الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة التوبة سورة براءة، مدنية كلها، غير آيتين، هما: قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول...} [آية:128،129] إلى آخر السورة، فإنهما مكيتان.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

مدنية عند جميعهم. روى عن ابن عباس أن سورة براءة تسمى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "الفاضحة "لأنها فضحت المنافقين. وحكى محمد بن إسحاق أنها كانت تسمى في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم "المبعثرة" لما كشفته من أسرار الناس.

في ترك افتتاح هذه السورة ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قولان:

أحدهما: أنها والأنفال كالسورة الواحدة في المقصود لأن الأولى في ذكر العهود، والثانية في رفع العهود، وهذا قول أُبي بن كعب، قال ابن عباس: وكانتا تدعيان القرينتين، ولذلك وضعتا في السبع الطول. وحكاه عن عثمان بن عفان.

الثاني: أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أمان، وبراءة نزلت برفع الأمان، وهذا قول ابن عباس.

ونزلت سنة تسع فأنفذها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليقرأها في الموسم بعد توجه أبي بكر رضي الله عنه إلى الحج، وكان أبو بكر صاحب الموسم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يُبِلِّغُ عَنِّي إِلاَّ رَجُلٌ مِنِّي" حكى ذلك الحسن وقتادة ومجاهد.

وحكى الكلبي أن الذي أنفذه رسول الله صلى لله عليه وسلم من سورة التوبة عشر آيات من أولها.

حكى مقاتل أنها تسع آيات تقرأ في الموسم، فقرأها علي رضي الله عنه في يوم النحر على جمرة العقبة.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية البراء بن عازب: «أنها آخر سورة أنزلت كاملة» ولها أسماء كثيرة. ومن المعروف أنها تسمى سورة البَحوث، ومن أسمائها: المبعثِرة، ومن أسمائها: المنيرة، ومن أسمائها: الحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين. وروى النقاش عن ابن عمر أنها تسمى المقشقِشة...

روي عن ابن عباس أنه قال: «قلت لعثمان -رضي الله عنه: ما بالكم عمدتم إلى سورة التوبة وهي من المئين، وإلى سورة الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ فقال: «كان إذا أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء من القرآن دعا بعض من يكتب، فيقول له: ضعه في سورة كذا، ضعه في سورة كذا، وكانت الأنفال من أول ما أنزلت بالمدينة، والتوبة من آخر ما أنزلت، وكان قصتيهما شبيهة بعضها ببعض، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يبين لنا شيئا، فظننا أنهما سورة واحدة؛ فلذلك قرنا بينهما ولم نكتب (بسم الله الرحمن الرحيم).

وهذا خبر في "الصحيح "أورده مسلم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال البخاري.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

... لم يكتب الصحابة ولا من بعدهم البسملة في أولها؛ لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور. هذا هو المعتمد المختار في تعليله، وقيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة، والمشهور أنه لنزولها بالسيف ونبذ العهود، وقيل غير ذلك مما في جعله سببا وعلة نظر، وقد يقال: إنه حكمة لا علة، ومما قاله بعض العلماء في هذه الحكمة: إنها تدل على أن البسملة آية من كل سورة أي؛ لأن الاستثناء بالفعل كالاستثناء بالقول معيار العموم.

وقد ورد لها أسماء كثيرة هي صفات لأهم ما اشتملت عليه: فمنها سورة الفاضحة لما فضحته من سرائر المنافقين وإنبائهم بما في قلوبهم من الكفر وسوء النيات، وهذا الاسم روي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ومنها المنفرة والمعبرة والمبعثرة والمثيرة والبَحوث (كصَبور) لتنفيرها وتعبيرها عما في القلوب وبحث ذلك وإثارته وبعثرته، وكذا المدمدِمة والمخزِية والمنَكِّلة والمشرِّدة، ومعاني هذه الألقاب ظاهرة في معنى فضيحتها للمنافق،وما يترتب عليها من الدمدمة عليهم والخزي والنكال والتشريد بهم، ومنها المقشقشة، قال الزمخشري: وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه. وأشهرها الثابت التوبة وبراءة، وسائر الأسماء ألقاب لبيان معانيها. وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وفي حال الاستعداد لها في زمن العسرة والخروج إليها في القيظ، وفي أثنائها ظهر من آيات نفاق المنافقين ما كان خفيا من قبل.

وقد صرحوا بأن أولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبي صلوات الله وسلامه عليه عليا عليه السلام ليقرأها على المشركين في الموسم كما يذكر مفصلا في محله.

وفي صحيح البخاري وغيره عن البراء قال: آخر آية نزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} وآخر سورة نزلت براءة. وهو رأي له، لا رواية مرفوعة، ويحمل قوله في الآية على أنها آخر ما نزل في الكلالة، فهي بعد آيات المواريث وفي السورة على بعضها أو معظمها. وأرجح ما ورد في آخر آية نزلت أنه قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281]، أو ما قبلها من آيات الربا من دونها، والأرجح أن يقال معها. وتقدم تفصيل المسألة في آخر سورة البقرة (ج 3)، وأما آخر سورة نزلت تامة فالأرجح أنه سورة النصر، وقد عاش صلى الله عليه وسلم بعدها أياما قليلة.

وأما التناسب بينها وبين ما قبلها فإنه أظهر من التناسب بين سائر السور بعضها مع بعض، فهي كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فيهما من أصول الدين وفروعه والسنن الإلهية والتشريع وجله في أحكام القتال وما يتعلق به من الاستعداد له وأسباب النصر فيه وغير ذلك من الأمور الروحية والمالية وأحكام المعاهدات والمواثيق- من حفظها ونبذها عند وجود المقتضي له -وأحكام الولاية في الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض والكافرين بعضهم مع بعض، وكذا أحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى والقلوب، فما بدئ به في الأول أتم في الثانية. ولولا أن أمر القرآن في سوره ومقاديرها موقوف على النص لكان هذا الذي ذكرناه مؤيدا من جهة المعاني لمن قال: إنهما سورة واحدة، كما يؤيده من ناحية ترتيب السور بحسب طولها وقصرها، وتوالي السبع الطول منها، ويليها المئون، والأنفال دونها.

مثال ذلك:

إن العهود ذكرت في سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها، ولا سيما نبذها الذي قيد في الأول بخوف خيانة الأعداء.

تفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب في كل منهما.

ذكر في الأولى صد المشركين عن المسجد الحرام، وأنهم ليسوا بأوليائه {إن أولياؤه إلا المتقون} [الأنفال: 34] أي من المؤمنين، وجاء في الثانية {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} [الأنفال: 17] الخ الآيات.

ذكر في أول الأولى صفات المؤمنين الكاملين، وذكر بعد ذلك بعض صفات الكافرين، ثم ذكر في آخرها حكم الولاية بين كل من الفريقين كما تقدم، وجاء في الثانية مثل هذا في مواضع أيضا.

ذكر في الأولى الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله، وجاء مثل هذا الترغيب بأبلغ من ذلك وأوسع في الثانية، وذكرت في الأولى مصارف الغنائم من هذه الأموال، وفي الثانية مصارف الصدقات.

ورد ذكر المنافقين والذين في قلوبهم مرض في الأولى في آية واحدة، وفصل في الثانية أوسع تفصيل حتى كانت أجدر بأن تسمى سورة المنافقين من سورة {إذا جاءك المنافقون} لو كانت تسمية السور بالرأي.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة مدنية من أواخر ما نزل من القرآن -إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن- ومن ثم قد تضمنت أحكاما نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض؛ كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته، وتحديد قيمه ومقاماته، وأوضاع كل طائفة فيه وكل طبقة من طبقاته، ووصف واقع هذا المجتمع بجملته وواقع كل طائفة منه وكل طبقة وصفا دقيقا مصورا مبينا.

والسورة -بهذا الاعتبار- ذات أهمية خاصة في بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام ومراحله وخطواته -حين تراجع الأحكام النهائية التي تضمنتها مع الأحكام المرحلية التي جاءت في السور قبلها- وهذه المراجعة تكشف عن مدى مرونة ذلك المنهج وعن مدى حسمه كذلك. وبدون هذه المراجعة تختلط الصور والأحكام والقواعد، كما يقع كلما انتزعت الآيات التي تتضمن أحكاما مرحلية فجعلت نهائية؛ ثم أريد للآيات التي تتضمن الأحكام النهائية أن تفسر وتؤول لتطابق تلك الأحكام المرحلية؛ وبخاصة في موضوع الجهاد الإسلامي، وعلاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى. مما نرجو أن يوفقنا الله لإيضاحه وبيانه في هذا التقديم؛ وفي ثنايا استعراض النصوص القرآنية للسورة.

ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية؛ ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته؛ ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك.. يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة.. ولكنها لم تنزل دفعة واحدة.. ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل.. المرحلة الأولى منها كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام. والمرحلة الثانية كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها. والمرحلة الثالثة كانت بعد العودة منها. أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها فقد نزلتمتأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج في ذي القعدة أو في ذي الحجة.. وهذا -على الإجمال- هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه.

وقد تضمنت السورة في المقطع الأول منها -من أولها إلى ختام الآية الثامنة والعشرين- تحديدا للعلاقات النهائية بين المعسكر الإسلامي والمشركين عامة في الجزيرة؛ مع إبراز الأسباب الواقعية والتاريخية والعقيدية التي يقوم عليها هذا التحديد، بالأسلوب القرآني الموحي المؤثر، وفي تعبيرات قوية الإيقاع حاسمة الدلالة، عميقة التأثير؛ هذه نماذج منها:

براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين، ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين، فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم. وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون

كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله -إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام؟- فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين. كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون. اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، ونفصل الآيات لقوم يعلمون. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون. ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم، وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم. أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة؟ والله خبير بما تعملون...

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء -إن استحبوا الكفر على الإيمان- ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون. قل: إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها.. أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله.. فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين)...

...

(يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله -إن شاء- إن الله عليم حكيم)..

وظاهر من الأسلوب القرآني في الآيات التي اقتطفناها هنا، وفي آيات المقطع كله؛ ومن القوة في التحضيض والتأليب على قتال المشركين ومقاطعتهم في الجزيرة قاطبة، مدى ما كان يعتلج في نفوس الجماعة المسلمة -أو فريق منها على الأقل له وزنه- من التحرج والتخوف والتردد في اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة في ذلك الحين، بسبب عوامل شتى نرجو أن نكشف عنها في هذا التقديم وفي أثناء استعراض النصوص القرآنية قريبا.

أما المقطع الثاني -في السورة- فقد تضمن تحديدا للعلاقات النهائية كذلك بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب عامة؛ مع بيان الأسباب العقيدية والتاريخية والواقعية التي تحتم هذا التحديد؛ وتكشف كذلك عن طبيعة الإسلام وحقيقته المستقلة؛ وعن انحراف أهل الكتاب عن دين الله الصحيح عقيدة وسلوكا؛ بما يجعلهم -في اعتبار الإسلام- ليسوا على دين الله الذي نزله لهم؛ والذي به صاروا أهل كتاب:

(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.)

(وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله.. ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل.. قاتلهم الله! أنى يؤفكون؟ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون.)

(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.)

(يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله)،

(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.. هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).

وظاهر كذلك من الأسلوب القرآني في هذا المقطع أنه مواجهة لما كان في النفوس يومذاك من تهيب وتردد في مواجهة أهل الكتاب عامة -أو الغالبية العظمى منهم- بهذا اللون من العلاقات التي تنص عليها الآية الأولى في المقطع.. وحقيقة إن المقصود -كان- بالمواجهة ابتداء هم الروم وحلفاؤهم من نصارى العرب في الشام وما وراءها؛ وهذا وحده كان يكفي للتردد والتهيب؛ لما كان للروم من بأس وسمعة تاريخية بين أهل الجزيرة.. ولكن النص عام في أهل الكتاب عامة؛ ممن تنطبق عليهم الأوصاف الواردة في الآية كما سنفصل -إن شاء الله- عند مواجهة النصوص.

وفي المقطع الثالث يبدأ النعي على المتثاقلين الذين دعوا إلى التجهز للغزوة فتثاقلوا إلى الأرض وتكاسلوا عن النفير.. وهؤلاء ليسوا كلهم من المنافقين كما سيتبين، مما يشي بمشقة هذه الخطوة، وهذه الغزوة، على النفوس في ذلك الحين للأسباب التي نرجو أن نفصلها -بإذن الله- ونقف عندها في حينها:

يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم: انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخره إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما، ويستبدل قوما غيركم، ولا تضروه شيئا. والله على كل شيء قدير. إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه، وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم. انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.

وظاهر من صيغ التأنيب والتهديد والتوكيد المكررة في هذا المقطع؛ ومن تذكير الذين آمنوا بنصر الله للرسول [ص] إذ أخرجه الذين كفروا؛ دون أن يكون لأحد من البشر مشاركة في هذا النصر؛ ومن الأمر الجازم لهم بأن ينفروا خفافا وثقالا.. ظاهر من هذا كله ما كان في الموقف من مشقة ومن تخلف ومن قعود ومن تهيب ومن تردد، اقتضى هذا الحشد من التأنيب والتهديد والتوكيد والتذكير والأمر الشديد..

ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة -وهو أطول مقاطعها، وهو يستغرق أكثر من نصفها- في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفسية والعملية، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف، وإيذاء رسول الله [ص] والخلص من المؤمنين. يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء، والمفاصلة بين الفريقين وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله.. وهذا القطاع يؤلف في الحقيقة جسم السورة؛ ويتجلى من خلاله كيف عاد النفاق بعد فتح مكة فاستشرى بعد ما كاد أن يتلاشى من المجتمع المسلم قبيل الفتح، مما سنكشف عن أسبابه في فقرة تالية. ولن نملك أن نستعرض هنا هذا القطاع بطوله فنكتفي بفقرات منه تدل على طبيعته:

(لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك، ولكن بعدت عليهم الشقة، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون...).

... (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل: اقعدوا مع القاعدين. لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم.. والله عليم بالظالمين. لقد ابتغوا الفتنة من قبل، وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون).

