوة خاصة ، والدنيا لم تخلق لها ، فلذلك لا يجعل بها{[2558]} حل مع لو كان يحتمل ذلك لاحتمل التناكح في نوع ، فإذا لم يحتمل بان أن ذلك إنما جعل لنسل /37-أ/ ، والله الموفق .

وقال بشر : ( إذ حرم الغشيان للحيض بما هو أذى ، وهو يكون على ما يتقذر ؛ فالذي [ الدبر مجراه ]{[2559]} ، والذي منه يخرج من الأذى أوحش وأخبث ، وذلك قائم في كل الأوقات كقيام الحيض في أوقاته ، فالحرمة لذلك أشد ، ذكر بوجه أمكن أن يبسط ما قال على الذي وصفته ، والله أعلم ) .

وقوله : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) قيل فيه بوجوه : قيل : معنى قوله : ( من حيث أمركم الله ) لا تأتوهن صائمات ولا معتكفات ولا مصليات ، ويحتمل : لا تأتوهن حيضا ، ولكن ( فأتوهن ) طهرا ، وقيل : ( فاتوهن ) في الموضع الذي أباح لكم إتيانها ، وهو القبل ، ولا تأتوهن في أدبارهن ، ويشبه ، إذ ( حيث ) يعبر به عن المكان ، أن يكون ( من حيث أمركم الله ) أن تبتغوا الولد بقوله : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) [ البقرة : 187 ] .

وقوله : ( إن الله يحب التوابين ) من الذنوب ، ( ويحب المتطهرين ) من الأحداث والأذى : والثاني ممن فعل هذا قبل النزول ( المتطهرين ) أنفسهم بالتكفير [ والأول ]{[2560]} التواب هو الرجاع عما ارتكب ، والتارك عن العود إلى ذلك غير مصر على الذنب ، ويحتمل التواب الذي لا يرتكب الذنب .


[2542]:- من ط ع.
[2543]:- من ط ع.
[2544]:- ساقطة من ط ع.
[2545]:- قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: يطهرن بتشديد الطاء والهاء، وقرأ الباقونك (يطهرن) بتخفيف الطاء وضم الهاء انظر حجة القراءات: 134.
[2546]:- في ط ع: (يطهرن) بضم الهاء وتخفيفها، وفي حرف آخرين: بتشديد الهاء وفتحها.
[2547]:- من ط ع.
[2548]:- في ط ع: لحسنة.
[2549]:- في الأصل و م: تنحيض.
[2550]:- في ط م: يقتصر.
[2551]:- في ط ع: عقل ودين.
[2552]:- من ط ع، في الأصل و ط م: تتحيض.
[2553]:- من م، في الأصل و ط ع: دينهن.
[2554]:- من ط ع، في الأصل و م: يقتصر.
[2555]:- في النسخ الثلاث: عن.
[2556]:- من ط ع، في م: حرم، ساقطة من الأصل.
[2557]:- في النسخ الثلاث: كانت.
[2558]:- من ط ع و م، في الأصل: بهما.
[2559]:- في ط ع: مجراه الدبر.
[2560]:- ساقطة من النسخ الثلاث.