تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

الآية 3 وقوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب } قد بينا أن التقوى إذا ذكر مفردا انتظم الأوامر والنواهي ، وإذا ذكر معه البر والإحسان صرف التقوى إلى معنى ، والبر إلى معنى .

وذكر في هذا الموضع مفردا ، فجاز أن ينتظم الأوامر والنواهي . ثم جاز أن يكون المعنى من قوله : { ومن يتق الله } في ما بين له من الحدود ، فلم يضيعه { يجعل له مخرجا } في ما لم يبين له وفي ما اشتبه من الحد ، أو يجوز أن يكون المعنى من قوله تعالى : { ومن يتق الله } أي جاهد في ما أمره ، ونهاه { يجعل له مخرجا } في أن يهديه ، ويبين له السبيل .

ألا ترى إلى قوله : { والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا } ؟ [ العنكبوت : 69 ] .

قال : ويجوز أن ينال من يلزم التقوى خير الدنيا والآخرة ، لأن الله تعالى ذكر التقوى وما يليه بألفاظ مختلفة ، فقال في موضع :

{ ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } [ الطلاق : 4 ] وفي موضع آخر : { يكفر عنه سيّآته } [ الطلاق : 5 ] وفي موضع : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }[ النحل : 128 ] أي { إن الله مع الذين اتقوا } [ في ]{[21461]} النصرة/575-ب/والمعونة والتوفيق والعصمة . ومن نصره الله فلا يغلبه أحد ، ومن يعصمه الله فلا يضله أحد . وإذا نال هاتين الخصلتين فقد نال خير الدنيا والآخرة .

أو يجوز أن يكون قوله : { ومن يتق الله } يعني يتق عقابه { يجعل له مخرجا } من الشدة في الدنيا ومن سكرات الموت وغمراته ومن شدائد الآخرة وأهوالها .

ويجوز أن يكون قوله : { ومن يتق الله } في مكاسبه { يجعل له مخرجا } من الشبه والحرمات ، فيسلم منها .

ويجوز أن يكون قوله : { ومن يتق الله } في ما بين له من الحدود في هذه الآيات المتقدمة ، فحفظها في صحبة النساء على ما أمر به { يجعل له مخرجا } مما أهمه من ناحيتهن { ويرزقه من حيث لا يحتسب } .

يجوز أن يكون هذا في ما بيّن له من الحدود إذا حفظها أن يرزقه ما وصفنا من المرأة والمال .

ويجوز أن يكون هذا في جميع الأمور من المكاتبة والتجارات لأن التجار يظنون أنهم إنما يرزقون الفضل والربح لما يدخلون فيها من الشبه والحرمات وأنها إذا نفيت من تجارتهم تلك الشبه والحرمات رزقهم من حيث لم يحتسبوا .

أو يجوز أن يكون {[21462]} هذا خطابا للكفرة ، وذلك أنهم كانوا يخافون أنهم إذا آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم حرموا من الرزق ، وابتلوا بالضيق .

ألا ترى إلى قوله : { وقالوا إن نتبع الهدى معك تتخطّف من أرضنا } الآية ؟ [ القصص : 57 ] فكأن الله تعالى أمّنهم مما يخافون بسبب الإسلام ، وأخبرهم أنهم إذا وحدوا الله تعالى ، وآمنوا برسوله ، رزقهم الله من حيث لم يحتسبوا ، ووسع عليهم الرزق ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } يجوز أن يكون معناه : أي من يعتمده في كل نائبة ، ويفوض إليه كل نازلة . والوكيل ، هو الموكول إليه الأمور . وقيل : الوكيل ، هو الحافظ ، فكأنه قال : ومن يعتمد على الله في ما نابه كفى به وكيلا موكولا إليه أمره ، وكفى به حافظا وناصرا ومعينا .

وقوله تعالى : { إن الله بالغ أمره } أي في ما أخبر من حكمه ووعده ووعيده أن ينزل بهم .