(ومنهم من يقول: ائذن لي ولا تفتني، ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. إن تصبك حسنة تسؤهم، وإن تصبك مصيبة يقولوا: قد أخذنا أمرنا من قبل، ويتولوا وهم فرحون) ...

...

(ويحلفون بالله إنهم لمنكم، وما هم منكم، ولكنهم قوم يفرقون. لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون).

(ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون. ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله، وقالوا: حسبنا الله، سيؤتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون) ...

...

(ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن. قل أذن خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم).

(يحلفون بالله لكم ليرضوكم، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين. ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها، ذلك الخزي العظيم).

(يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل: استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون. ولئن سألتهم ليقولن: إنما كنا نخوض ونلعب، قل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم، إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين).

(المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم، نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون. وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم، ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) ...

...

(يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم، ومأواهم جهنم وبئس المصير. يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا، وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله، فإن يتوبوا يك خيرا لهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير)..

(ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون. فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه، وبما كانوا يكذبون)..

(الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم. استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يهدي القوم الفاسقين).

(فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا: لا تنفروا في الحر، قل: نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون. فإن رجعك الله إلى طائفة منهم، فاستأذنوك للخروج. فقل: لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين. ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون. ولا تعجبك أموالهم وأولادهم، إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون)...

الخ... الخ

وهذه الحملة الطويلة الكاشفة تشي بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته وشغله بشتى الفتن والدسائس والأكاذيب عن وجهته. كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة من الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة؛ يشير إليها قول الله سبحانه: (وفيكم سماعون لهم) كما يشير إليها النهي المشدد عن الاستغفار للمنافقين أو الصلاة عليهم.. هذه الحالة التي نشأت عن دخول جماعات كثيرة في الإسلام بعد الفتح لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم، ولا كانوا قد انطبعوا بالطابع الإسلامي الصحيح؛ مما سنفصل القول فيه بعد استعراض التصنيف القرآني الوارد في السورة لهذه الجماعات المتنوعة التي كان المجتمع المسلم يتألف منها في هذه الفترة.

والمقطع الخامس في سياق السورة هو الذي يتولى هذا التصنيف. ومنه نعلم أنه كان إلى جوار السابقين المخلصين من المهاجرين والأنصار -وهم الذين كانوا يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية- جماعات أخرى.. الأعراب وفيهم المخلصون والمنافقون والذين لم تخالط قلوبهم بشاشة الإيمان والمنافقون من أهل المدينة. وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولم يتم انطباعهم بالطابع الإسلامي ولم يصهروا في بوتقة الإسلام تماما. وطائفة مجهولة الحال لا تعرف حقيقة مصيرها متروك أمرها لله وفق ما يعلمه من حقيقة حالها ومآلها. ومتآمرون يتسترون باسم الدين!.. والنصوص القرآنية تتحدث عن هذه الجماعات كلها في اختصار مفيد؛ وتقرر كيف تعامل في المجتمع المسلم، وتوجه رسول الله [ص] والخلص من المسلمين إلى طريقة التعامل مع كل منهم:

(الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، والله عليم حكيم. ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما، ويتربص بكم الدوائر، عليهم دائرة السوء، والله سميع عليم. ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول؛ ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم).

(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم).

(وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة، مردوا على النفاق، لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين، ثم يردون إلى عذاب عظيم).

(وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، عسى الله أن يتوب عليهم، إن الله غفور رحيم. خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم...).

... (وآخرون مرجون لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، والله عليم حكيم).

(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى، والله يشهد إنهم لكاذبون. لا تقم فيه أبدا، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين..) الخ.

وظاهر من تعدد الطوائف والطبقات والمستويات الإيمانية في المجتمع المسلم -كما تصفه هذه النصوص- مدى الخلخلة التي وجدت فيه بعد الفتح، مما كان المجتمع قد برئ منه أو كاد قبيل فتح مكة كما سيجيئ.

والمقطع السادس في سياق السورة يتضمن تقريرا لطبيعة البيعة الإسلامية مع الله على الجهاد في سبيله وطبيعة هذا الجهاد وحدوده، وواجب أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فيه، وأنه لا يحل لهم أن يتخلفوا عنه وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه؛ وضرورة المفاصلة مع المشركين والمنافقين.. وفي ثنايا هذا المقطع يرد بيان لما قضى الله به في شأن بعض الذين تخلفوا عن الغزوة مخلصين غير منافقين؛ ووصف لبعض أحوال المنافقين وموقفهم تجاه ما يتنزل من القرآن الكريم:

(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون ويقتلون، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم) ...

...

(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم) ...

...

(لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، ثم تاب عليهم، إنه بهم رؤوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرضبما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم) ...

...

(ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون واديا، إلا كتب لهم، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون. وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون).

(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، واعملوا أن الله مع المتقين...)

... (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا، صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون)..

وفي النهاية تختم السورة بصفة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده والاكتفاء بكفالته سبحانه:

(لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإن تولوا فقل: حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم).

ولقد أطلنا الاقتباس من نصوص السورة في هذا الاستعراض الإجمالي -قبل مواجهة هذه النصوص فيما بعد بالتفصيل- عن قصد! ذلك أن سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح، ويصف تكوينه العضوي.. وفي هذه السورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية؛ كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال، ومن النفاق والضعف، والتردد في الواجبات والتكاليف، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى، وعدم المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة -وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار- مما استدعى حملات طويلة مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير، تفي بحاجة المجتمع إليها.

ولقد سبق أن أشرنا إجمالا إلى أن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح؛ لم تتم تربيتها؛ ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامي الأصيل. إلا أن هذه الإشارة المجملة لا يمكن فهمها بوضوح إلا بمراجعة الواقع التاريخي الحركي قبل الفتح وبعده.. وسنحاول أن نلم به هنا بأشد اختصار ممكن؛ قبل التعليق بشيء على دلالة هذا الواقع التاريخي ومغزاه، ودلالة النصوص القرآنية التي وردت في سياق هذه السورة كذلك.

لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة؛ فلم تكد الجاهلية -ممثلة في قريش- تحس بالخطر الحقيقي الذي يتهددها من دعوة: "أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله "وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان الله؛ ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى الله. ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول الله [صلى الله عليه وسلم]

هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة لله ورسوله الله؛ ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية.

لم تكد الجاهلية -ممثلة في قريش أول الأمر- تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حربا شعواء على الدعوة الجديدة، وعلى التجمع الجديد، وعلى القيادة الجديدة؛ وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة..

لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه.. وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية الله للعالمين؛ في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد؛ وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد، يتبع في تحركه قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض!

وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان.. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والدينونة لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه لله؛ وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان..

بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي؛ فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى؛ وكان هذا النوع قليلا، فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل؛ فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.

وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة؛ ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة؛ مع السابقين من الأنصار الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] [بيعة العقبة] قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين.. قال ابن كثير في التفسير: "وقال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] [يعني ليلة العقبة]: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال:"أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم "قالوا: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال:"الجنة". قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل".

ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول الله هذه البيعة؛ ولا يرتقبون من ورائها شيئا إلا الجنة؛ ويوثقون هذا البيع فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم]! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين؛ بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم، وأن العرب كلها سترميهم؛ وأنهم لن يعيشوا بعدها في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة وبين ظهرانيهم في المدينة.

ومن رواية ابن كثير في كتابه: "البداية والنهاية ":"قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر ابن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر. قال: مكث رسول الله [ص] بمكة عشر سنين، يتبع الناس في منازلهم.. عكاظ والمجنة.. وفي المواسم، يقول: "من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة". فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره. حتى إن الرجل ليخرج من اليمن، أو من مضر -كذا قال فيه- فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك. ويمضي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا. فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال:"تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة". فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة -وهو من أصغرهم- وفي رواية البيهقي -وهو أصغر السبعين- إلا أنا. فقال: رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وتعضكم السيوف. فإنا أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.. قالوا: أمط عنا يا أسعد! فوالله لا ندع هذه البيعة، ولا نسلبها أبدا! قال: فقمنا إليه، فبايعناه، وأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة "[وقد رواه الإمام أحمد أيضا والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار -زاد البيهقي عن الحاكم- بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي إدريس به نحوه. وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه. وقال البزار: وروى غير واحد غير ابن خيثم، ولا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه].

فقد كان الأنصار إذن يعلمون -عن يقين واضح- تكاليف هذه البيعة؛ وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئا في هذه الحياة الدنيا -حتى ولا النصر والغلبة- وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة.. ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها.. فلا جرم أن يكونوا -مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد- هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة..

ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء.. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة؛ واضطر أفراد كثيرون -ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم- أن يجاروا قومهم احتفاظا بمكانتهم فيهم.. حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول: هذا أمر قد توجه! وأظهر الإسلام نفاقا. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليدا -ولو لم يكونوا منافقين- ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه.. مما أنشأ تخلخلا في بناء المجتمع المدني ناشئا عن اختلاف مستوياته الإيمانية.

فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)

وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد، بقيادة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة؛ ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد.

وحين نراجع السور المدنية -بترتيب النزول التقريبي- فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم؛ وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع -على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة، ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد- وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة..

ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين -وبخاصة في فترات الشدة- أعراض من الضعف، والنفاق والتردد، والشح بالنفس والمال، والتهيب من مواجهة المخاطر.. وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية.. والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة.. نذكر منها على سبيل المثال:

كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون... [الأنفال: 5 -8]

هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد... [آل عمران: 7- 9]

(ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب: لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم، والله يشهد إنهم لكاذبون. لئن أخرجوا لا يخرجون معهم، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون. لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون)... [الحشر: 11 -13]

يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيرا. إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون: إن بيوتنا عورة- وما هي بعورة -إن يريدون إلا فرارا. ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا... الخ) [الأحزاب: 9- 14]

يا أيها الذين أمنوا خذوا حذركم، فانفروا ثبات أو انفروا جميعا. وإن منكم لمن ليبطئن، فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن -كأن لم تكن بينكم وبينه مودة -: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما... [النساء: 71- 73]

ألم تر إلى الذين قيل لهم: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب! قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلا. أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، وإن تصبهم حسنة يقولوا: هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا: هذه من عندك. قل: كل من عند الله، فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ...

... [النساء: 77 -78].

(إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم. إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم. ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله. فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم).. [محمد: 36- 38].

ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم، ما هم منكم ولا منهم، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون. أعد الله لهم عذابا شديدا، إنهم ساء ما كانوا يعملون. اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين. لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون. استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، إن الله قوي عزيز. لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضي الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون... [المجادلة: 14 -22].

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين. ويقول الذين آمنوا: أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟ حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين... [المائدة: 51- 53].

(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم، إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، تسرون إليهم بالمودة، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون. لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم، والله بما تعملون بصير. قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده. إلا قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير)... [الممتحنة: 1 -4].

وحسبنا هذه النماذج العشرة من شتى السور، للدلالة على ما كان يظهر في المجتمع المسلم من أعراض.. نتيجة طبيعية وحتمية لدخول عناصر جديدة فيه بصفة مستمرة، لا يتم صهرها وتنسيقها مع القاعدة الصلبة الخالصة إلا بعد فترة وجهد وتربية مستمرة..

إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليما في جملته بسبب اعتماده أساسا على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار؛ وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحيانا، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.

وشيئا فشيئا كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة؛ ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين؛ ومن المترددين كذلك والمتهيبين؛ وممن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين.. حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة؛ وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد..

نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها؛ فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها.. تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. وتميز أهل بدر. وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية. ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا. وجاءت النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة وتنص عليها.

والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، ذلك الفوز العظيم... [التوبة: 100].

"لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة".. [من حديث أخرجه البخاري]. وكان هذا رد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على عمر- رضي الله عنه -وقد استأذن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة حينما أدركته لحظة ضعف فأرسل إلى قريش سرا ينبئهم بتجهز رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لفتح مكة.

(لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما)... [الفتح: 18- 19].

(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبير)... [الحديد: 10].

" مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحة"... [أورده ابن القيم في زاد المعاد] وهو رد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على خالد بن الوليد إذ تلاحى مع عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- وخالد هو سيف الله. ولكن عبدالرحمن من السابقين الأولين. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لخالد:"دع عنك أصحابي "وهو يعني هذه الطبقة ذات القدر الخاص المتميز في المجتمع المسلم في المدينة.

ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنِشأتها الحركة الإسلامية، لم يكن مانعا أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح؛ وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف، والكثير من ظواهر الضعف والتردد، والشح بالنفس والمال، وعدم الوضوح العقيدي، والنفاق.. من ذلك المجتمع بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.

إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة، قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجا جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية؛ وفيهم كارهون للإسلام منافقون؛ وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر، وفيهم المؤلفة قلوبهم، دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية.

لقد كانت وقفة قريش العنيدة الطويلة حاجزا قويا دون انسياح الإسلام في الجزيرة العربية. فقد كانت قريش هي صاحبة الكلمة العليا في الشؤون الدينية في الجزيرة -فوق ما كان لها من نفوذ اقتصادي وسياسي وأدبي كذلك- فكانت وقفتها في وجه الدين الجديد، بهذه الصورة العنيدة، مدعاة لصرف العرب في أنحاء الجزيرة عن الدخول فيه، أو على الأقل مدعاة للتردد والانتظار حتى تنجلي المعركة بين قريش وهذا النبي من أبنائها!... فلما دانت قريش بالفتح، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف؛ وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد خضدت شوكتها نهائيا فأجليت بنو قينقاع وبنو النضير إلى الشام، وأبيدت بنو قريظة، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير... كان ذلك إيذانا بدخول الناس في دين الله أفواجا، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في خلال عام واحد.

غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر -ولكن على نطاق أوسع- بعد ما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى، المستمرة التأثير في خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى! ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة، والأساس الركين لهذا المجتمع؛ لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة. ولكن الله الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر؛ كما أنه -سبحانه- كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة.. والله أعلم حيث يجعل رسالته..

