الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ضرب للمنافقين مثلا، فقال سبحانه: {أو كصيب من السماء}، يعني المطر.

{فيه ظلمات ورعد وبرق} مثل المطر مثل القرآن، كما أن المطر حياة الناس، فكذلك القرآن حياة لمن آمن به. ومثل الظلمات، يعني الكافر بالقرآن، يعني الضلالة التي هم فيها، ومثل الرعد ما خوفوا به من الوعيد في القرآن، ومثل البرق الذي في المطر مثل الإيمان، وهو النور الذي في القرآن.

{يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق}، يقول: مثل المنافق إذا سمع القرآن، فصم أذنيه كراهية للقرآن، كمثل الذي جعل أصبعيه في أذنيه من شدة الصواعق، {حذر الموت}، يعني مخافة الموت، يقول: كما كره الموت من الصاعقة، فكذلك يكره الكافر القرآن، فالموت خير له من الكفر بالله عز وجل والقرآن، {والله محيط بالكافرين}، يعني أحاط علمه بالكافرين.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

الصيّب، من قولك: صاب المطر يصوب صَوْبا: إذا انحدر ونزل...

عن ابن عباس، قال: الصيب: المطر... الصيب: القطر.

مثل استضاءة المنافقين بضوء إقرارهم بالإسلام مع استسرارهم الكفر، مثل إضاءة موقد النار بضوء ناره على ما وصف جل ثناؤه من صفته، أو كمثل مطر مظلم وَدْقُه تحدّر من السماء تحمله مزنة ظلماء في ليلة مظلمة، وذلك هو الظلمات التي أخبر الله جل ثناؤه أنها فيه... {فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافِرينَ يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}:

وأما تأويل الآية، فإن أهل التأويل مختلفون فيه...

عن ابن عباس:"أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ": أي هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف، والتخوّف منكم على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت.

"يَكادَ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ" أي لشدة ضوء الحق.

"كُلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا": أي يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا متحيرين...

عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ "إلى: "إِنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ": كان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، جعلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا.

فإذا كثرت أموالهم، وولد لهم الغلمان، وأصابوا غنيمة أو فتحا، مشوا فيه، وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دين صدق فاستقاموا عليه...

"وإذا أظلم عليهم قاموا". فكانوا إذا هلكت أموالهم، وولد لهم الجواري، وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد، فارتدّوا كفارا...

عن ابن عباس: "أوْ كَصَيّبٍ مِنَ السمّاءِ كمطر فيه ظلمات ورعد وبرق" إلى آخر الآية، هو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل، مراءاةً للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره. فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلمات فالضلالة، وأما البرق فالإيمان، وهم أهل الكتاب. وإذا أظلم عليهم، فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه...

[و] عن ابن عباس: "أوْ كَصَيّبٍ منَ السمّاءِ" وهو المطر، ضرب مثله في القرآن يقول: «فيه ظلمات»، يقول: ابتلاء. «ورعد» يقول: فيه تخويف، "وبرق يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ" يقول: يكاد محكم القرآن يدلّ على عورات المنافقين.

"كُلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ" يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا، وإن أصابوا الإسلام نكبة، قالوا: ارجعوا إلى الكفر. يقول: "وَإذَا أظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا" كقوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ على حَرْفٍ فإنْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأنّ بِهِ وَإِنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ" إلى آخر الآية...

وهذه الأقوال التي ذكرنا عمن رويناها عنه، فإنها وإن اختلفت فيها ألفاظ قائليها متقاربات المعاني لأنها جميعا تنبئ عن أن الله ضرب الصيب لظاهر إيمان المنافق مثلاً، ومثّل ما فيه من ظلمات بضلالته، وما فيه من ضياء برق بنور إيمانه، واتقاءه من الصواعق بتصيير أصابعه في أذنيه بضعف جنانه ونَخْبِ فؤاده من حلول عقوبة الله بساحته، ومشيه في ضوء البرق باستقامته على نور إيمانه، وقيامه في الظلام بحيرته في ضلالته وارتكاسه في عمهه.

