تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَٰقٍ حِسَابِيَهۡ} (20)

الآية 20 وقوله تعالى : { إني ظننت أني ملاق حسابيه } فإن حملته على حقيقة الظن فهو يخرج على ثلاثة أوجه :

أحدهما : أني ظننت في الدنيا أني ألاقي الحساب الشديد في ما سبق من سيئاتي ، وأآخذ بها ، وظننت الساعة ألا أنجو من ذنوبي لفزع هذا اليوم ، فوجدت سيئاتي قد غفرت ، وخطاياي كفرت عني ، فيكون قوله منه هذا شكرا لله تعالى وإظهارا لمننه .

والثاني : أني تركت [ دار الدنيا ، وقد ] {[21932]}عرضت لي الحوادث من الزّلاّت والهفوات ، وظننت{[21933]} أني ألاقي الله تعالى بها ، فأمسكت عنها ، وانزجرت عن إتيانها ، فيكون إخبارا عن بيان سبب ذلك .

والثالث أني تفكرت في أمري ، فظننت أن مثلي لا يترك سدى هملا ، فأدى ظني إلى اليقين ، فآمنت ، وصدقت الرسل ، فإنما نجوت بأول ظني وفكرتي .

ومنهم من صرف الظن إلى اليقين والعلم ، فقال : معنى قوله : { ظننت } أي تيقنت وعلمت .

والأصل أن كل يقين حدث في الأمور المستترة والعلوم الخفية فإنما يتولد ذلك عن ظن ، يسبق ، فيحمله ذلك الظن على النظر فيه والبحث عن حاله حتى يفضي به إلى الوقوف على ما استتر منه ، فيصير الخفي جليا ، فيكون سبب بلوغه إلى اليقين والإحاطة [ ذلك الظن ]{[21934]} الذي سبق منه .

فجائز أن يسمى ذلك يقينا مرة على الحقيقة ، وظنا ثانيا على المجاز على ما ذكرنا في قوله : { وتعيها أذن واعية } [ الآية : 12 ] أن الأذن لا تعي شيئا ، بل تسمع ، ولكنه لما يوصل إلى الوعي بالأذن صارت الأذن سببا للإيصال إلى الوعي ، وأضاف الوعي إليها .

فعلى ذلك ظنونهم في الابتداء إذا بلغتهم إلى اليقين والعلم سموا يقينهم وعلمهم ظنا مرة ويقينا ثانيا . ألا ترى أن الله تعالى قال { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } [ البقرة : 46 ] وقال في موضع آخر : { وبالآخرة هم يوقنون } [ البقرة : 4 ] ؟ فجعلهم مرة ظانين ومرة موقنين في ما كان طريقه البحث وإعمال الفكر .

وبهذا لا يجوز أن يوصف الله تعالى بالإيقان في أمر من الأمور ، لأن الأشياء له بارزة ظاهرة ، إذ هو منشئها وخالقها ، فلا يخفى عليه شيء منها ، فيحتاج إلى البحث عنها والنظر فيها ، والله الموفق .

ويقول : إن الأمور التي سبيل دركها الاجتهاد ، لا يخلو شيء منها من اعتراض وساوس وخواطر فيها ، فتلك الوساوس والخواطر تفضي بصاحبها على الجنون ، فاستجازوا إطلاق الظن فيها لما لا يخلوا منه ، واستجازوا إطلاق اليقين لما غلب عليها دلالات اليقين والإحاطة .

ألا ترى أن [ من ]{[21935]} يهدد بالوعيد الشديد أو بالقتل على أن يكفر بالله تعالى أبيح له أن يجري كلمة الكفر على لسانه ، وجعل كالمؤمن {[21936]}بإحلال العذاب من المكره لو {[21937]}امتنع عن الإجابة على ما دعاه ، وإن لم يتيقن بأنه يفعل به ، لا محالة ، ما أوعد به ، لأنه يجوز ألا يمكن من ذلك ، ويجوز ألا يبقى إلى ذلك الوقت ؟

ثم وسع له فعل ذلك بأكبر الرأي وغلبة الظن ، وحل ذلك محل الإحاطة واليقين ، فعلى ذلك ههنا لما غلبت دلالات اليقين ، والصدق جاز إطلاق لفظة اليقين عليه .

فأما الأشياء التي تدرك بالحواس والمشاهدات فلا سبيل إلى تسمية مثله لما يحتمل اعتراض الشبهة فيها ، والله الموفق .


[21932]:في الأصل وم: في دار الدنيا إذا.
[21933]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[21934]:ساقطة من الأصل وم.
[21935]:ساقطة من الأصل وم
[21936]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: كالموقن.
[21937]:في الأصل: ولو.