وأول ما ظهر من ذلك كان يوم حنين الذي جاء عنه في هذه السورة:"التوبة ": (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا؛ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين..)

وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من "الطلقاء" الذين أسلموا يوم الفتح، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة. فكان وجود هذين الألفين -مع عشرة آلاف- سببا في اختلال التوازن في الصف -بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن- ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح.

كذلك كان ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع؛ ودخول تلك الأفواج الجديدة، بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة.. هذه الظواهر والأعراض التي تحدثت عنها سورة التوبة، والتي اقتضت تلك الحملات الطويلة المفصلة المنوعة الأساليب، التي أشرنا إليها في المقتطفات الممثلة لكل مقاطع السورة.

ونستطيع أن نستطرد هنا لنتابع خطوات الواقع التاريخي للمجتمع المسلم بعد عامين اثنين من الفتح؛ عندما قبض رسول الله [ص] فارتدت الجزيرة العربية كلها؛ ولم يثبت إلا مجتمع المدينة -القاعدة الصلبة الخالصة- فهذه الظاهرة يسهل الآن تفسيرها.. إن عامين اثنين بعد الفتح لم يكونا كافيين لاستقرار حقيقة الإسلام في نفوس هذه الأفواج الكثيرة التي دخلت في دين الله بعد الفتح، بمستوياتها الإيمانية المخلخلة. فلما قبض رسول الله -[صلى الله عليه وسلم]- ارتجت الجزيرة المخلخلة، وثبتت القاعدة الصلبة. واستطاعت هذه القاعدة بصلابتها وخلوصها وتناسقها أن تقف في وجه التيار؛ وأن ترده عن مجراه الجارف؛ وأن تحوله إلى الإسلام مرة أخرى..

إن رؤية هذه الحقيقة -على هذا النحو- كفيلة بأن ترينا تدبير الله الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة -في أول الأمر- وحكمته في تسليط المشركين الطواغيت على الفئة المسلمة يؤذونها، ويفتنونها عن دينها، ويهدرون دماءها، ويفعلون بها الأفاعيل!

لقد كان الله سبحانه يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة. وأنه بدون هذه المحنة الطويلة لا تصلب الأعواد ولا تثبت للضغوط؛ وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار والمضي في سبيل الله على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع، وقلة العدد، وانعدام النصير الأرضي... إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للقاعدة الأصيلة الثابتة عند نقطة الانطلاق الأولى..

إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار، ليكونوا القاعدة في المدينة -قبل بدر- وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي

وأخيراً فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارت تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وارتداد الجزيرة عن الإسلام.

إن هذه الحقيقة -كما أنها ترينا تدبير الله الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة؛ وفي الأهوال والمشاق والأخطار التي تعرض لها المجتمع المسلم في المدينة حتى الحديبية- هي كذلك تكشف لنا عن طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في أي زمان وفي أي مكان.

إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها؛ والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً؛ ذلك مع الحذر الشديد من التوسع الأفقي قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة. فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ما حق يهدر وجود أية حركة، لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية، ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى.

على أن الله -سبحانه- هو الذي يتكفل بهذا لدعوته. فحيثما أراد لها حركة صحيحة، عرَّض طلائعها للمحنة الطويلة؛ وأبطأ عليهم النصر؛ وقللهم؛ وبطأ الناس عنهم؛ حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا، وتهيأوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمنية.. ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده -سبحانه- والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

والآن نعرض -على وجه الإجمال- للموضوعات الرئيسية التي تضمنتها السورة، وبخاصة الأحكام النهائية التي قررتها في علاقة المعسكر الإسلامي بسائر المعسكرات حوله.. فالأحكام التي وردت في هذه السورة -بوصفها آخر ما نزل من الأحكام- هي التي تمثل قمة الخط الحركي للمنهج الإسلامي..

ونحب هنا أن نعيد ما قلناه في الجزء التاسع -في تقديم سورة الأنفال- عن طبيعة هذا المنهج؛ لنفهم على ضوئه هذه الأحكام النهائية الأخيرة؛ ولو كان في إعادته شيء من التكرار في كتاب الظلال. ذلك أن قرب هذه الفقرات التي سنعيدها هنا ضروري لحيوية السياق:

" لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في "زاد المعاد" في الفصل الذي عقده باسم: "فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل: أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه: (يا أيها المدثر قم فأنذر) فنبأه بقوله: (اقرأ) وأرسله ب (يا أيها المدثر). ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب. ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين. فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية؛ ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة. وأهل حرب. وأهل ذمة.. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد؛ فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده.. ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها: فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم. فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم.. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسما أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم. وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم. وقسما لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر؛ فإذا انسلخت قاتلهم.. فقتل الناقض لعهده، وأجل من لا عهد له، أوله عهد مطلق، أربعة أشهر، وأمره أنيتم للموفي بعهده عهده إلى مدته؛ فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية.. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حالة أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه.. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن. وخائف محارب.. وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله؛ وأن يجاهدهم بالعلم والحجة؛ وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم؛ ونهى أن يصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم؛ وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم.. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين".. انتهى.

" ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين، جديرة بالوقوف أمامها طويلا. ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة:

" السمة الأولى: هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين.. فهو حركة تواجه واقعا بشريا.. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي.. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية، تقوم عليها أنظمة واقعية عملية، تسندها سلطات ذات قوة مادية.. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه.. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات؛ وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات؛ وتخضعهم بالقهر والتضليل، وتعبدهم لغير ربهم الجليل.. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي. كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد.. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيئ.

" والسمة الثانية في منهج هذا الدين.. هي الواقعية الحركية.. فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية. وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً، ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً، يمثل القواعد النهائية في هذا الدين. ويقولون -وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع البائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان -: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون لهذا الدين جميلا بتخليه عن منهجه، وهو إزالة الطواغيت جميعا من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة. بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية، وتعلن استسلامها، والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها.

" والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة، والوسائل المتجددة، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول سواء- وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشا، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين.. إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة؛ ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد.. هو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية للعباد... لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين.. ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد، في خطة مرسومة، ذات مراحل محددة، لكل مرحلة وسائلها المتجددة.. على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.

" والسمة الرابعة: هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى -على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن زاد المعاد- وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه؛ أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية. وأن تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته. ولكن لا يقاومه ولا يحاربه. فإن فعل ذلك أحد، كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله، أو يعلن استسلامه!".

في ضوء هذا البيان نستطيع أن نفهم لم كانت هذه الأحكام الأخيرة الواردة في هذه السورة: من براءة الله ورسوله من عهود المشركين؛ وإمهال ذوي العهود الموقوتة منهم -ممن لم ينقضوا مع المسلمين عهدا، ولم يظاهروا عليهم أحدا- إلى مدتهم. وإمهال ذوي العهود غير الموقوتة -ممن لم ينقضوا مع المسلمين عهدا كذلك ولم يظاهروا عليهم أحدا- إلى أربعة أشهر؛ ومثلهم من لم يكن لهم مع المسلمين عهد أصلا من المشركين. ونبذ عهود الناقضين لعهودهم، مع إمهالهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض آمنين. فإذا انسلخت هذه الأشهر أخذوا وقتلوا حيث وجدوا وحوصروا ومنعوا من التنقل وهم آمنون.. كما نفهم الأحكام الواردة فيها عن قتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله الصحيح، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.. ثم الأحكام الواردة بجهاد المنافقين مع الكافرين بالغلظة عليهم. وعدم الصلاة على موتاهم أو القيام على قبورهم.. وكلها أحكام تعدل الأحكام المرحلية السابقة في السور التي نزلت قبل التوبة. وهذا التعديل نحسب أنه أصبح مفهوما لنا الآن، في ضوء ذلك البيان!

وليس هنا مجال تفصيل القول في هذه الأحكام الأخيرة، ولا في الأحكام المرحلية السابقة لها؛ ولا في غيرها من موضوعات السورة الأخرى. فسنعرض لهذا كله بالتفصيل -إن شاء الله- عند استعراض النصوص القرآنية في سياق السورة بالتفصيل.

ولكننا فقط نبادر فنقول: إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة. ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد- عن طريق الاجتهاد المطلق -أي الأحكام هو أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف، في زمان من الأزمنة. في مكان من الأمكنة! مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها، متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام؛ كما كان حالها عند نزول سورة التوبة، وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية. سواء في معاملة المشركين أو أهل الكتاب.

إن المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لذراري المسلمين- الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان -وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على أصل الجهاد في الإسلام؛ يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهربا من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد، وردهم جميعا إلى عبادة الله وحده؛ وتحطيم الطواغيت والأنظمة والقوى التي تقهرهم على عبادة غير الله، والخضوع لسلطان غير سلطانه، والتحاكم إلى شرع غير شرعه..

ومن ثم نراهم يقولون مثلا: إن الله سبحانه يقول: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).. ويقول: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم).. ويقول: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)... ويقول عن أهل الكتاب: (قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون)..

فالإسلام إذن لا يقاتل إلا الذين يقاتلون أهل دار الإسلام في داخل حدود هذه الدار أو الذين يهددونها من الخارج! وأنه قد عقد صلح الحديبية مع المشركين. وأنه قد عقد معاهدة مع يهود المدينة ومشركيها! ومعنى ذلك- في تصورهم المهزوم -أن لا علاقة للإسلام إذن بسائر البشر في أنحاء الأرض. ولا عليه أن يعبدوا ما يعبدون من دون الله. ولا عليه أن يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله في الأرض كلها ما دام هو آمنا داخل حدوده الاقليمية! وهو سوء ظن بالإسلام وسوء ظن بالله- سبحانه! -تمليه الهزيمة أمام الواقع البائس النكد الذي يواجههم؛ وأمام القوى العالمية المعادية التي لا طاقة لهم بها في اللحظة الحاضرة!

وهان الأمر لو أنهم حين يهزمون روحيا أمام هذه القوى لا يحيلون هزيمتهم إلى الإسلام ذاته؛ ولا يحملونه على ضعف واقعهم الذي جاءهم من بعدهم عن الإسلام أصلا! ولكنهم يأبون إلا أن يحملوا ضعفهم هم وهزيمتهم على دين الله القوي المتين!

إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعا معينا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام. ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى؛ وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين.. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدما في تحسين ظروفها؛ وفي إزالة العوائق من طريقها، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية.

إن النصوص الأخيرة تقول في شأن المشركين:

(براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله، وأن الله مخزي الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا، ولم يظاهروا عليكم أحدا، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم. وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون)

وتقول في شأن أهل الكتاب:

(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)

فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام؛ فهم- اللحظة وموقتا -غير مكلفين بتحقيقها- ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها -ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها.. ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية. وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين الله القوي المتين. وعليهم أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام! إنه دين السلم والسلام فعلا، ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله، وإدخال البشرية كافة في السلم كافة.. إنه منهج الله هذا الذي يراد البشر على الارتفاع إليه، والاستمتاع بخيره؛ وليس منهج عبد من العبيد؛ ولا مذهب مفكر من البشر؛ حتى يخجل الداعون إليه من إعلان أن هدفهم الأخير هو تحطيم كل القوى التي تقف في سبيله؛ لإطلاق الحرية للناس أفرادا في اختياره..

إنه حين تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد؛ وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضا. فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب ولكل نظام الحق في أن يعيش داخل حدوده آمنا، ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين، ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة والأوضاع المختلفة أن تتعايش وألا يحاول أحدها إزالة الآخر!

فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية، ووضع العبودية فيه لله وحده؛ وتكون إلى جانبه مناهج ومذاهب وأوضاع من صنع البشر العبودية فيها للعباد.. فإن الأمر يختلف من أساسه. ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية؛ ويحرر البشر من العبودية للعباد؛ ويتركهم أحرارا في اختيار العقيدة التي يختارونها في ظل الدينونة لله وحده.

والمهزومون الذين يحاولون أن يلووا أعناق النصوص ليا ليخرجوا من الحرج الذي يتوهمونه في انطلاق الإسلام وراء حدوده الأولى ليحرر البشر في الأرض كلها من العبودية لغير الله. ينسون هذه الحقيقة الكبرى.. وهي أن هناك منهجا ربانيا العبودية فيه لله وحده يواجه مناهج بشرية العبودية فيها للعبيد!!!

إن للجهاد المطلق في هذا الدين مبرراته النابعة من ذات المنهج الإلهي؛ فليراجعها المهزومون الذين يحملون هزيمتهم وضعفهم على هذا الدين. لعل الله أن يرزقهم القوة من عنده؛ وأن يجعل لهم الفرقان الذي وعد به عباده المتقين!...

ولقد لاحظنا- كما أثبتنا ذلك مرارا في التعريف بالسور -أن هناك" شخصية "خاصة لكل سورة؛ وسمات معينة تحدد ملامح هذه الشخصية. كما أن هناك جوا معينا وظلالا معينة. ثم تعبيرات بعينها في السورة الواحدة. تؤكد هذه الملامح، وتبرز تلك الشخصية! ولعل في الفقرة السابقة، وفي حديث ابن عباس قبلها، ما يفسر هذه الظاهرة الواضحة التي أثبتناها مرارا في التعريف بالسور في هذه الظلال.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت هذه السورة، في أكثر المصاحف، وفي كلام السلف: سورة براءة؛ ففي الصحيح عن أبي هريرة، في قصة حج أبي بكر بالناس، قال أبو هريرة: فأذن معنا علي بن أبي طالب في أهل منى ببراءة. وفي صحيح البخاري، عن زيد بن ثابت قال:"آخر سورة نزلت سورة براءة"، وبذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه. وهي تسمية لها بأول كلمة منها.

وتسمى سورة التوبة في كلام بعض السلف في مصاحف كثيرة، فعن ابن عباس سورة التوبة هي الفاضحة، وترجم لها الترمذي في جامعه باسم التوبة. ووجه التسمية: أنها وردت فيها توبة الله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهو حدث عظيم.

ووقع هذان الاسمان معا في حديث زيد بن ثابت، في صحيح البخاري، في باب جمع القرآن، قال زيد فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}، حتى خاتمة سورة براءة.