فتأويل الآية: أَوَ مَثَلُ ما استضاء به المنافقون من قيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الاَخر وبمحمد وما جاء به، حتى صار لهم بذلك في الدنيا أحكام المؤمنين، وهم مع إظهارهم بألسنتهم ما يظهرون بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند الله وباليوم الاَخر، مكذّبون، ولخلاف ما يظهرون بالألسن في قلوبهم معتقدون، على عَمًى منهم وجهالة بما هم عليه من الضلالة لا يدرون أيّ الأمرين اللذين قد شرعا لهم فيه الهداية: في الكفر الذي كانوا عليه قبل إرسال الله محمدا صلى الله عليه وسلم بما أرسله به إليهم، أم في الذي أتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربهم؟ فهم من وعيد الله إياهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَجِلُون، وهم مع وجلهم من ذلك في حقيقته شاكون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. كمثل غيث سرى ليلاً في مزنة ظلماء وليلة مظلمة يحدوها رعد ويستطير في حافاتها برق شديد لمعانه كثير خَطَرانه، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، ويختطفها من شدة ضيائه ونور شعاعه وينهبط منها نارات صواعق تكاد تدع النفوس من شدة أهوالها زواهق. فالصيب مثلٌ لظاهر ما أظهر المنافقون بألسنتهم من الإقرار والتصديق، والظلمات التي هي فيه لظلمات ما هم مستبطنون من الشك والتكذيب ومرض القلوب. وأما الرعد والصواعق فلما هم عليه من الوجل من وعيد الله إياهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في آي كتابه، إما في العاجل وإما في الاَجل، أي يحل بهم مع شكهم في ذلك: هل هو كائن، أم غير كائن، وهل له حقيقة أم ذلك كذب وباطل؟ مَثَلٌ. فهم من وجلهم أن يكون ذلك حقا يتقونه بالإقرار بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بألسنتهم مخافة على أنفسهم من الهلاك ونزول النقمات. وذلك تأويل قوله جل ثناؤه: "يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ" يعني بذلك يتقون وعيد الله الذي أنزله في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بما يبدونه بألسنتهم من ظاهر الإقرار، كما يتقي الخائف أصوات الصواعق بتغطية أذنيه وتصيير أصابعه فيها حذرا على نفسه منها. وقد ذكرنا الخبر الذي رُوي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما كانا يقولان: إن المنافقين كانوا إذا حضروا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلوا أصابعهم في آذانهم فَرَقا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يُذكروا بشيء فيقتلوا...

فأولى بتأويل الآية ما قلنا لأن الله إنما قص علينا من خبرهم في أول مبتدأ قصصهم أنهم يخادعون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم آمنا بالله وباليوم الاَخر، مع شك قلوبهم ومرض أفئدتهم في حقيقة ما زعموا أنهم به مؤمنون مما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند ربهم، وبذلك وصفهم في جميع آي القرآن التي ذكر فيها صفتهم. فكذلك ذلك في هذه الآية.

وإنما جعل الله إدخالهم أصابعهم في آذانهم مثلاً لاتقائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما ذكرنا أنهم يتقونهم به كما يتقي سامع صوت الصاعقة بإدخال أصابعه في أذنيه. وذلك من المَثَلِ نظير تمثيل الله جل ثناؤه ما أنزل فيهم من الوعيد في آي كتابه بأصوات الصواعق، وكذلك قوله: "حَذَرَ المَوْت" جعله جل ثناؤه مثلاً لخوفهم وإشفاقهم من حلول عاجل العقاب المهلك الذي توعده بساحتهم، كما يجعل سامع أصوات الصواعق أصابعه في أذنيه حذر العطب والموت على نفسه أن تزهق من شدتها.

وإنما كانت كراهتهم شُهود المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركهم معاونته على أعدائه لأنهم لم يكونوا في أديانهم مستبصرين ولا برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقين، فكانوا للحضور معه مشاهده كارهين، إلا بالتخذيل عنه. ولكن ذلك وصف من الله جل ثنائهم لهم بالإشفاق من حلول عقوبة الله بهم على نفاقهم، إما عاجلاً، وإما آجلاً.

ثم أخبر جل ثناؤه أن المنافقين الذين نعتهم النعت الذي ذكر وضرب لهم الأمثال التي وصف وإن اتقوا عقابه وأشفقوا عذابه إشفاق الجاعل في أذنيه أصابعه حذار حلول الوعيد الذي توعدهم به في آي كتابه، غير منجيهم ذلك من نزوله بعَقْوَتهم وحلوله بساحتهم، إما عاجلاً في الدنيا، وإما آجلاً في الاَخرة، للذي في قلوبهم من مرضها والشك في اعتقادها، فقال: "وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافِرِينَ" بمعنى جامعهم فمحلّ بهم عقوبته...