ويجوز أن يكون{ بالغ أمره } أي مبلغ ما أمر رسوله بتبليغه إلى آخر عصيانه ، يكون من أمته في [ تسخيرهم ليصير ما ]{[21463]} كان الرسول بلّغهم .

وقوله تعالى : { قد جعل الله لكل شيء قدرا } قال الحسن : { لكل شيء } من أعمال العباد { قدرا } ثوابا في الآخرة .

والوجه عندنا { قد جعل الله لكل شيء } مما كان ، ويكون إلى يوم القيامة من حسن وقبيح في الحكمة { قدرا } . ألا ترى إلى أفعال العباد أنها كيف تخرج عن تدبيرهم من زمان ومكان ونحو ذلك ليعلم أن الله تعالى ، هو الذي قدّر ذلك المكان والزمان والفعل حتى خرج هذا العبد عن تقريره ، الذي قدّره والله أعلم .

وفي قوله تعالى : { ويرزقه من حيث لا يحتسب } وجه آخر ، وهو أنه لو جعل جميع الرزق من حيث لا يحتسب جاز ، لأن الرزق في الحقيقة ، هو الذي يتقوى به ، وليس ذلك في عين الأكل والشرب ، ولكن في ما يتفرق من قوة الطعام والشراب في الأعضاء ، وذلك باللطف من الله تعالى . فثبت أن قوة الأكل والشرب إنما تصل إلى الأعضاء من حيث لا يحتسبه الإنسان ، والله أعلم .

ثم ليس في قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } له تخصيص ، أي من لا يتّقه يرزقه من حيث لا يحتسب ، لأنه قد نرى في الشاهد من يرزقه من حيث لا يحتسب ، اتقاه ، أو لم يتقه . فثبت أن فائدة التخصيص ليست تعني غير المقصود ، ولكن فائدة تخصيص المتلقي بالذكر ، هي{[21464]} أنه يرزقه من حيث يطب له ، ولا يلام عليه ، وليس ذلك في غير المتقي ، والله المستعان .

ثم ليس في قوله : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ما يدل على ترك الأسباب . ولكن لما رأى الناس يفزع بعضهم إلى بعض ، ويستغيث بعضهم ببعض ، أمرهم أن يجعلوا المقصد والمفزع إلى الله تعالى ، وأن يصيّروا هذه الأسباب كلها محنة عليهم ، لا أن يروا أرزاقهم مقصودة متعلقة بها .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { وابتغوا من فضل الله } ؟ [ الجمعة : 10 ] كيف أمر بإدراك فضله من تلك التجارة ، فثبت أن هذه المكاسب كلها أسباب ، بها يتوصلون إلى فضل الله تعالى ، وأن المقصد والمفزع فيها إلى الله تعالى ، والله أعلم .

ثم اختلفوا في العدة : فمنهم من قال : هي استبراء الرحم ، ومنهم من قال : هي عبادة تتبع النكاح الذي استوفي فيه المقصود بالنكاح . وهذا القول عندنا أصوب [ لوجهين :

أحدهما ]{[21465]} : أن الاستبراء واجب في حق السنة والأدب قبل الطلاق ؛ فإن من أراد أن يطلق امرأته فالواجب عليه أن يستبرئها بحيضة ، ثم يطلقها . وأما العدة فإنها لا تجب إلا بعد الطلاق . فثبت أنها على ما ذكرنا من العبادة التي تتبع النكاح الذي استوفي فيه المقصود أن الاستبراء واجب ، والله أعلم .

[ والثاني ]{[21466]} : أن العدة لو كانت استبراء لكانت تكتفي بالحيض الواحدة ، فلما قرنت بالعدد ، وفي الواحدة مندوحة إلى سواها في حق الاستبراء ، ثبت أنها على الوجه الأول ، والله أعلم .


[21461]:من م، ساقطة من الأصل.
[21462]:في الأصل و م: يكونوا.
[21463]:في الأصل: تسخر ليصيروا، في م: تسخيرهم ليضيروا.
[21464]:في الأصل و م: هو.
[21465]:في الأصل و م: لأوجه أحدهما.
[21466]:في الأصل و م: ومعنى آخر.