وهذان الاسمان هما الموجودان في المصاحف التي رأيناها.

ولهذه السورة أسماء أخر، وقعت في كلام السلف، من الصحابة والتابعين، فروي عن ابن عمر، عن ابن عباس: كنا ندعوها أي سورة براءة المقشقشة بصيغة اسم الفاعل وتاء التأنيث من قشقشة إذا أبراه من المرض، كان هذا لقبا لها ولسورة {الكافرون} لأنهما تخلصان من آمن بما فيهما من النفاق والشرك، لما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص، ولما فيهما من وصف أحوال المنافقين.

وكان ابن عباس يدعوها الفاضحة: قال ما زال ينزل فيها ومنهم ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى أحد إلا ذكر فيها.

وأحسب أن ما تحكيه من أحوال المنافقين يعرف به المتصفون بها أنهم المراد، فعرف المؤمنون كثيرا من أولئك مثل قوله تعالى {ومنهم من يقول ائذن ولا تفتني} فقد قالها بعضهم وسمعت منهم، وقوله {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} فهؤلاء نقلت مقالتهم بين المسلمين. وقوله {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم}.

وعن حذيفة: أنه سماها سورة العذاب لأنها نزلت بعذاب الكفار، أي عذاب القتل والأخذ حين يثقفون.

وعن عبيد بن عمير أنه سماها المنقرة بكسر القاف مشددة لأنها نقرت عما في قلوب المشركين لعله يعني من نوايا الغدر بالمسلمين والتمالي على نقض العهد وهو من نقر الطائر إذا أنفى بمنقاره موضعا من الحصى ونحوه ليبيض فيه.

وعن المقداد بن الأسود، وأبي أيوب الأنصاري: تسميتها البحوث بباء موحدة مفتوحة في أوله وبمثلثة في آخره بوزن فعول بمعنى الباحثة وهو مثل تسميتها المنقّرة.

وعن الحسن البصري أنه دعاها الحافرة كأنها حفرت عما في قلوب المنافقين من النفاق، فأظهرته للمسلمين.

وعن قتادة: أنها تسمى المثيرة لأنها أثارت عورات المنافقين وأظهرتها. وعن ابن عباس أنه سماها المبعثرة لأنها بعثرت عن أسرار المنافقين، أي أخرجتها من مكانها.

وفي الإتقان: أنها تسمى المخزية بالخاء والزاي المعجمة وتحتية بعد الزاي وأحسب أن ذلك لقوله تعالى {إن الله مخزي الكافرين}.

وفي الإتقان أنها تسمى المنكلة، أي بتشديد الكاف.

وفيه أنها تسمى المشددة.

وعن سفيان أنها تسمى المدمدمة بصيغة اسم الفاعل من دمدم إذا أهلك لأنها كانت سبب هلاك المشركين. فهذه أربعة عشر اسما.

وهي مدنية بالاتفاق. قال في الإتقان: واستثنى بعضهم قوله {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} الآية ففي صحيح البخاري أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب. فكان آخر قول أبي طالب: أنه على ملة عبد المطلب، فقال النبي "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". وتوفي أبو طالب فنزلت {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين}.

وشذ ما روي عن مقاتل: أن آيتين من آخرها مكيتان، وهما {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر السورة. وسيأتي ما روي أن قوله تعالى {أجعلتم سقاية الحاج}. الآية. نزل في العباس إذ أسر يوم بدر فعيره علي بن أبي طالب بالكفر وقطيعة الرحم، فقال: نحن نحجب الكعبة الخ.

وهذه السورة آخر السور نزولا عند الجميع، نزلت بعد سورة الفتح، في قول جابر بن زيد، فهي السورة الرابعة عشر بعد المائة في عداد نزول سور القرآن. وروي: أنها نزلت في أول شوال سنة تسع، وقيل آخر ذي القعدة سنة تسع، بعد خروج أبي بكر الصديق من المدينة للحجة التي أمره عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: قبيل خروجه.

والجمهور على أنها نزلت دفعة واحدة، فتكون مثل سورة الأنعام بين السور الطوال.

وفسر كثير من المفسرين بعض آيات هذه السورة بما يقتضي أنها نزلت أوزاعا في أوقات متباعدة، كما سيأتي، ولعل مراد من قال إنها نزلت غير متفرقة: أنه يعني إنها لم يتخللها ابتداء نزول سورة أخرى.

والذي يغلب على الظن أن ثلاث عشرة آية من أولها إلى قوله تعالى {فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} نزلت متتابعة، كما سيأتي في خبر بعث علي بن أبي طالب ليؤذن بها في الموسم. وهذا ما اتفقت عليه الروايات. وقد قيل: إن ثلاثين آية منها، من أولها إلى قوله تعالى {قاتلهم الله أنى يؤفكون} أذن بها يوم الموسم، وقيل: أربعين آية: من أولها إلى قوله {وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} أذن به في الموسم، كما سيأتي أيضا في مختلف الروايات، فالجمع بينها يغلب الظن بأن أربعين آية نزلت متتابعة، على أن نزول جميع السورة دفعة واحدة ليس ببعيد عن الصحة...

اتفقت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك، في رمضان سنة تسع، عقد العزم على أن يحج في شهر ذي الحجة من عامه ولكنه كره عن اجتهاد أو بوحي من الله مخالطة المشركين في الحج معه، وسماع تلبيتهم التي تتضمن الإشراك، أي قولهم في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وطوافهم عراة، وكان بينه وبين المشركين عهد لم يزل عاملا لم ينقض والمعنى أن مقام الرسالة يربأ عن أن يسمع منكرا من الكفر ولا يغيره بيده لأن ذلك أقوى الإيمان. فأمسك عن الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر الصديق على أن يحج بالمسلمين، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، وأكثر الأقوال على أن براءة نزلت قبل خروج أبي بكر من المدينة، فكان ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم صادرا عن وحي لقوله تعالى في هذه السورة {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} إلى قوله {أولئك أن يكونوا من المهتدين} وقوله {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} الآية. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة بسبب دم كان لنبي بكر عند خزاعة قبل البعثة بمدة. واقتتلوا فكان ذلك نقضا للصلح. واستصرخت خزاعة النبي صلى الله عليه وسلم فوعدهم بالنصر وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ثم حنين ثم الطائف، وحج بالمسلمين تلك السنة سنة ثمان عتاب بن أسيد، ثم كانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. من تبوك أمر أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على الناس. ثم أردفه بعلي بن أبي طالب ليقرأ على الناس ذلك.

وقد يقع خلط في الأخبار بين قضية بعث أبي بكر الصديق ليحج بالمسلمين عوضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين قضية بعث علي بن أبي طالب ليؤذن في الناس بسورة براءة في تلك الحجة اشتبه به الغرضان على من أراد أن يتلبس وعلى من لبس عليه الأمر فأردنا إيقاظ البصائر لذلك. فهذا سبب نزولها وذكره أول أغراضها فافتتحت السورة بتحديد مدة العهود التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن.

وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم.

ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحج.

وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلها.

وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم.

وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية، وأنهم ليسوا بعيدا من أهل الشرك وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم.

وحرمة الأشهر الحرام.

وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيء الذي كان عند الجاهلية.

وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ونصر النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله ناصر نبيه وناصر الذين ينصرونه. وتذكيرهم بنصر الله رسوله يوم حنين، وبنصره إذ أنجاه من كيد المشركين بما هيأ له من الهجرة إلى المدينة. والإشارة إلى التجهيز بغزوة تبوك.

وذم المنافقين المتثاقلين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر. وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا بمستحقيها.

وذكر أذاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول. وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في عهودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين.

والأمر بضرب الجزية على أهل الكتاب. ومذمة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة، ومن التكالب على الأموال.

وأمر الله بجهاد الكفار والمنافقين.

ونهي المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم.

ونهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على موتاهم.

وضرب المثل بالأمم الماضية.

وذكر الذين اتخذوا مسجد الضرار عن سوء نية، وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة.

وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلفهم. وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين وذكر ما أعد لهم من الخير.

وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر. وفضل المهاجرين والأنصار.

والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح.

والجهاد وأنه فرض على الكفاية. والتذكير بنصر الله المؤمنين يوم حنين بعد يأسهم.

والتنويه بغزوة تبوك وجيشها.

والذين تاب الله عليهم من المتخلفين عنها.

والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولا منهم جبله على صفات فيها كل خير لهم.

وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالفقه في الدين ونشر دعوة الدين...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

وتنطوي فصولها على:

(1) التبرؤ من المشركين الناقضين للعهد والحث على قتالهم إلى أن يتوبوا

(2) والتنبيه على أن المشركين نجس لا يجوز أن يدخلوا منطقة البيت الحرام.

(3) وحظر تولي الآباء والأقارب الكفار ومناصرتهم والتحالف معهم وإيجاب إيثار الله ورسوله والجهاد في سبيله عليهم.

(4) وحث على قتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية ويخضعوا لسلطان الإسلام فيكون لهم ذلك مانعا.

(5) وإقرار حرمة الأشهر الحرم الأربعة بأعيانها وتحريم النسيء والتلاعب في أوقاتها بسبيل التقديم والتأخير فيها.

(6) وحث واستنفار إلى غزوة أجمعت الروايات على أنها غزوة تبوك وتنديد بالمتثاقلين والمتخلفين عنها بأعذار كاذبة ووصمهم بالنفاق.

(7) وصور من مواقف المنافقين وأقوالهم ومكائدهم وسخريتهم وتثبيطهم وإخلافهم لوعودهم وعهودهم وتنديد باعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة وإنذارات قارعة لهم وإيجاب الوقوف منهم موقف الشدة والحزم.

(8) وبيان لطبيعة الأعراب وشدة كفر الكافرين ونفاق المنافقين منهم بسببها مع التنويه بطبقة أخلصت في إيمانها وإسلامها وأعمالها منهم.

(9) وتصنيف المنتسبين إلى الإسلام إلى مخلصين سابقين وتابعيهم بإحسان، ومنافقين متسترين، وخالطي عمل صالح بعمل سيء، وأناس غير معروفة حقيقتهم على اليقين موكولين إلى الله، ومنافقين مجاهرين بالضرر والفساد.

(10) وحظر الاستغفار للمشركين والصلاة عليهم.

(11) ومشاهد عن إخلاص بعض فقراء المسلمين إزاء الدعوة إلى الجهاد وشدة ندم بعض المخلصين المتخلفين وتوبة الله عليهم.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

في هذه السورة، كانت التوبة هدفاً قرآنياً في كل ما أُثير فيها من مواضيع تتعلق بالموقف الحاسم من المشركين وأهل الكتاب، المنافقين والمنحرفين عن بعض خطوط المسيرة، لأنها تؤكد في ذلك كله على موقف الرفض لكل هذه الفئات، على أساس الرفض للخطوط المضادة أو المنحرفة أو القلِقة التي يمثلها خط السير لديها وبذلك كانت آيات السورة دعوةً إلى التوبة، بشكلٍ غير مباشر وقد انطلقت هذه السورة لتحدِّد للمسلمين المسار العملي الذي يتحركون فيه، في علاقاتهم مع المشركين وأهل الكتاب، ولتحسم الوضع كله مع المشركين، فتلغي معاهداتهم وتمنعهم من الحج، وتؤكد إنهاء الصلة بينهم وبين المسلمين، فلا علاقة ولا ولاية، لأن القضية ليست قضية فكرٍ يواجه فكراً، فيلتقيان في جانبٍ ويفترقان في جانب آخر، بل هي قضية خرافات وأوهام تحكم المجتمع كله..

تفسير الشافعي 204 هـ :

لما قوي أهل الإسلام، أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم مرجعَه من تبُوك: {بَرَاءةٌ مِّنَ اَللَّهِ وَرَسُولِهِ} فأرسل بهذه الآيات مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقرأها على الناس في الموسم، وكان فرضا أن لا يعطى لأحدٍ مدة بعد هذه الآيات إلا أربعة أشهر، لأنها الغاية التي فرضها الله عز وجل.

وجعل النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية بعد فتح مكة بسنين، أربعة أشهر، لم أعلمه زاد أحدا بعد أن قوي المسلمون على أربعة أشهر، فأحب للإمام إذا نزلت بالمسلمين نازلة، وأرجو أن لا ينزلها الله عز وجل بهم ـ إن شاء الله تعالى ـ مهادنة يكون النظر لهم فيها، ولا يهادن إلا إلى مدة، ولا يجاوز بالمدة مدة أهل الحديبية كانت النازلة ما كانت.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بقوله جل ثناؤه:"بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ:" هذه براءة من الله ورسوله... وقال: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ "والمعنى: إلى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، لأن العهود بين المسلمين والمشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتولى عقدها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يعقدها بأمره، ولكنه خاطب المؤمنين بذلك لعلمهم بمعناه، وأن عقود النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته كانت عقودهم، لأنهم كانوا لكل أفعاله فيهم راضين، ولعقوده عليهم مسلمين، فصار عقده عليهم كعقودهم على أنفسهم، فلذلك قال: "إلى الّذِينَ عاهَدْتُم مِنَ المُشْرِكِينَ "لما كان من عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.

وقد اختلف أهل التأويل فيمن برئ الله ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين فأذن له في السياحة في الأرض أربعة أشهر؛ فقال بعضهم: صنفان من المشركين: أحدهما: كانت مدة العهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلّ من أربعة أشهر، وأمهل بالسياحة أربعة أشهر، والآخر منهما كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه، ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيثما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب... عن ابن إسحاق، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه أميرا على الحاجّ من سنة تسع ليقيم للناس حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين، ونزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا يصدّ عن البيت أحد جاءه، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين الناس من أهل الشرك، وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى أجل مسمى، فنزلت فيه وفي من تخلف عنه من المنافقين في تبوك وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، منهم من سمي لنا، ومنهم من لم يسمّ لنا، فقال: "بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ أي لأهل العهد العام من أهل الشرك من العرب، فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ..." إلى قوله: "أنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ" أي بعد هذه الحجة.