والخطف: السلب... ومنه قيل للخُطاف الذي يخرج به الدلو من البئر خُطّاف لاختطافه واستلابه ما علق به... فجعل ضوء البرق وشدة شعاع نوره كضوء إقرارهم بألسنتهم وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله واليوم الاَخر وشعاع نوره، مثلاً... ثم قال تعالى ذكره: "كُلّما أضَاءَ لَهُمْ" يعني أن البرق كلما أضاء لهم، وجعل البرق لإيمانهم مثلاً. وإنما أراد بذلك أنهم كلما أضاء لهم الإيمان وإضاءتهم لهم أن يروا فيه ما يعجبهم في عاجل دنياهم من النصرة على الأعداء، وإصابة الغنائم في المغازي، وكثرة الفتوح، ومنافعها، والثراء في الأموال، والسلامة في الأبدان والأهل والأولاد، فذلك إضاءته لهم لأنهم إنما يظهرون بألسنتهم ما يظهرونه من الإقرار ابتغاء ذلك، ومدافعة عن أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم، وهم كما وصفهم الله جل ثناؤه بقوله: "وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ على حَرْفٍ فَانْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمأنّ وَإنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ على وَجْهِهِ".

ويعني بقوله: مَشَوْا فِيهِ مشوا في ضوء البرق. وإنما ذلك مثل لإقرارهم على ما وصفنا. فمعناه: كلما رأوا في الإيمان ما يعجبهم في عاجل دنياهم على ما وصفنا، ثبتوا عليه وأقاموا فيه، كما يمشي السائر في ظلمة الليل وظلمة الصيب الذي وصفه جل ثناؤه، إذا برقت فيها بارقة أبصر طريقه فيها وَإِذَا أظْلَمَ يعني ذهب ضوء البرق عنهم.

ويعني بقوله: «عليهم»: على السائرين في الصيب الذي وصف جل ذكره، وذلك للمنافقين مثل. ومعنى إظلام ذلك: أن المنافقين كلما لم يروا في الإسلام ما يعجبهم في دنياهم عند ابتلاء الله مؤمني عباده بالضرّاء وتمحيصه إياهم بالشدائد والبلاء من إخفاقهم في مغزاهم وإنالة عدوّهم منهم، أو إدبار من دنياهم عنهم أقاموا على نفاقهم وثبتوا على ضلالتهم كما قام السائر في الصيب الذي وصف جل ذكره إذا أظلم وخفت ضوء البرق، فحار في طريقه فلم يعرف منهجه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ثم ثنى الله سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف، وإيضاحاً غب إيضاح...

.

شبه دين الإسلام بالصيب، لأنّ القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر. وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات. وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق. وما يصيب الكفرة من الأفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق. والمعنى: أو كمثل ذوي صيب. والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا.

فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق...

والصيب: المطر الذي يصوّب، أي ينزل ويقع. ويقال للسحاب: صيب أيضاً...

وتنكير صيب لأنه أريد نوع من المطر شديد هائل. كما نكرت النار في التمثيل الأول...

والسماء: هذه المظلة. وعن الحسن: أنها موج مكفوف. فإن قلت: قوله: {مّنَ السماء} ما الفائدة في ذكره؟ والصيب لا يكون إلا من السماء. قلت: الفائدة فيه أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوّب من سماء، أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق، لأنّ كل أفق من آفاقها سماء، كما أن كل طبقة من الطباق سماء في قوله: {وأوحى فِي كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} [فصلت: 12]...

والرعد: الصوت الذي يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض إذا حدتها الريح فتصوّت عند ذلك من الارتعاد.

والبرق الذي يلمع من السحاب، من برق الشيء بريقاً إذا لمع. فإن قلت: قد جعل الصيب مكاناً للظلمات فلا يخلو من أن يراد به السحاب أو المطر، فأيهما أريد فما ظلماته؟ قلت: أما ظلمات السحاب فإذا كان أسحم مطبقاً فظلمتا سجمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل. وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر، وظلمة إظلال غمامه مع ظلمة الليل.

