وقوله تعالى : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } الآية ؛ أباح الله تعالى القصر من الصلاة إذا ضرب في الأرض ، إذا خاف أن يفتنه الكفار ، ولم يبين القصر في ماذا ؟ فيحتمل القصر قصرا من الركعات على ما قال أصحابنا ، رحمهم الله تعالى ، ويحتمل القصر قصر الاقتداء ؛ وذلك أيضا مباح عند الخوف . ثم تأول قوم أن الصلاة كانت ركعتين ، فزيدت في صلاة الحضر ، وأقرت في صلاة السفر ، ورخصت{[6400]} في القصر من ركعتي السفر ( إلى ركعة واحدة ){[6401]} في حال الخوف ، وقالوا : صلاة الخوف .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه ( أنه ){[6402]} قال : ( فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعا ، وصلاة السفر ركعتين ، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم ) وكذلك روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ( أنه ){[6403]} قال : ( صلاة الخوف ركعة واحدة{[6404]} ) وقال الآخرون : إنما رخص الله تعالى في قصر الصلاة من أربع ، إذا كان الخوف ، فردها إلى ركعتين رخصة ، وقالوا : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمنا أن الله تعالى تصدق علينا أن نقصر في حال الأمن ، فثبت بالسنة أن القصر في غير الخوف جائز كما أجازه الله في حال الخوف .
والقصر في قول هؤلاء أن ترد الأربع إلى ركعتين ، والقصر في قول الأولين أن ترد الركعتان في حال الخوف إلى ركعة . وقال غيرهم : القصر إنما كان في حال الخوف كما قال الله تعالى .
فأما الآن فإن المسافر إذا صلى ركعتين فليس ذبك بقصر ، ولكنه إتمام بقول عمر رضي الله عنه حين قال : ( صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ) .
وروي أن رجلا سأل عمر ( رضي الله عنه عن قوله تعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } قال : وقد أمن الناس اليوم ، فقال عمر ){[6405]} رضي الله عنه : ( عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته " ( مسلم 686/4 ) ، فيحتمل أن يكون قوله : ( صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر ) . يريد به أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما قال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا الفرض ركعتين " ( بنحوه مسلم 687/5 ) وارتفع القصر ، وصارت الركعتان تماما غير قصر ، إذ كانتا هما الفرض بعد الصدقة التي تصدق بها الله تعالى بها علينا .
فكل واحد من الخبرين موافق لصاحبه ؛ أعني خبر عمر رضي الله عنه مع ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه( أنه قال ){[6406]} : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يسافر من المدينة إلى مكة ، لا يخاف إلا الله ، يصلي ركعتين )وهذا يؤيد حديث عمر رضي الله عنه : " صدقة تصدق الله بها عليكم " لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان ( لا يصلي ){[6407]} ، وهو آمن : ركعتين مع شرط الله الخوف ، إلا وقد رفع الله شرط الخوف عن المسافر .
وقول قوم : إن التقصير في السفر والحضر هو الإتمام ، واحتجوا بقول الله سبحانه وتعالى : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } قالوا{[6408]} : فوقع الحرج عن المقصر ، ولو كان التقصير حتما لكان قال : وعليكم جناح ألا تقصروا من الصلاة .
لكن الأمر ليس كما توهموا ، وذلك أنا قد ذكرنا أن النص في القصر في حال الخوف . وأما الآمن فلا نص في ما يوجب القصر ، وإنما جاز القصر من الصلاة في حال الأنس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدقة تصدق الله بها عليكم " وتقصيره في سفره . ومحال أن يتصدق الله تعالى بالركعتين {[6409]} علينا ، ويقول قائل : فرض قائم ، فأين موضع الصدقة ؟ إذ لو كان الأمر ما ذكروا .
وهذا عندنا معنى قول عمر رضي الله عنه( إن صلاة السفر ركعتان تماما إذا كانتا فرض المسافر ) مع ما روي أنه عليه السلام سافر أسفار كثيرة ، فلم يرو عنه أحد أنه أتم الصلاة في شيء من الأحوال في سفره . وكل روى أنه عليه السلام كان يصل ركعتين ، فلو كانت الفريضة أربعا ، والقصر رخصة ، لأتم في قوت ، وقصر في وقت .
ألا ترى الإفطار في السفر لما كان رخصة غير حتم أفطر النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات ، وصام في أوقات ؟ فدل ذلك أن فرض المسافر ركعتان غير قصر .
روي عن بن عمر رضي الله عنه ( أنه ){[6410]} قال : ( صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بمنى ركعتين ، ومع أبي بكر الصديق رضي الله عنه ركعتين ، ومع عمر رضي الله عنه ركعتين ، ومع عثمان رضي الله عنه ، صدرا من خلافته ، ثم صلى أربعا ) وما صلى أربعا يحتمل أن يكون عزم على المقام .
وكذلك روي عن الزهري( أنه ){[6411]} قال : إنما صلى أربعا لأنه أزمع أن يقيم بعد الحج .