وقال آخرون: بل كان إمهال الله عزّ وجلّ بسياحة أربعة أشهر من كان من المشركين بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فأما من لم يكن له من رسول الله عهد فإنما كان أجله خمسين ليلة، وذلك عشرون من ذي الحجة والمحرّم كله. قالوا: وإنما كان ذلك كذلك، لأن أجل الذين لا عهد لهم كان إلى انسلاخ الأشهر الحرم، كما قال الله: "فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم"، قالوا: والنداء ببراءة كان يوم الحجّ الأكبر، وذلك يوم النحر في قول قوم وفي قول آخرين: يوم عرفة، وذلك خمسون يوما. قالوا: وأما تأجيل الأشهر الأربعة، فإنما كان لأهل العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم نزلت براءة. قالوا: ونزلت في أوّل شوّال، فكان انقضاء مدة أجلهم انسلاخ الأشهر الحرم. وقد كان بعض من يقول هذه المقالة يقول: ابتداء التأجيل كان للفريقين واحدا، أعني الذي له العهد والذي لا عهد له غير أن أجل الذي كان له عهد كان أربعة أشهر، والذي لا عهد له: انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك انقضاء المحرّم...

وقال آخرون: كان ابتداء تأخير المشركين أربعة أشهر، وانقضاء ذلك لجميعهم وقتا واحدا. قالوا: وكان ابتداؤه يوم الحجّ الأكبر، وانقضاؤه انقضاء عشر من ربيع الآخر...

وقال آخرون ممن قال: «ابتداء الأجل لجميع المشركين وانقضاؤه كان واحدا». كان ابتداؤه يوم نزلت براءة، وانقضاؤه انقضاء الأشهر الحرم، وذلك انقضاء المحرم...

وقال آخرون: إنما كان تأجيل الله الأشهر الأربعة المشركين في السياحة لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد مدته أقلّ من أربعة أشهر، أما من كان له عهد مدته أكثر من أربعة أشهر فإنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يتمّ له عهده إلى مدته... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: "فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ" إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: "إلا الذين عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ ثُمّ لَمْ يُنْقُصُوكُمْ شِيْئا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا فَأتمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ إنّ الله يُحِبّ المُتّقِينَ".

فإن ظنّ ظانّ أن قول الله تعالى ذكره: "فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" يدلّ على خلاف ما قلنا في ذلك، إذ كان ذلك ينبئ عن أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تنبئ عن صحة ما قلنا وفساد ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن له منه عهد، وذلك قوله: "كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ" فهؤلاء مشركون، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم وترك مظاهرة عدوّهم عليهم. وبعد: ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين بعث عليّا رضي الله عنه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته أوضح الدليل على صحة ما قلنا وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهده بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود، فأما من كان أجل عهده محدودا ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا، بذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب.

حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قيس، عن مغيرة، عن الشعبيّ، قال: ثني محرر بن أبي هريرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع عليّ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي، فكان إذا صَحِلَ صوته ناديت، قلت: بأي شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع: لا يطف بالكعبة عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك...

وأما الأشهر الأربعة فإنها كانت أجلَ من ذكرنا، وكان ابتداؤها يوم الحجّ الأكبر وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الآخر، فذلك أربعة أشهر متتابعة، جعل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم فيها السياحة في الأرض، يذهبون حيث شاءوا، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحد بحرب ولا قتل ولا سلب.

فإن قال قائل: فإذا كان الأمر في ذلك كما وصفت، فما وجه قوله: "فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ" وقد علمت أن انسلاخها انسلاخ المحرم، وقد زعمت أن تأجيل القوم من الله ومن رسوله كان أربعة أشهر، وإنما بين الحج الأكبر وانسلاخ الأشهر الحرم خمسون يوما أكثره، فأين الخمسون يوما من الأشهر الأربعة؟ قيل: إن انسلاخ الأشهر الحرم إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشهر الأربعة لمن له عهد، إما إلى أجل غير محدود وإما إلى أجل محدود قد نقضه، فصار بنقضه إياه بمعنى من خيف خيانته، فاستحق النبذ إليه على سواء غير أنه جعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر، ألا ترى الله يقول لأصحاب الأشهر الأربعة، ويصفهم بأنهم أهل عهد "بَرَاءةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمُ مِنَ المُشْرِكينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزِي الله" ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرام أجلاً بأنهم أهل شرك لا أهل عهد، فقال: "وأذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَرِ أنّ الله بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... إلاّ الّذينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ..."، ثم قال: "فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكيِنَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"؟ فأمر بقتل المشركين الذين لا عهد لهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وبإتمام عهد الذين لهم عهد إذا لم يكونوا نقضوا عهدهم بالمظاهرة على المؤمنين وإدخال النقص فيه عليهم.

فإن قال قائل: وما الدليل على أن ابتداء التأجيل كان يوم الحجّ الأكبر دون أن يكون كان من شوّال على ما قاله قائلو ذلك؟ قيل له: إن قائلي ذلك زعموا أن التأجيل كان من وقت نزول براءة، وذلك غير جائز أن يكون صحيحا لأن المجعول له أجل السياحة إلى وقت محدود إذا لم يعلم ما جعل له، ولا سيما مع عهد له قد تقدم قبل ذلك بخلافه، فكمن لم يجعل له ذلك لأنه إذا لم يعلم ماله في الأجل الذي جعل له وما عليه بعد انقضائه فهو كهيئته قبل الذي جعل له من الأجل، ومعلوم أن القوم لم يعلموا بما جعل لهم من ذلك إلا حين نودي فيهم بالموسم، وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن ابتداءه ما قلنا وانقضاءه كان ما وصفنا.

وأما قوله: "فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ" فإنه يعني: فسيروا فيها مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه، يقال منه: ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسُيُوحا وسيحانا.

وأما قوله: "واعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مَعْجِزي الله" فإنه يقول لأهل العهد من الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبل نزول هذه الآية: اعملوا أيها المشركون أنكم إن سحتم في الأرض واخترتم ذلك مع كفركم بالله على الإقرار بتوحيد وتصديق رسوله، "غَيْرُ مُعْجِزي الله" يقول: غير مفيتيه بأنفسكم لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض ففي قبضته وسلطانه، لا يمنعكم منه وزير ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقل ولا موئل إلا الإيمان به وبرسوله والتوبة من معصيته. يقول: فبادروا عقوبته بتوبة، ودعوا السياحة التي لا تنفعكم.

وأما قوله: "وأنّ اللّهَ مُخْزي الكافِرِينَ" يقول: واعلموا أن الله مذلّ الكافرين، ومورثهم العار في الدنيا والنار في الآخرة.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(بَرَاءَةٌ مِن اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) في إمضاء العهد ووفائه. والبراءة هي الوفاء وإتمامه، ليس على النقض لأنه قال: (إلى الذين عهدتم من المشركين) والبراءة إليهم هو الأمان و العهد إليهم. ولو كان على النقيض لقال: من الذين عاهدتم من المشركين، فدل أنه هو إتمام إعطاء العهد لهم وإمضاؤه إليهم. ويؤيده ما قال بعض أهل الأدب: إن البراءة هي الأمان؛ يقال: كتبت له براءة أي أمانا.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

البراءة هي قَطْعُ الموالاة وارتفاع العصمة وزوال الأمان.فاقتضى قوله عز وجل: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ} نَقْضَ العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ورفع الأمان وإعلامَ نصب الحرب والقتال بينه وبينهم، وقيل: إن ذلك كان خاصّاً فيمن أضمروا الخيانة وهَمُّوا بالغدر...

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

... قال المفسرون: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم، وذلك قوله عز وجل: {وإما تخافن من قوم خيانة} الآية (الأنفال-58). قال الزجاج: {براءة} أي: قد برئ الله تعالى ورسوله من إعطائهم العهود، والوفاء لهم بها إذا نكثوا.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

المعنى: أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم. فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت: قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلاً فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما [تجّدد] من ذلك فقيل لهم: اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... {براءة} معناها: تخلص وتبرؤ من العهود التي بينكم وبين الكفار البادئين بالنقض، تقول برئت إليك من كذا، فبرئ الله تعالى ورسوله بهذه الآية إلى الكفار من تلك العهود التي كانت ونقضها الكفار...، وهذه الآية حكم من الله عز وجل بنقض العهود والموادعات التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين طوائف المشركين الذين ظهر منهم أو تحسس من جهتهم نقض، ولما كان عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لازما لأمته حسن أن يقول {عاهدتهم} قال ابن إسحاق وغيره من العلماء: كانت العرب قد وافقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً عاماً على أن لا يصد أحد عن البيت الحرام ونحو ذلك من الموادعات، فنقض ذلك بهذه الآية وأجل لجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع النبي صلى الله عليه وسلم عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أشهر بلغ به تمامها، ومن كان أمده أكثر من أربعة أشهر أتم له الأربعة الأشهر «يسيح فيها» في الأرض أي يذهب مسرحاً آمناً كالَّسْيح من الماء وهو الجاري المنبسط...

وهذا ينبئ عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشعر من الكفار نقضاً وتربصاً به إلا من الطائفة المستثناة،... وقال الضحاك وغيره من العلماء: كان من العرب من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة، وكان منهم من بينه وبينهم عهد وتحسس منهم النقض وكان منهم من بينه وبينهم عهد ولم ينقضوا.

فقوله {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} هو أجل ضربه لمن كان بينه وبينهم عهد وتحسس منهم نقضه، وأول هذا الأجل يوم الأذان وآخره انقضاء العشر الأول من ربيع الآخر، وقوله {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين}، هو حكم مباين للأول حكم به في المشركين الذين لا عهد لهم البتة، فجاء أجل تأمينهم خمسين يوماً أولها يوم الأذان وآخرها انقضاء المحرم، وقوله {إلى الذين عاهدتم}، يريد به الذين لهم عهد ولم ينقضوا ولا تحسس منهم نقض، وهم فيما روي بنو ضمرة من كنانة عاهد لهم المحسر بن خويلد وكان بقي من عهدهم يوم الأذان تسعة أشهر. وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: إنما أجل الله أربعة أشهر من كان عهده ينصرم عند انقضائها أو قبله، والمعنى فقل لهم يا محمد سيحوا، وأما من كان له عهد يتمادى بعد الأربعة الأشهر فهم الذين أمر الله لهم بالوفاء.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

المعنى: الإخبار للمسلمين بأن الله ورسوله قد برئا من تلك المعاهدة بسبب ما وقع من الكفار من النقض، فصار النبذ إليهم بعهدهم واجباً على المعاهدين من المسلمين، ومعنى براءة الله سبحانه، وقوع الإذن منه سبحانه بالنبذ من المسلمين لعهد المشركين بعد وقوع النقض منهم، وفي ذلك من التفخيم لشأن البراءة والتهويل لها والتسجيل على المشركين بالذلّ والهوان ما لا يخفى.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه أن الله تعالى بعث محمدا رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ذكرنا كلياتها في تفسير (2: 23 ج 1)، وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة، ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة كما بيناه في تفسير (2: 256ج 3)، فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه صلى الله عليه وسلم عن تبليغه للناس بالقوة، ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب، إلا بتأمين حلف أو قريب. فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة، ثم اشتد إيذاؤهم للرسول صلى الله عليه وسلم حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علنا في دار الندوة، ورجحوا في آخر الأمر قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة، كما تقدم في تفسير {وإذ يمكر بك الذين كفروا} [الأنفال: 30] ج 9، فهاجر صلى الله عليه وسلم، وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجرهم بالمدينة المنورة أنصارا لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم، وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع، ومقتضى العرف العام في ذلك العصر، وعاهد صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون فخانوا وغدروا، ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه، كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة الأنفال من هذا الجزء.

وقد عاهد صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة، ودخلت خزاعة في عهده صلى الله عليه وسلم كما دخلت بنو بكر في عهد قريش، ثم عدا هؤلاء على أولئك وإعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم، فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة معهم، وفتحه صلى الله عليه وسلم لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله، ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا، وثبت بالتجربة لهم -في حالي قوتهم وضعفهم- أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمن نقضهم وانتقاضهم، كما يأتي في قوله تعالى: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله} إلى قوله في آخر آية 12 {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون} أي لا عهود لهم يرعونها ويفون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يدان به، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه، كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب.

هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام منهم عليها، وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة: 19] وقوله: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال:61] بقدر الإمكان، وإن قال الجمهور بنسخ هذا بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك، وسيأتي تفصيله في تفسيرها.

قوله تعالى: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} البراءة مصدر برِئ من الدَّين إذا أسقط عنه، ومن الذنب ونحوه إذا تركه وتنزه عنه، أي هذه براءة وأصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، كما تقول هذا كتاب من فلان إلى فلان. قال الراغب: أصل البرء والبراء والتبري التفصي مما يكره مجاورته أي أو ملابسته. أسند التبري إلى الله ورسوله لأنه تشريع جديد شرعه الله تعالى، وأمر رسوله بتبليغه وتنفيذه، وأسند معاهدة المشركين إلى جماعة المؤمنين، وإن كان الرسول هو الذي عقده، فإنه إنما عقده بصفة كونه الإمام والقائد العام لهم، وهو عقد ينفذ بمراعاتهم له وعمهم بموجبه، كما يسند تعالى إلى الجماعة أكثر الأحكام العامة حتى ما كان الخطاب في أول آياته له صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] الخ، فجمهور المؤمنين هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، ولقوادهم من أهل الحل والعقد وأمراء السرايا الاجتهاد فيما لا نص فيه منها، ومن أحكام الحرب والصلح وغيرها، ولا ينسب ذلك في تفصيله إلى الله ورسوله، إذ لا يمكن إحاطة النصوص بفروعه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم القواد إذا نزلوا حصنا فطلب أهله منهم النزول على حكم الله ورسوله أن لا ينزلوهم على حكمهما وذمتهما، وأمر بأن ينزلوهم على حكمهم وذمتهم، كما رواه مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه.

والمعاهدة عقد العهد بين الفريقين على شروط يلتزمونها، وكان اللذان يتوليانها منهما يضع أحدهم يمينه في يمين الآخر، وكانوا يؤكدونها ويوثقونها بالأيمان، ولذلك سميت أيمانا كما قال تعالى في المشركين {إنهم لا أيمان لهم} [التوبة: 12].