فإن قلت: كيف يكون المطر مكاناً للبرق والرعد وإنما مكانهما السحاب؟ قلت إذا كانا في أعلاه ومصبه وملتبسين في الجملة فهما فيه. ألا تراك تقول: فلان في البلد، وما هو منه إلا في حيز يشغله جرمه.

ولا محل لقوله: {يَجْعَلُونَ} لكونه مستأنفاً، لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدّة والهول، فكأن قائلاً قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل:

{يَجْعَلُونَ أصابعهم فِي ءاذَانِهِم} ثم قال: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل: يكاد البرق يخطف أبصارهم.

فإن قلت: رُأَيْسُ الأصبع هو الذي يجعل في الأذن فهلا قيل أناملهم؟ قلت: هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها، كقوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيَّدِيَكُم} [المائدة: 6]، {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 6] أراد البعض الذي هو إلى المرفق والذي إلى الرسغ. وأيضاً ففي ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل.

فإن قلت: فالأصبع التي تسدّ بها الأذن أصبع خاصة، فلم ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت: لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ألا ترى أنهم قد استبشعوها فكنوا عنها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدّعاءة.

فإن قلت: فهلا ذكر بعض هذه الكنايات؟ قلت: هي ألفاظ مستحدثة لم يتعارفها الناس في ذلك العهد، وإنما أحدثوها بعد.

و... {منَ الصواعق} متعلق بيجعلون، أي: من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم، كقولك: سقاه من العيمة.

والصاعقة: قصفة رعد تنقض معها شقة من نار، قالوا: تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهي نار لطيفة حديدة. لا تمرّ بشيء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود. يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ثم طفئت. ويقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته، فصعق؛ أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق. ومنه قوله تعالى: {وَخَرَّ موسى صَعِقًا} [الأعراف: 143]. وقرأ الحسن: «من الصواقع»؛ وليس بقلب للصواعق، لأنّ كلا البنائين سواء في التصرف، وإذا استويا كان كل واحد بناء على حياله. ألا تراك تقول: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع: مجهر بخطبته. ونظيره «جبذ» في «جذب» ليس بقلبه لاستوائهما في التصرف. وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد، أو للرعد، والتاء مبالغة كما في الراوية، أو مصدراً كالكاذبة والعافية...

وإحاطة الله بالكافرين مجاز. والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة اعتراض لا محل لها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق. فقال جمهور المفسرين: «مثل الله تعالى القرآن بالصيب لما فيه من الإشكال عليهم. والعمى: هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج الباهرة التي تكاد أن تبهرهم هو البرق وتخوفهم وروعهم وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم، وفضح نفاقهم، واشتهار كفرهم، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي الصواعق»...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن هذا هو المثل الثاني للمنافقين وكيفية المشابهة من وجوه.

أحدها: أنه إذا حصل السحاب الذي فيه الظلمات والرعد والبرق واجتمع مع ظلمة السحاب ظلمة الليل وظلمة المطر عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم، فإذا أضاء لهم مشوا فيه، وإذا ذهب بقوا في ظلمة عظيمة فوقفوا متحيرين لأن من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذهب عنه تشتد حيرته. وتعظم الظلمة في عينه، وتكون له مزية على من لم يزل في الظلمة، فشبه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدين بهؤلاء الذين وصفهم، إذ كانوا لا يرون طريقا ولا يهتدون.

وثانيها: أن المطر وإن كان نافعا إلا أنه لما وجد في هذه الصورة مع هذه الأحوال الضارة صار النفع به زائلا، فكذا إظهار الإيمان نافع للمنافق لو وافقه الباطن: فإذا فقد منه الإخلاص وحصل معه النفاق صار ضررا في الدين.

وثالثها: أن من نزل به هذه الأمور مع الصواعق ظن المخلص منها أن يجعل أصابعه في أذنيه وذلك لا ينجيه مما يريده تعالى به من هلاك وموت، فلما تقرر ذلك في العادات شبه تعالى حال المنافقين في ظنهم أن إظهارهم للمؤمنين ما أظهروه ينفعهم، مع أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك بما ذكر.

ورابعها: أن عادة المنافقين كانت هي التأخر عن الجهاد فرارا من الموت والقتل، فشبه الله حالهم في ذلك بحال من نزلت هذه الأمور به وأراد دفعها يجعل إصبعيه في أذنيه. وخامسها: أن هؤلاء الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم وإن تخلصوا عن الموت في تلك الساعة فإن الموت والهلاك من ورائهم لا مخلص لهم منه فكذلك حال المنافقين في أن الذين يخوضون فيه لا يخلصهم من عذاب النار.