وعن عمران بن الحصين( أنه ){[6412]}قال : ( حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى يرجع إلى المدينة ، وأقام بمكة ( ثمانية عشر يوما ){[6413]} لا يصلي إلا ركعتين ، وقال( صلى الله عليه وسلم ) {[6414]} لأهل مكة : " صلوا أربعا ، فإنا قوم سفر " )( بنحوه أبو داوود 1229 ) وخالف بعض أهل العلم هذا الحديث لأنهم يقولون : إذا أقام ببلد في غير حرب أربعا يتم بعد ذلك ، وإن لم يكن عزم على المقام بذلك البلد .
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ( أنه ){[6415]} قال : " صلاة المسافر ركعتان حتى يؤول إلى أهله أو يموت " ( مسلم 687/6 ) وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الصلاة في السفر ، قال : ( ركعتان ركعتان{[6416]} ، من خالف السنة كفر ) .
واستدل قوم بقوله تعالى : /112-أ / { وإذا ضربتم في الأرض فلي عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة )أن القصر رخصة ، والفضل في إتمام الصلاة ؛ إذ : لا جناح يستعمل في موضع التخفيف لا في موضع الأمر على نحو الصيام بقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ( البقرة : 185 ) ، وهذا حرف لا يستعمل في موضع الأمر والإيجاب ، والله أعلم .
وسلم قوم لهم هذا المعنى في الآية ، وردوا القصر إلى قصد{[6417]} الخوف يلحق عند الضرب في الأرض ، وإذا كان ( فهو ){[6418]} على وجهين :
أحدهما : في بيان المراد في قوله تعالى : { فإن خفتم فرجالا أو ركبنا } ( البقرة : 239 ) أنه ليس على تمام المعروف من الصلاة لكن على القصر على الحد الذي ينتهي إله الخوف من أمر القبلة أو ترك القيام والركوع والسجود إلى الإيماء{[6419]} والقعود ، والله أعلم .
والثاني : ما في قوله تعالى : { وإذا كنت فيهم } الآية : ( النساء : 102 ) وإنما يذكر ذكر في أحوالهم ؛ ألا نفروا معه{[6420]} ، وهو( حال من ){[6421]} أحوال السفر . ومعلوم أن ذلك في حق الاقتداء : قال : { فليس عليكم جناح } بالاقتداء به ، وإن قصرتم في الاقتداء عن تمام حقه من الجماعة ، وكذلك إصابة الكل أفضل ، فبين( أن ){[6422]} ارتفاع ذلك لا يمنعكم الاقتداء ، ولا يلزمكم نصب إمام آخر لتؤدوا جميع الصلاة في الجماعة .
وأيد الوجهين قوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } إلى قوله تعالى : { ود الذين كفروا لو تغفلون } ( النساء : 101و102 ) وصلاة السفر على ما عليه ليس للخوف ، أيد ذلك ما التبس على عمر رضي الله عنه حتى سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " ( بنحوه مسلم 687/5 ) بمعنى حكم حكم الله في أن لم يفرض عليكم في السفر غير ركعتين .
وكذا جميع المذكور عن الله من العفو فهو في الإسقاط . وأيد ذلك ما كان يقول عمر رضي الله عنه ، بعد ذلك : ( صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ) فعلم أن ذلك ليس في حق الآية ، لكن في ابتداء {[6423]} الشرع .
وعلى ذلك المروي بأن الصلاة كانت في الأصل ركعتين ، فزيدت في الحضر ، وأقرت في السفر . وإلى هذين التأويلين يتوجه قول أصحابنا ، رحمهم الله ، وقد تحتمل الآية قصر السفر .
ثم قوله تعالى : { فليس عليكم جناح } يرجع إلى وجهين :
أحدهما : إلى ترك الركعتين ، وإن لم يتم السفر بعد الخروج له ، وليس كسائر الأعذار نحو الحيض إذا لم يتم فإنه{[6424]} يلزم إعادة المتروك ، والإغماء ونحو ذلك ، وأمر الصوم في السفر بعد الخروج له ، وليس كسائر الأعذار إذا ترك فإنه{[6425]} يعاد .
والثاني : ( قوله تعالى ){[6426]} : { فليس عليكم جناح } في السفر ، وإن كان ذلك اختيارا{[6427]} منكم لترك صلاة الحضر ، أو ليس عليكم ما على المقيم لو لم يتم ، فإذا رجع الجناح في ذلك بقي الأمر بالقصر ، وإن خرج يجد الخير ، إذ قد يكون الخير{[6428]} في المخرج أمرا في الحقيقة نحو قوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون صابرون } الآيتان : ( الأنفال : 65و66 ) وذلك كقوله تعالى : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ( البقرة : 158 ) أنه لما صار : لا جناح عليه راجعا إلى ما كان ثم من الأصنام أو الفعل بقي حق الأمر بالصواب عن الجميع ، والله أعلم .