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذا المقطع من سياق السورة نزل متأخراً عن بقيتها؛ وإن كان قد جاء ترتيبه في مقدماتها. وترتيب الآيات في السورة كان يتم -كما تقدم- بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو أمر توقيفي منه صلى الله عليه وسلم. وهو يتضمن إنهاء العهود التي كانت قائمة بين المسلمين والمشركين حتى ذلك الحين. سواء كان هذا الإنهاء بعد أربعة أشهر لمن كانت عهودهم مطلقة، أو الناكثين لعهودهم؛ أو كان بعد انتهاء الأجل لمن كانت لهم عهود مقيدة، ولم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً.. فعلى الجملة كانت النتيجة الأخيرة هي إنهاء العهود مع المشركين في الجزيرة العربية؛ وإنهاء مبدأ التعاقد أصلاً مع المشركين بعد ذلك، بالبراءة المطلقة من المشركين، وباستنكار أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله. ومن بين ما يتضمنه كذلك عدم السماح للمشركين بالطواف بالمسجد الحرام أو عمارته في صورة من الصور بعد ذلك. خلافاً لما كان عليه العهد العام المطلق بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمشركين، أن يأمن بعضهم بعضاً في البيت الحرام والأشهر الحرم مع بقائهم على شركهم. والذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي؛ ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه.. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين -وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة- كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم. كان قد تبين من الواقع العملي مرحلة بعد مرحلة، وتجربة بعد تجربة، أنه لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق البعيد المدى الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور، والخلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي -والإنساني- وهو الاختلاف الذي لا بد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور.. منهجين للحياة أحدهما يقوم على عبودية العباد لله وحده بلا شريك؛ والآخر يقوم على عبودية البشر للبشر، وللآلهة المدعاة، وللأرباب المتفرقة. ثم يقع بينهما التصادم في كل خطوة من خطوات الحياة؛ لأن كل خطوة من خطوات الحياة في أحد المنهجين لا بد أن تكون مختلفة مع الأخرى، ومتصادمة معها تماماً، في مثل هذين المنهجين وفي مثل هذين النظامين. إنها لم تكن فلتة عارضة أن تقف قريش تلك الوقفة العنيدة لدعوة ""أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" "في مكة. ولا أن تحاربها هذه الحرب الجائرة في المدينة.. ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة؛ وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد -وهم من أهل الكتاب!- وأن يؤلب اليهود وتؤلب قريش قبائل العرب في الجزيرة في غزوة الأحزاب لاستئصال شأفة ذلك الخطر الذي يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة في المدينة على أساس هذه العقيدة، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد!. وكذلك سنعلم بعد قليل أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى -وهم من أهل الكتاب كذلك!- لهذه الدعوة ولهذه الحركة سواء في اليمن أم في الشام؛ أم فيما وراء اليمن ووراء الشام إلى آخر الزمان!. إنها طبائع الأشياء..

إنها أولاً طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيداً -ويستشعرها بالفطرة- أصحاب المناهج الأخرى! طبيعة الإصرار على إقامة مملكة الله في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين ""الناس كافة"" وبين حرية الاختيار الحقيقية..

ثم إنها ثانياً طبيعة التعارض بين منهجين للحياة لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة؛ وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يتهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم!.. فهي حتمية لا اختيار فيها -في الحقيقة- لهؤلاء ولا هؤلاء! وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن، وعلى مدى التجارب؛ وتتجلى في صور شتى، تؤكد وتعمق ضرورة الخطوة النهائية الأخيرة التي أعلنت في هذه السورة؛ ولم تكن الأسباب القريبة المباشرة التي تذكرها بعض الروايات إلا حلقات في سلسلة طويلة ممتدة على مدى السيرة النبوية الشريفة، وعلى مدى الحركة الإسلامية منذ أيامها الأولى..

وبهذه السعة في النظرة إلى الجذور الأصيلة للموقف، وإلى تحركاته المستمرة، يمكن فهم هذه الخطوة الأخيرة. وذلك مع عدم إغفال الأسباب القريبة المباشرة، لأنها بدورها لا تعدو أن تكون حلقات في تلك السلسلة الطويلة. وقد ذكر الإمام البغوي في تفسيره أن المفسرين قالوا: إنه لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك أرجف المنافقون، وأخذ المشركون ينقضون عهودهم؛ فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء، مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل، أو قصرها على أربعة أشهر إن كانت أكثر. وذكر الإمام الطبري -بعد استعراضه الأقوال في تفسير مطلع السورة -: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم -ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه- صلى الله عليه وسلم -بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين}. ومما رواه الطبري كذلك- بإسناده -عن مجاهد قوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} قال: أهل العهد: مدلج والعرب الذين عاهدهم، ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم -من تبوك حين فرغ منها، وأراد الحج. ثم قال: ""إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك"" فأرسل أبا بكر وعلياً رحمة الله عليهما، فطافا بالناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالموسم كله، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر. فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر. ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. فآمن الناس أجمعون حنيئذ، ولم يَسح أحد. وهذه الأسباب القريبة المباشرة لا شك كان لها وزنها في اتخاذ الخطوة الأخيرة الحاسمة. ولكنها بدورها ليست إلا حلقات في السلسلة الطويلة؛ الناشئة ابتداء من الحتمية الجذرية الكبيرة: وهي تعارض المنهجين أصلاً، وعدم إمكان التعايش بينهما إلا فترات اضطرارية تنتهي حتماً... وقد أراد المرحوم الشيخ رشيد رضا أن يلم بحلقات السلسلة منذ بدء الدعوة- وإن يكن لم يحاول أن يلم بأصل الاختلاف الجذري الدائم الذي ينشئ هذه السلسلة بحلقاتها؛ والذي ينتهي بما انتهت إليه حتماً -فقال في تفسير المنار: ""من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه، أن الله تعالى بعث محمداً رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة، ذكرنا كلياتها في تفسير: (2: 3) (ص 190- ص228 ج 1) وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة؛ ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة، كما بيناه في تفسير (2: 256 ص 26- ص 40 ج 3) فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه (صلى الله عليه وسلم) عن تبليغه للناس بالقوة؛ ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن على نفسه من القتل أو التعذيب، إلا بتأمين حليف أو قريب. فهاجر من هاجر منهم المرة بعد المرة؛ ثم اشتد إيذاؤهم للرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى ائتمروا بحبسه الدائم أو نفيه أو قتله علناً في دار الندوة؛ ورجحوا في آخر الأمر قتله؛ فأمره الله تعالى بالهجرة، كما تقدم في تفسير [8: 30] {وإذا يمكر بك الذين كفروا} (ص 650 ج 9) فهاجر (صلى الله عليه وسلم) وصار يتبعه من قدر على الهجرة من أصحابه إلى حيث وجدوا من مهاجرهم بالمدينة المنورة أنصاراً لله ولرسوله يحبون من هاجر إليهم، ويؤثرونهم على أنفسهم. وكانت الحال بينهم وبين مشركي مكة وغيرهم من العرب حال حرب بالطبع ومقتضى العرف العام في ذلك العصر. وعاهد (صلى الله عليه وسلم) أهل الكتاب من يهود المدينة وما حولها على السلم والتعاون. فخانوا وغدروا، ونقضوا عهودهم له بما كانوا يوالون المشركين ويظاهرونهم كلما حاربوه. كما تقدم بيان ذلك كله في تفسير سورة الأنفال من هذا الجزء (ص 1547 -1556)."" وقد عاهد (صلى الله عليه وسلم) المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها منتهى التساهل، عن قوة وعزة، لا عن ضعف وذلة، ولكن حبا بالسلم ونشر دينه بالإقناع والحجة. ودخلت خزاعة في عهده (صلى الله عليه وسلم) كما دخلت بنو بكر في عهد قريش؛ ثم عدا هؤلاء على أولئك وأعانتهم قريش بالسلاح فنقضوا عهدهم، فكان ذلك سبب عودة الحرب العامة معهم، وفتحه (صلى الله عليه وسلم) لمكة، الذي خضد شوكة الشرك وأذل أهله؛ ولكنهم ما زالوا يحاربونه حيث قدروا؛ وثبت بالتجربة لهم في حالي قوتهم وضعفهم أنهم لا عهود لهم، ولا يؤمن نقضهم وانتقاضهم، وكما يأتي قريباً في قوله تعالى من هذه السورة 7: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله- إلى قوله في آخر أية 12 -فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}. أي لا عهود لهم يرعونها ويفون بها. والمراد أنه لا يمكن أن يعيش المسلمون معهم بحكم المعاهدات المرعية، فيأمن كل منهم شر الآخر وعدوانه، مع بقائهم على شركهم الذي ليس له شرع يدان به، فيجب الوفاء بالعهد بإيجابه. كيف وقد سبقهم إلى الغدر ونقض الميثاق، من كانوا أجدر بالوفاء وهم أهل الكتاب؟! ""هذا هو الأصل الشرعي الذي بني عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهدهم المؤقتة لمن استقام عليها؛ وأما حكمة ذلك فهي محو بقية الشرك من جزيرة العرب بالقوة، وجعلها خالصة للمسلمين، مع مراعاة الأصول السابقة في قوله تعالى: [2: 190] {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} وقوله: [8: 61] {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} بقدر الإمكان. وإن قال الجمهور بنسخ هذه الآية بآية السيف من هذه السورة ونبذ عهود الشرك "".. انتهى. وظاهر من هذا الاستعراض ومن التعقيب عليه- ومما جاء بعده في تفسير السورة في تفسير المنار -أنه مع لمس السبب الأصيل العميق الكامن وراء هذه السلسلة من نقض العهود، وابتداء أول فرصة لحرب الإسلام وأهله من المشركين وأهل الكتاب، فإن المؤلف لا يتابع هذا السبب إلى جذوره؛ ولا يرى امتداده وشموله؛ ولا يستشرف الحقيقة الكبيرة في طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي؛ وطبيعة الاختلاف الجذري بين منهج الله ومناهج العبيد، التي لا يمكن الالتقاء على شيء منها؛ وبالتالي لا يمكن التعايش الطويل بين المعسكرات القائمة على منهج الله وهذه المناهج أصلاً! فأما الأستاذ محمد عزة دروزة في تفسيره للسورة في كتابه: ""التفسير الحديث"" فيبعد جداً عن هذه الحقيقة الكبرى؛ ولا يلمس ذلك السبب الأصيل العميق أصلاً. ذلك أنه مشغول- كغيره من الكتاب المحدثين الواقعين تحت ضغط الواقع البائس لذراري المسلمين وللقوة الظاهرة لمعسكرات المشركين والملحدين وأهل الكتاب في هذا الزمان -بتلمس شهادة لهذا الدين بأنه دين السلم والسلام؛ الذي لا يعنيه إلا أن يعيش داخل حدوده في سلام! فمتى أمكنت المهادنة والمعاهدة فهو حريص عليها، لا يعدل بها هدفاً آخر! وهو من ثم لا يرى سبباً لهذه النصوص الجديدة الأخيرة في سورة التوبة إلا نقض بعض المشركين لعهودهم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -وأن الذين لم ينقضوا عهودهم- سواء كانت مؤقتة أو مؤبدة -فقد جاءت السورة بالمحافظة عليها. وأنه حتى إذا انقضت عهودهم فإنه يجوز أن تعقد معهم معاهدات جديدة!!! وكذلك الناكثون أنفسهم! وأن الآيات المرحلية هي الأصل الذي يقيد عموم الآيات الأخيرة في هذه السورة!!! وفي ذلك يقول في شرح قوله تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم}. ""وفي الآيتين وما قبلهما صور من السيرة النبوية في أواخر العهد المدني، حيث ينطوي فيهما أنه كان بين المسلمين والمشركين عهود سلم بعد الفتح المكي ربما كانت ممتدة إلى ما قبله، وأن من المشركين من ظلوا أوفياء لعهودهم، ومنهم من نقض أو ظهرت منه علائم النقض والغدر."" ولقد نبهنا قبل على أن أهل التأويل والمفسرين يسمون الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما آية السيف، ويعتبرونها ناسخة لكل آية فيها أمر بالتسامح والتساهل مع المشركين وإمهالهم والإغضاء والصفح والإعراض عنهم. وتوجب قتالهم إطلاقاً. وبعضهم يستثني المعاهدين منهم إلى مدتهم، وبعضهم لا يستثنيهم ولا يجوّز قبول غير الإسلام منهم بعد نزولها. ونبهنا على ما في ذلك من غلو ومناقضة للتقريرات القرآنية المتضمنة لأحكام محكمة بعدم قتال غير الأعداء وترك المسالمين والموادين وبرهم والإقساط إليهم. ولقد كرر المفسرون أقوالهم ورواياتهم عن قدماء أهل التأويل في مناسبة هذه الآية، فروى ابن كثير عن ابن عباس أن الآية أمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضع السيف في من عاهدهم حتى يدخلوا في الإسلام، وأن ينقض ما كان سمى لهم من عهد وميثاق. وقد روى المفسر نفسه قولاً عجيباً عن سليمان بن عيينة جمع فيه بين هذه الآيات وآيات أخرى من هذه السورة وغيرها ليست في صدد قتال المشركين سماها الأسياف، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب بها حين بعثه يؤذن في الناس يوم الحج الأكبر، منها هذه الآية وسماها سيفاً في المشركين من العرب، وسيفاً في قتال أهل الكتاب وهي آية التوبة هذه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [29] وسيفاً في المنافقين وهو هذه الآية من سورة التوبة أيضاً: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [73] وسيفاً في قتال الباغين وهو هذه الآية في سورة الحجرات: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [9] ومن العجيب أن الطبري ذهب إلى أن هذه الآية تشمل المعاهدين ومن لا عهد لهم إطلاقاً دون تفريق. مع أنه قرر في سياق آية الممتحنة هذه: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [8] أنها محكمة وأن الله لا ينهى المسلمين عن البر والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أية ملة كانوا. وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين! ""كل هذا والآية كما هو واضح من فحواها وسياقها هي في صدد قتال المشركين المعاهدين الناقضين لعهدهم وحسب. بحيث يسوغ القول إن اعتبارها آية سيف وجعلها شاملة لكل مشرك إطلاقاً تحميل لها بما لا يتحمله هذا السياق والفحوى، وكذلك الأمر في اعتبارها ناسخة للتقريرات المنطوية في آيات عديدة والتي عليها طابع المبدأ المحكم العام، مثل عدم الإكراه في الدين والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والحث على البر والإقساط لمن لا يقاتل المسلمين ولا يخرجونهم من ديارهم على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. ويأتي بعد قليل آية فيها أمر صريح للمسلمين بالاستقامة على عهدهم مع المشركين الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام ما استقاموا لهم، وفي هذه الآية دليل قوي على وجاهة ما نقرره إن شاء الله."" وقد ترد مسألتان في صدد ما ينطوي في الآيتين من أحكام أولاهما: أن الاستثناء الوارد في أولى الآيتين محدد بانقضاء مدة العهد، فهل يكون المعاهدون من المشركين حين انقضاء هذه المدة موضع براءة الله ورسوله ويجب قتالهم؟ وكلام المفسرين ينطوي على الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب. ولم نطلع على أثر نبوي وثيق في هذا الصدد. ونرى أن كلام المفسرين يصح أن يكون محل توقف إذا أريد به الإطلاق. وأن الأمر يتحمل شيئاً من التوضيح: فالمعاهدون إما أن يكونوا أعداء للمسلمينَ قبل العهد، وقد وقع حرب وقتال بينهم، ثم عاهدهم المسلمون كما كان شأن قريش وصلحهم من النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية. وإما أن يكونوا قد رغبوا في موادعة المسلمين ومسالمتهم دون أن يكون قد وقع بينهم عداء وقتال. وآية النساء هذه: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم. فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} [90] تنطوي فيها على ما نعتقد حالة واقعية مثل ذلك. وفي روايات السيرة بعض الأمثلة حيث روى ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع بني صخر من كنانة ألا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه ولا يعينوا عليه عدواً، وكتب بينه وبينهم كتاباً بذلك. وليس في الآية ولا في غيرها ما يمنع تجديد العهد أو تمديده مع هؤلاء ولا مع أولئك إذا رغبوا ولم يكن قد ظهر منهم نقض ولا نية غدر. وليس للمسلمين أن يرفضوا ذلك لأنهم إنما أمروا بقتال من يقاتلهم ويعتدي عليهم بشكل من الأشكال. وفي الآية التي تأتي بعد قليل والتي تأمر المسلمين بصراحة بالاستقامة على عهدهم مع المشركين ما استقاموا لهم قرينة على ما نقول إن شاء الله."".