وسادسها: أن من هذا حاله فقد بلغ النهاية في الحيرة لاجتماع أنواع الظلمات وحصول أنواع المخافة، وحصل في المنافقين نهاية الحيرة في باب الدين ونهاية الخوف في الدنيا لأن المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل، فلا يكاد الوجل والخوف يزول عن قلبه مع النفاق.

وسابعها: المراد من الصيب هو الإيمان والقرآن، والظلمات والرعد والبرق هو الأشياء الشاقة على المنافقين، وهي التكاليف الشاقة من الصلاة والصوم وترك الرياسات والجهاد مع الآباء والأمهات، وترك الأديان القديمة، والانقياد لمحمد صلى الله عليه وسلم مع شدة استنكافهم عن الانقياد له فكما أن الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المطر الصيب الذي هو أشد الأشياء نفعا بسبب هذه الأمور المقارنة، فكذا المنافقون يحترزون عن الإيمان والقرآن بسبب هذه الأمور المقارنة.

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

...شبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من النور والحياة بنصيب مستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها. وذهب نوره، وبقي في الظلمات حائرا تائها، لا يهتدي سبيلا، ولا يعرف طريقا،

وبنصيب أصحاب الصيب (وهو المطر الذي يصوب، أي ينزل من علو إلى أسفل) فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب. لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر وشبه نصيب المنافقين من هذا الهدي بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له فيما وراء ذلك، مما هو المقصود بالصيب، من حياة البلاد والعباد، والشجر والدواب، وإن تلك الظلمات التي فيه، وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره، وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب.

فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك: من برد شديد وتعطيل مسافر عن سفره، وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام، وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل، لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب، وهذه حال أكثر الخلق، إلا من صحت بصيرته.

فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق، والتعرض لإتلاف المهجة والجراحات الشديدة، وملامة اللوام، ومعاداة من يخاف معاداته لم يقدم عليه، لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة، والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون.

وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر، ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد، وفراق المألوفات، ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته. فإنه لا يخرج إليه، ولا يعزم عليه. وحال هؤلاء حال ضعيف البصيرة والإيمان، الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد، والزواجر والنواهي، والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات، والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه، والناس كلهم صبيان العقول، إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء، وأدرك الحق علما وعملا ومعرفة، فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق، ويعلم أنه حياة الوجود...

ومن كان مستوحشا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ يوم المعاد أعظم وأشد. ومن قرت عينه به في هذه الحياة الدنيا قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث، فيموت العبد على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه. ويعود عليه عمله بعينه، فينعم به ظاهرا وباطنا، فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم، وقوة القلب واستبشاره وحياته وانشراحه -ما هو أفضل النعيم، وأجله وأطيبه وألذه، وهل النعيم إلا طيب النفس، وفرح القلب وسروره وانشراحه، واستبشاره؟

هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه، وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين، ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه، وبلوغه مرتبة الإحسان فيه وبحسب تنوعه، فمن تنوعت أعماله المرضية المحبوبة له في هذه الدار تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار، وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا وكان مزيده متبوعها والابتهاج بها، والالتذاذ هناك على حسب مزيده من الأعمال ومتبوعه فيها من هذه الدار.

وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثرا وجزاء ولذة ونعيما يخصه، لا يشبه أثر الآخر وجزاءه. ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة، وآلام أهل النار وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات. فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم وأخذ منها بنصيب كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها ولا ألم من ضرب في كل مساخط الله بنصيب كألم من ضرب بسهم واحد من مساخطه. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يستمتع به العبد من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما يقابله من الأعمال في الدنيا، فقد رأى قنوا من حَشَف معلقا في المسجد للصدقة. فقال: «إن صاحب هذا يأكل الحشف يوم القيامة» فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله، فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها. وهذا الباب يفتح لك أبوابا عظيمة من فهم المعاد، وتفاوت الناس في أحواله، وما يجري فيه من الأمور...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

مثل القرآن بهذا لمواترة نزوله وعلوه وإحيائه القلوب كما أن الصيب يحيي الأرض، ثم أخبر عن حاله بقوله: {فيه ظلمات} أي لكثافة السحاب واسوداده {ورعد} أي صوت مرعب يرعد عند سماعه {وبرق} أي نور مبهت للمعانه وسرعته، قاله الحرالي. والظلمات مثل ما لم يفهموه، والرعد ما ينادى عليهم بالفضيحة والتهديد. والبرق ما يلوح لهم معناه ويداخلهم رأي في استحسانه.

ولما تم مثل القرآن استأنف الخبر عن حال الممثل لهم والممثل بهم حقيقة ومجازاً فقال: {يجعلون أصابعهم} أي بعضها ولو قدروا لحشوا الكل لشدة خوفهم {في آذانهم من الصواعق} أي من أجل قوتها، لأن هولها يكاد أن يصم، وقال الحرالي: جمع صاعقة وهو الصوت الذي يميت سامعه أو يكاد، ثم علل هذا بقوله: {حذر الموت والله} أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {محيط بالكافرين} فلا يغنيهم من قدره حذر.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذا هو مثل الفريق الثاني من هذا الصنف من الناس، الذي كان أفراده ولا يزالون فتنة للبشر، ومرضا في الأمم، وحجة على الدين، لأنهم بغرورهم بتقاليدهم التي اكتفوا بها من دينهم الموروث، يعبثون بعقولهم؛ ويلهون بخيالاتهم؛ ويجنون على مشاعرهم ومداركهم فيضعفونها، ويصارعون الفطرة الإلهية فيصرعونها حتى يكون بعضهم كالجمادات {صم بكم عمي} كما تقدم في المثل الأول؛ ويألف البعض الآخر الظلمة بطول التقليد، ويكون أفراده في نور البرهان كالخفافيش في نور الشمس؛ ولكنهم أمثل من الفريق الذي ضرب له المثل الأول لأن فيهم بقية من الرجاء ورمقا من الحياة؛ يوجههم إلى الاقتباس من نور الهداية كلما أضاءت لهم بروقها، والمشي في الجادة كلما استبانوا طريقها، ولكن تحول دون ذلك ظلمات التقاليد العارضة، وتقف في السبيل عقبات البدع المعارضة، وقد يعدهم لاستماع قوارع الآيات التي تنذرهم بما حرفوا، وصوادع الحجج التي تبين لهم كيف انحرفوا، ولا يصدهم عنها إلا أنها نزعجهم إلى ترك ما صنفوا وألفوا، وهجر ما أحبوا وألفوا، وعدم المبالاة بسنة الآباء، وقلة الاحتفال بعظمة الرؤساء، فهم يتراوحون بين الخوف والرجاء، مذبذبين بين أهل الجحود وأهل اليقين {لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء}، ولا ينقطع منهم الأمل، حتى ينقطع بهم الأجل.

ألا تراهم عندما يقرع أسماعهم من كتاب ربهم ما يبين فساد سيرتهم، والتواء طريقتهم، كقوله تعالى في النعي على أمثالهم: وحكاية ما لم يرضه من أقوالهم، {43 بل قالوا أنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} الخ: وقوله في بيان ندمهم على التقليد، عند ما يحل بهم الوعيد، {33 ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} يأخذهم الزلزال، ويتولاهم الاضطراب والقلق، وتنشق لهم الظلمة عن فلق، ويلمع في نفوسهم نور الهداية الفطرية فيمشون فيه خطوات، ثم تحيط بهم الظلمات، وينقطع بهم الطريق كما ألمعنا آنفا. وأسباب غلبة الظلمات على النور هي موافقة ما عليه الجمهور؛ والإخلاد إلى الهوى؛ وتفضيل عرض هذا الأدنى؛ وانتظار المغفرة ولو بما تأولوه في معنى الشفاعة؛ وتمني الربح من غير بضاعة {7: 169 يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: سيغفر لنا – وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه – ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه؟} بلى هو عندهم مدروس بجدليات النحو والكلام؛ ولكنه دارس الصوى والأعلام؛ المنصوبة لهداية القلوب والأحلام ومقروء بالتجويد والأنغام؛ ولكنه متروك الحكم والأحكام؛ يقرؤونه لكسب الحطام؛ لا لمعرفة الحلال والحرام، ولا يتلونه لإصلاح القلب واللسان؛ بتزكية النفس وتغذية الإيمان؛ ويكتبونه لشفاء الأبدان من الأسقام، لا لشفاء ما في الصدور من الأوهام والآثام، ولو كان له أنصار يدعون إليه؛ وهداة يعتصمون به ويعولون عليه؛ لتبددت الظلمات أمام الأنوار، ومحت آية الليل آية النهار.