أما المسألة الثانية: فهي ما تفيده الفقرة الأخيرة من الآية الثانية من كون تخلية سبيل المشركين والكف عن قتالهم بسبب نقضهم منوطين بتوبتهم عن الشرك وإقامتهم الصلاة وإيتائهم الزكاة. ""والذي يتبادر لنا في صدد هذه المسألة أن المشركين بعد أن نقضوا عهدهم وقاتلهم المسلمون فقدوا حق العهد ثانية. وصار من حق المسلمين أن يفرضوا الشرط الذي يضمن لهم الأمن والسلامة، وهو توبتهم عن الشرك ودخولهم في الإسلام وقيامهم بواجباته التعبدية والمالية. ولا يعد هذا من قبيل الإكراه في الدين، بقطع النظر عن أن الشرك يمثل مظاهر انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق، كما يمثل نظاماً جاهلياً فيه التقاليد الجائرة والعادات المنكرة والعصبيات الممقوتة، وأن الإسلام الذي يشترط عليهم الدخول فيه يضمن لهم الخلاص من ذلك، والارتفاع بهم إلى مستوى الكمال الإنساني عقلاً وخلقاً وعبادة وعقيدة وعملاً. على أننا لسنا نرى في الآيات مع ذلك ما يمنع المسلمين أن يجددوا العهد مع الناكثين بعد الحرب ثانية إذا كانت مصلحتهم تقتضي ذلك. وقد لا يكونون قادرين على متابعة الحرب، أو على إخضاعهم بالقوة. والله تعالى أعلم""... انتهى.

وواضح من هذه الفقرات التي اقتطفناها ومن أمثالها في تفسير المؤلف كله أنه ابتداء لا يلقي باله إلى حق الإسلام المطلق في أن ينطلق في الأرض لتحرير البشرية من العبودية للعباد، وردها إلى الله وحده، حيثما كان ذلك ممكناً له، بغض النظر عما إذا كان هناك اعتداء على أهله داخل حدودهم الإقليمية أم لم يكن.. فهو يستبعد هذا المبدأ ابتداء. وهو المبدأ الذي يقوم عليه الجهاد في الإسلام. وبدونه يفقد دين الله حقه في أن يزيل العقبات المادية من طريق الدعوة، ويفقد كذلك جديته وواقعيته في مواجهة الواقع البشري بوسائل مكافئة له في مراحل متعددة بوسائل متجددة، ويصبح عليه أن يواجه القوى المادية بالدعوة العقيدية! وهو هزال لا يرضاه الله لدينه في هذه الأرض! وواضح كذلك أن المؤلف لا يلقي باله إلى طبيعة المنهج الحركي في الإسلام، ومواجهته للواقع بوسائل مكافئة. فهو يحيل الأحكام النهائية الأخيرة على النصوص المرحلية قبلها. دون التفات إلى أن النصوص السابقة كانت تواجه حالات واقعة غير الحالة التي جاءت النصوص الأخيرة تواجهها.. وحقيقة إن هذه الأحكام ليست (منسوخة) بمعنى أنه لا يجوز الأخذ بها مهما تكن الأحوال- بعد نزول الأحكام الأخيرة -فهي باقية لمواجهة الحالات التي تكون من نوع الحالات التي واجهتها. ولكنها لا تقيد المسلمين إذا واجهتهم حالات كالتي واجهتها النصوص الأخيرة، وكانوا قادرين على تنفيذها...