تلك الإرشادات الإلهية بمنزلة المطر الذي ينزل من السماء؛ والزلزال والاضطراب الذي أشرنا إليه بمنزلة الرعد، واستبانة الصراط المستقيم الذي يلمع في أنفسهم من ذلك كالبرق، والعادات والتقاليد والشهوات والخوف من ذم الجماهير عند العمل بما يخالفهم كالظلمات التي تصد عن سلوك الطريق بل تعميه على طالبه وتحجبه عنه، ولذلك قال تعالى في تمثيل حال هذا الفريق {أو كصيب من السماء} أي قوم نزل بهم صيب، ووصفه بأنه من السماء مع العلم بأن الصيب لا يكون إلا من السماء للإشعار بأنه أمر لا يملكون دفعه وليس ملاكه في أيديهم، ومن المعهود عند بلغاء العرب التعبير عما يلم بالناس مما لا دافع له بأنه نزل من السماء، ولا جرم أن تلك السوانح التي تسنح في الأفكار، والإلهامات الإلهية، لأصحاب الفطرة الزكية، التي يكون من أثرها ما أشار إليه المثل، وتقدم التنبيه عليه، هي أمر وهبي واقع، ماله من دافع.

قال تعالى في وصف الصيب {فيه ظلمات ورعد وبرق} الظلمات هي ظلمة الليل وظلمة السحب وظلمة الصيب نفسه؛ والرعد هو الصوت المعروف الذي يسمع في السحاب عند اجتماعه أحيانا.

والبرق هو الضوء الذي يلمع في السحاب في الغالب وقد يلمع من الأفق حيث لا سحاب...

وأما حقيقة البرق والرعد والصاعقة وأسباب حدوثها فليس من مباحث القرآن لأنه من علم الطبيعة – أي الخليقة – وحوادث الجو التي في استطاعة الناس معرفتها باجتهادهم ولا تتوقف على الوحي. وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال، وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين؛ والعلم بالكون ينمى ويضعف في الناس ويختلف باختلاف الزمان. فقد كان الناس يعتقدون في بعض الأزمنة أن الصواعق تحدث من أجسام مادية لما كان يشمونه في محل نزولها من رائحة الكبريت وغيره، ورجعوا عن هذا الاعتقاد في زمن آخر ملاحظين أن تلك الرائحة لا تكون دائما في محل الصاعقة. وقد ظهر في هذا الزمان أن في الكون سيّالا يسمونه الكهرباء، من آثاره ما ترون من التلغراف والتليفون والترامواي.

وهذه الأضواء الساطعة في البيوت والأسواق، من غير شموع ولا زيت ولا ذبال وإنما تكون باتصال سلكين دقيقين كالخيوط التي تخاط بها الثياب، أحدهما يحمل أو يوصل السيال الذي يسمونه الموجب، والآخر يوصل السيال المسمى بالسالب، وباتصال السلكين، يتولد النور من تلاقي السيالين، وبانقطاعهما أو الفصل بينهما ينفصل السيالان فينقطع الضوء من المصابيح والحركة من الآلات والكهربائية موجودة في كل شيء، والبرق في السحاب يتولد من اتصال نوعيها الموجب والسالب بقدرة الله تعالى، كما يتولد في الأرض بعمل الإنسان. وقد استنزل بعض علماء الكهربائية قبس الصاعقة من السحاب إلى الأرض، والصاعقة من أثر الكهربائية، وهي تفريغ السحاب طائفة منها في مكان لجاذب في الأرض يجذبه، وكثيرا ما حصل الصعق لعمال التلغراف، لما بين السحاب والأسلاك من الجاذبية. ومعرفة الناس بالسبب الحقيقي للصواعق هداهم إلى حفظ الأبنية الشاهقة منها باتخاذ القضيب المعروف الذي يسمى قضيب الصاعقة، فلا تنزل الصواعق على بناء رفع فوقه هذا القضيب، ولا مجال في تفسير القرآن للتطويل في أمثال هذه المسائل الطبيعية لأنها تطلب من فنونها الخاصة بها، فلنعد إلى بيان المثل.

استحضر حال قوم مشاة في فلاة من الأرض نزل عليهم بعد ما أقبل ظلام الليل صيّب من السماء قصفت رعوده، ولمعت بروقه، وتصوّر كيف يهوون بأصابعهم إلى آذانهم كلما حدث قاصف من الرعد، ليدفعوا شدة وقعه بسد منافذ السمع برءوس الأنامل، وعبر عن الأنامل هذا التعبير المجازي اللطيف للإشارة بشدة عنايتهم بسد آذانهم، ومبالغتهم في إدخال أناملهم في صماليخها، كأن كل واحد منهم يحاول بما دهمه من الخوف أن يغرس إصبعه كلها في أذنه، حتى لا يكون للصوت منفذ إلى سمعه، لما يحذره على نفسه من الموت الزؤام؛ ومعالجة الحمام، وهذا هو الجبن الخالع، ومنتهى حدود الحماقة، لأن سد الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت، والموت فقد الحياة بمفارقة الروح للبدن، وخلق الله له عبارة عن تقديره أو عن قبضه للروح وتوفيه للنفس.

وقوله تعالى {والله محيط بالكافرين} يرشدنا في أثناء شرح المثل وتقريره إلى حال من ضرب فيهم المثل لئلا يذهلنا ما نتصوره من حال المشبه به عن حال المشبه المقصود بالذات. وهو أن التصامم والهروب من سماع آيات الحق والحذر من صواعق براهينه الساطعة أن تذهب بتقاليدهم التي يرون حياتهم الملية مرتبطة بها لا يفيدهم شيئا، لأن الله تعالى محيط بهم، ومطلع على سرائرهم، وعالم بما في ضمائرهم، وقادر على أخذهم أينما كانوا، وفي أي طريق سلكوا فلا يهربون من برهان إلا ويفاجئهم برهان آخر، كالغريق يدفعه موج ويتلقاه موج حتى يقذف به إلى ساحل النجاة، أو يدفعه إلى هاوية العدم، ولهذا قال {محيط بالكافرين} ولم يقل محيط بهم. أقول: فوضع الاسم المظهر موضع المضمر للإيذان بأنهم إنما كانوا كذلك بكفرهم، وأن ذلك يرد في أمثالهم. المراد بالإحاطة هنا إحاطة القدرة، فمن لم يمته بأخذ الصاعقة أماته بغيرها،

* تنوعت الأسباب والموت واحد *

والمحيط بالشيء لا يمكن أن يفوته وينفلت من قبضته.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن الحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل، إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة، التي تقف عندما يخيم الظلام.. إن هذه الحركة في المشهد لترسم -عن طريق التأثر الإيحائي- حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون.. بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين. بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة. بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام.. فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية؛ ويجسم صورة شعورية. وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

المنافقون مثل هؤلاء المسافرين، يعيشون بين المؤمنين المتزايدين المتدفقين كالسيل الهادر وكالمطر الغزير، لكنهم لم يتخذوا لهم ملجأ آمناً يقيهم من شر صاعقة العقاب الإلهي.

[و] نهوض المسلمين بواجبهم الجهادي المسلح بوجه أعداء الإسلام يشكل صواعق وحمماً تنزل على رؤوس المنافقين. وتسنح أحياناً لهؤلاء المنافقين فرصة للهداية واليقظة، لكن هذه الفرصة لا تلبث طويلا، إذ تمرّ كما يمرّ نور البرق، ويعود الظلام يطبق عليهم، ويعودون إلى ضلالهم وحيرتهم.

[و] انتشار الإسلام بسرعة كالبرق الخاطف قد أذهلهم.

وآيات القرآن التي تفضح أسرارهم صعقتهم، وفي كل لحظة يحتملون أن تنزل آية تكشف عن مكائدهم ونواياهم. وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِئُهُم بِمَا في قُلُوبِهِمْ، قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (التوبة، 64)...

هذه الآيات وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي تمتد لتشمل كلّ المنافقين في التاريخ، لأن خطّ النفاق يقف دوماً بوجه الخط [الجهادي] الصادق الصحيح. ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على منافقي عصرنا بدقّة. نرى حيرتهم وخوفهم واضطرابهم، ونرى تعاستهم وبؤسهم وانفضاحهم تماماً مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي ليلة ظلماء موحشة...