إن الأمر في حاجة إلى سعة ومرونة وإدراك لطبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي كما أسلفنا.. وبعد، فإننا نعود إلى العبارة التي افتتحنا بها الفقرة السابقة: ""والذي يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها، ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي، ويراجع كذلك طبيعة هذا المنهج في ذاته ومراحله وأهدافه.. يرى بوضوح أن هذه الخطوة الحاسمة في العلاقات بين المعسكر الإسلامي في الجزيرة وسائر معسكرات المشركين- وكذلك بينه وبين معسكرات أهل الكتاب التي تقررت في هذه السورة -كان قد جاء موعدها، وتمهدت لها الأرض، وتهيأت لها الأحوال، وأصبحت هي الخطوة الطبيعية في أوانها المحتوم"". كانت التجربة تلو التجربة قد كشفت عن القانون الحتمي الذي يحكم العلاقات بين المجتمع المسلم الذي يُفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية والتشريع؛ والمجتمعات الجاهلية التي تجعل هذا كله لغير الله، أو تجعل فيه شركاء لله.. هذا القانون الحتمي هو قانون الصراع الذي يعبر عنه قول الله سبحانه {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً} [الحج: 40] والذي يقول عنه سبحانه كذلك: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 251]. وقد ظهرت آثار هذا القانون الحتمي في ظاهرتين بارزتين: إحداهما: انطلاق الإسلام خطوة بعد خطوة، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة؛ لنشر منهج الله في الأرض حوله؛ وإبلاغ كلمة الله إلى أرض بعد أرض وإلى قبيلة بعد قبيلة- في طريقه إلى إبلاغها إلى الناس كافة وإزالة الحواجز المادية التي تحول دون هذا الإعلان العام والبلوغ إلى كل بني الإنسان -حتى فتحت مكة، وخضدت شوكة قريش العقبة الكبرى في طريق الزحف الإسلامي، واستسلمت هوازن وثقيف في الطائف أقوى القبائل بعد قريش في طريق هذا الزحف. وأصبحت للإسلام قوته التي ترهب عدوه؛ وتسمح بالقيام بالخطوة النهائية الحاسمة في الجزيرة- تمهيداً لما وراءها من أرض الله حسبما تتهيأ الظروف الملائمة لكل خطوة تالية، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. وثانيتهما: نقض العهود التي كانت المعسكرات الجاهلية تعقدها مع المسلمين -في ظروف مختلفة- عهداً بعد عهد؛ بمجرد أن تتاح لها فرصة نقضها، وعند أول بادرة تشير إلى أن المعسكر الإسلامي في ضائقة تهدد وجوده؛ أو على الأقل تجعل هذا النقض مأمون العاقبة على ناقضيه من المشركين -ومن أهل الكتاب من قبلهم- فما كانت هذه العهود -إلا نادراً- عن رغبة حقيقية في مسالمة الإسلام ومهادنة المسلمين؛ إنما كانت عن اضطرار واقعي إلى حين! فما تطيق المعسكرات الجاهلية طويلاً أن ترى الإسلام ما يزال قائماً حيالها؛ مناقضاً في أصل وجوده لأصل وجودها؛ مخالفاً لها مخالفة جذرية أصيلة في الصغيرة والكبيرة من مناهجها، يهدد بقاءها بما في طبيعته من الحق والحيوية والحركة والانطلاق لتحطيم الطاغوت كله، ورد الناس جميعاً إلى عبادة الله وحده. وهذه الظاهرة الأخيرة والقاعدة الأصيلة التي تقوم عليها هي التي يقررها الله سبحانه في قوله عن المشركين: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة: 217] والتي يقول فيها عن أهل الكتاب: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} [البقرة: 109] ويقول فيها كذلك: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} [البقرة: 120] فيعلن -سبحانه- بهذه النصوص القطعية عن وحدة الهدف بين جميع معسكرات الجاهلية تجاه الإسلام والمسلمين؛ وعن قوة الإصرار على هذا الهدف وامتدادها عبر الزمان، وعدم توقيتها بظرف أو زمان! وبدون إدراك ذلك القانون الحتمي في طبيعة العلاقات بين التجمع الإسلامي والتجمعات الجاهلية، وتفسير الظواهر التي تنشأ عنه -على مدار التاريخ- بالرجوع إليه، لا يمكن فهم طبيعة الجهاد في الإسلام؛ ولا طبيعة تلك الصراعات الطويلة بين المعسكرات الجاهلية والمعسكر الإسلامي. ولا يمكن فهم بواعث المجاهدين الأوائل، ولا أسرار الفتوحات الإسلامية؛ ولا أسرار الحروب الوثنية والصليبية التي لم تفتر قط طوال أربعة عشر قرناً؛ والتي ما تزال مشبوبة على ذراري المسلمين -وإن كانوا لسوء حظهم تخلوا عن حقيقة الإسلام ولم يبق لهم منه إلا العنوان- في المعسكرات الشيوعية والوثنية والصليبية كلها: في روسيا والصين ويوغسلافيا وألبانيا. وفي الهند وكشمير. وفي الحبشة وزنجبار وقبرص وكينيا وجنوب افريقية والولايات المتحدة.. وذلك فوق عمليات السحق الوحشية البشعة لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان في العالم الإسلامي -أو الذي كان إسلامياً بتعبير أدق- وتعاون الشيوعية والوثنية والصليبية مع الأوضاع التي تتولى سحق هذه الطلائع، ومد يد الصداقة إليها، وإمدادها بالمعونات التي تبلغ حد الكفالة، وإقامة ستار من الصمت حولها وهي تسحق هذه الطلائع الكريمة! إن شيئاً من هذا كله لا يصبح مفهوماً بدون إدراك ذلك القانون الحتمي والظواهر التي يتجلى فيها.. وقد تجلى ذلك القانون -كما أسلفنا- قبيل نزول سورة التوبة بعد فتح مكة في هاتين الظاهرتين اللتين أسلفنا الحديث عنهما. وظهر بوضوح أنه لا بد من اتخاذ تلك الخطوة الحاسمة في الجزيرة سواء تجاه المشركين -وهو ما نواجهه في هذا المقطع من السورة- أو تجاه أهل الكتاب، وهو ما سنواجهه في المقطع التالي مباشرة والذي بعده.. ولكن وضوح ذلك كله للقيادة المسلمة -حينذاك- لم يكن معناه وضوحه -بنفس الدرجة- لكل الجماعات والطوائف في المجتمع المسلم. وبخاصة لحديثي العهد بالإيمان والمؤلفة قلوبهم، فضلاً على ضعاف القلوب والمنافقين! كان في المجتمع المسلم -ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم- من يتحرج من إنهاء العهود مع المشركين جميعاً -بعد أربعة أشهر للناكثين ومن لهم عهود غير موقتة ومن لم يحاربوا المسلمين ولو من غير عهد ومن لهم عهود أقل من أربعة؛ وبعد انقضاء الأجل لمن لهم عهود موقوتة ولم ينقصوا المسلمين شيئاً ولم يظاهروا عليهم أحداً- ولئن كانوا يستسيغون نبذ عهود الناكثين والذين تخاف منهم الخيانة، كما سبق في الحكم المرحلي الذي تضمنته سورة الأنفال: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58] فإن إنهاء عهود غيرهم بعد أربعة أشهر أو بعد الأجل المقدر، ربما بدا لهم مخالفاً لما عهدوه وألفوه من معاهدة المعاهدين وموادعة الموادعين وترك المهادنين.. ولكن الله -سبحانه- كان يريد أمراً أكبر من المألوف؛ وخطوة وراء ما انتهت إليه الأمور! وكان في المجتمع المسلم كذلك -ولعل بعض هؤلاء من كرام المسلمين وخيارهم كذلك- من يرى أنه لم تعد هناك ضرورة لقتال المشركين عامة، ومتابعتهم حتى يفيئوا إلى الإسلام؛ بعدما ظهر الإسلام في الجزيرة وغلب؛ ولم تبق إلا جيوب متناثرة هنا وهناك لا خوف منها على الإسلام اليوم. ومن المتوقع أن تفيء رويداً رويداً -في ظل السلم- إلى الإسلام.. ولا يخلو هذا الفريق من التحرج من قتال الأقرباء والأصدقاء ومن تربطهم بهم علاقات اجتماعية واقتصادية متنوعة، متى كان هناك أمل في دخولهم في الإسلام بغير هذا الإجراء العنيف.. ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها، وأن تخلص الجزيرة للإسلام، وأن تصبح كلها قاعدة أمينة له؛ وهو يعلم أن الروم يبيتون للإسلام على مشارف الشام كما سيجيء! وكان في المجتمع المسلم -ولعل بعض هؤلاء كان من كرام المسلمين وخيارهم أيضاً!- من يخشى الكساد الذي يتوقعه من تعطل الصلات التجارية والاقتصادية في أنحاء الجزيرة بسبب إعلان القتال العام على المشركين كافة فيها؛ وتأثير ذلك في موسم الحج، وبخاصة بعد إعلان ألا يحج بعد العام مشرك، وألا يعمر المشركون مساجد الله. وبخاصة حين يضيف إلى هذا الاعتبار عدم ضرورة هذه الخطوة؛ وإمكان الوصول إليها بالطرق السلمية البطيئة!.. ولكن الله سبحانه كان يريد أن تقوم آصرة التجمع على العقيدة وحدها -كما تقدم- وأن تكون العقيدة أرجح في ميزان القلوب المؤمنة من كل ما عداها. سواء من القرابات والصداقات؛ أم من المنافع والمصالح. كما أنه -سبحانه- كان يريد أن يعلمهم أنه هو الرزاق وحده، وأن هذه الأسباب الظاهرة للرزق ليست هي الأسباب الوحيدة التي يملك أن يسخرها لهم بقدرته. وكان في المجتمع المسلم من ضعاف القلوب والمترددين والمؤلفة قلوبهم والمنافقين، وغيرهم كذلك ممن دخلوا في دين الله أفواجاً ولم ينطبعوا بعد بالطابع الإسلامي من يفرق من قتال المشركين كافة؛ ومن الكساد الذي ينشأ من تعطيل المواسم، وقلة الأمن في التجارة والتنقل وانقطاع الأواصر والصلات؛ وتكاليف الجهاد العام في النفوس والأموال. ولا يجد في نفسه دافعاً لاحتمال هذا كله، وهو إنما دخل في الإسلام الغالب الظاهر المستقر؛ فهي صفقة بلا عناء كبير.. أما هذا الذي يرادون عليه فما لهم وما له وهم حديثوا عهد بالإسلام وتكاليفه؟!.. وكان الله -سبحانه- يريد أن يمحص الصفوف والقلوب، وهو يقول للمسلمين {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون}. هذه الأعراض المتشابكة في المجتمع المسلم المختلط -بعد الفتح- اقتضت ذلك البيان الطويل المفصل المتعدد الأساليب والإيحاءات في هذا المقطع، لمعالجة هذه الرواسب في النفوس، وهذه الخلخلة في الصفوف، وتلك الشبهات حتى في قلوب بعض المسلمين المخلصين.. اقتضت أن تفتتح السورة بهذا الإعلان العام ببراءة الله ورسوله من المشركين، وأن يتكرر إعلان البراءة من الله ورسوله بعد آية واحدة بنفس القوة ونفس النغمة العالية؛ حتى لا يبقى لقلب مؤمن أن يبقى على صلة مع قوم يبرأ الله منهم ويبرأ رسوله: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين}. {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله}.. واقتضت تطمين المؤمنين وتخويف المشركين بأن الله مخزي الكافرين، وأن الذين يتولون لا يعجزون الله ولا يفلتون من عذابه: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين}.. {فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}.. واقتضت استنكار أن يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله -إلا الذين عاهدوا ثم استقاموا فيستقام لهم مدة عهدهم ما استقاموا عليه- مع تذكير المؤمنين بأن المشركين لا يرقبون فيهم عهداً ولا يتذممون من فعلة لو أنهم قدروا عليهم، وتصوير كفرهم، وكذبهم فيما يظهرونه لهم أحياناً من مودة بسبب قوتهم: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله -إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين- كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إِلاَّ ولا ذمة، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون، اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون}... [7 -10] واقتضت استثارة الذكريات المريرة في نفوس المسلمين؛ واستجاشة مشاعر الغيظ والانتقام وشفاء الصدور من أعدائهم وأعداء الله ودين الله: {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم}.. [13- 15]. واقتضت الأمر بالمفاصلة الكاملة على أساس العقيدة؛ ومقاومة مشاعر القرابة والمصلحة معاً؛ والتخيير بينها ويبن الله ورسوله والجهاد في سبيله، ووقف المسلمين على مفرق الطريق: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون. قل: إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين}.. [23 -24]. واقتضت تذكيرهم بنصر الله لهم في مواطن كثيرة، وأقربها يوم حنين الذي هزموا فيه فلم ينصرهم إلا الله بجنده وبتثبيته لرسوله: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين؛ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنوداً لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين}.. [25- 26]. واقتضت أخيراً تطمينهم من ناحية الرزق الذي يخشون عليه من كساد الموسم وتعطل التجارة؛ وتذكيرهم أن الرزق منوط بمشيئة الله لا بهذه الأسباب الظاهرة التي يظنونها: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء، إن الله عليم حكيم}.. [28] وهذه التوكيدات والتقريرات، وهذه الإيحاءات والاستثارات، وهذه الحملة الطويلة المنوعة الأساليب.. تشي -كما أسلفنا- بحالة المجتمع المسلم بعد الفتح، ودخول العناصر الجديدة الكثيرة فيه؛ وبعد التوسع الأفقي السريع الذي جاء إلى المجتمع المسلم بهذه الأفواج التي لم تنطبع بعد بطابع الإسلام.. ولولا أن مجتمع المدينة كان قد وصل مع الزمن الطويل، والتربية الطويلة إلى درجة من الاستقرار والصلابة والخلوص والاستنارة، لكانت هذه الظواهر مثار خطر كبير على وجود الإسلام ذاته كما ذكرنا ذلك مراراً من قبل. والآن نكتفي بهذا القدر من الحديث العام عن ذلك المقطع الأول من السورة وما يشي به من حالة المجتمع في حينه؛ لنواجه نصوصه بالتفصيل: {براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين. فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر: أن الله بريء من المشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم. إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً -فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد. فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم، وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}.. هذه الآيات- وما بعدها إلى الآية الثامنة والعشرين -نزلت تحدد العلاقات النهائية بين المجتمع الإسلامي الذي استقر وجوده في المدينة وفي الجزيرة العربية- بصفة عامة -وبين بقية المشركين في الجزيرة الذين لم يدخلوا في هذا الدين.. سواء منهم من كان له عهد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -حينما لاح له أن مواجهة المسلمين للروم- حين توجهوا لمقابلتهم في تبوك -ستكون فيها القاضية على الإسلام وأهله، أو على الأقل ستضعف من شوكة المسلمين وتهد من قوتهم.. ومن لم يكن له عهد ولكنه لم يتعرض للمسلمين من قبل بسوء.. ومن كان له عهد- موقوت أو غير موقوت -فحافظ على عهده ولم ينقص المسلمين شيئاً ولم يظاهر عليهم أحداً.. فهؤلاء جميعاً نزلت هذه الآيات وما بعدها لتحدد العلاقات النهائية بينهم وبين المجتمع المسلم؛ في ظل الاعتبارات التي أسلفنا الحديث عنها بشيء من التوسع سواء في تقديم السورة، أو في تقديم هذا الدرس خاصة. وأسلوب هذه الآيات وإيقاع التعبير فيها، يأخذ شكل الإعلان العام، ورنينه العالي! فيتناسق أسلوب التعبير وإيقاعه مع موضوعه والجو الذي يحيط بهذا الموضوع؛ على طريقة القرآن في التعبير. وقد وردت روايات متعددة في ظروف هذا الإعلان، وطريقة التبليغ به، ومن قام بالتبليغ. أصحها وأقربها إلى طبائع الأشياء وأكثرها تناسقاً مع واقع الجماعة المسلمة يومذاك ما قرره ابن جرير وهو يستعرض هذه الروايات. ونقتطف من تعليقاته ما يمثل رؤيتنا لحقيقة الواقعة مغفلين ما لا نوافقه عليه من كلامه وما تناقض فيه بعض قوله مع بعض. إذ كنا لا نناقش الروايات المتعددة ولا نناقش تعليقات الطبري؛ ولكن نثبت ما نرجح أنه حقيقة ما حدث من مراجعة ما ورد وتحقيقه: قال في رواية له عن مجاهد: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين}.. قال: أهل العهد: مدلج والعرب الذين عاهدهم، ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم -من تبوك حين فرغ منها- وأراد الحج، ثم قال:"" إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك ""فأرسل أبا بكر وعلياً رحمة الله عليهما. فطافا بالناس، بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالموسم كله؛ وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر.. فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر. ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. فآمن الناس أجمعون حينئذ. ولم يسح أحد"". وقال -بعد استعراض جملة الروايات في حقيقة الأجل ومبدئه ونهايته والمقصودين به: ""وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم -ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه- صلى الله عليه وسلم -بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين}.. [سورة التوبة: 4]."" فإن ظن ظان أن قول الله تعالى ذكره: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [سورة التوبة: 5] يدل على خلاف ما قلنا في ذلك، إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما ظنه من ظن أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله- صلى الله عليه وسلم -أو لم يكن كان له منه عهد. وذلك قوله: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله- إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن الله يحب المتقين} [التوبة: 7] فهؤلاء مشركون؛ وقد أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم. ""وبعد، ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: أنه حين بعث علياً رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: ""ومن كان بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم -عهد فعهده إلى مدته""، أوضح الدليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه- صلى الله عليه وسلم -بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض قبل التأجيل، أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجله محدوداً، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلاً، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -كان بإتمام عهده إلى غايته مأموراً. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب "". وقال في تعقيب آخر على الروايات المتعددة في شأن العهود: ""فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا. فأما من كان عهده إلى مدة معلومة فلم يجعل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم -وللمؤمنين لنقضه ومظاهرة أعدائهم سبيلاً، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -قد وفى له بعهده إلى مدته، عن أمر الله إياه بذلك. وعلى ذلك ظاهر التنزيل، وتظاهرت به الأخبار عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-"". وإذا نحن تركنا الروايات التي بها ضعف، وما يمكن أن يكون قد تركه الخلاف السياسي- فيما بعد- بين شيعة علي -رضي الله عنه- وأنصار الأمويين، أو أهل السنة، من الأثر في بعض الروايات؛ فإننا نستيطع أن نقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث بأبي بكر -رضي الله عنه- أميراً للحج في هذا العام لما كرهه من الحج والمشركون يطوفون بالبيت عراة. ثم نزلت أوائل سورة التوبة هذه؛ فبعث بها علياً -رضي الله عنه- في أثر أبي بكر. فأذن بها في الناس -بكل ما تضمنته من أحكام نهائية ومنها ألا يطوف بعد العام بالبيت مشرك. وقد روى الترمذي في كتاب التفسير- بإسناده -عن علي قال: ""بعثني النبي- صلى الله عليه وسلم -حين أنزلت""براءة"" بأربع. أن لا يطف بالبيت عريان، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم -عهد فهو إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة"".. وهذا الخبر هو أصح ما ورد في هذا الباب. فنكتفي به."

{براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين}.. هذا الإعلان العام، بهذا الإيقاع العالي؛ يتضمن المبدأ العام للعلاقة بين المسلمين والمشركين في ذلك الحين في جزيرة العرب قاطبة. إذ كانت العهود المشار إليها هي التي كانت بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم -والمشركين في الجزيرة. والإعلان ببراءة الله وبراءة رسوله من المشركين، يحدد موقف كل مسلم؛ ويوقع إيقاعاً عميقاً عنيفاً على قلب كل مسلم، بحيث لا يبقى بعد ذلك مراجعة ولا تردد!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

افتتحت السورة كما تفتتح العهودُ وصكوك العقود بأدَلّ كلمة على الغرض الذي يراد منها كما في قولهم: هذا ما عهد به فلان، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان. والبراءة الخروج والتفصّي مما يتعب ورفعُ التبِعة. ولما كان العهد يوجب على المتعاهدين العمل بما تعاهدوا عليه ويُعد الإخلاف بشيء منه غدراً على المخلف، كان الإعلان بفسخ العهد براءةً من التبِعات التي كانت بحيثُ تنشأ عن إخلاف العهد، فلذلك كان لفظ {براءة} هنا مفيداً معنى فسخ العهد ونبذه ليأخذ المعاهَدون حِذرهم. وقد كان العرب ينبذون العهد ويردّون الجوار إذا شاءوا تنهية الالتزام بهما...

... ولمّا كان الجانب، الذي ابتدأ بإبطال العهد وتنهيته، هو جانب النبي صلى الله عليه وسلم بإذن من الله، جعلت هذه البراءة صادرة من الله، لأنّه الآذن بها، ومن رسوله، لأنّه المباشر لها. وجُعل ذلك منهَّى إلى المعاهدين من المشركين، لأنّ المقصود إبلاغ ذلك الفسخ إليهم وإيصالُه ليكونوا على بصيرة فلا يكون ذلك الفسخ غدراً.

والخطاب في قوله: {عاهدتم} للمؤمنين. فهذه البراءة مأمورون بإنفاذها.

واعلم أنّ العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين كان قد انعقد على صور مختلفة، فكان بينه وبين أهل مكة ومن ظاهرهم عَهد الحديبية: أن لا يُصَدّ أحد عن البيت إذا جاء، وأن لا يُخاف أحد في الشهر الحرام، وقد كان معظم قبائل العرب داخلاً في عقد قريش الواقع في الحديبية؛ لأنّ قريشاً كانوا يومئذٍ زعماء جميع العرب، ولذلك كان من شروط الصلح يومئذ: أنّ من أحبّ أن يدخل في عهد محمد دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، وكان من شروط الصلح وضع الحرب عن الناس سنين يأمَن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، فالذين عاهدوا المسلمين من المشركين معروفون عند الناس يوم نزول الآية.

وهذا العهد، وإن كان لفائدة المسلمين على المشركين، فقد كان عَديلُهُ لازماً لفائِدة المشركين على المسلمين، حين صار البيت بيد المسلمين بعد فتح مكّة، فزال ما زال منه بعد فتح مكّة وإسلام قريش وبعض أحْلافهم.

وكان بين المسلمين وبعض قبائِل المشركين عهود؛ كما أشارت إليه سورة النساء (90) في قوله تعالى: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} الآية، وكما أشارت إليه هذه السورة (4) في قوله تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً} الآية.

وبعض هذه العهود كان لغير أجل معيّن، وبعضها كان لأجل قد انقضى، وبعضها لم ينقض أجله. فقد كان صلح الحديبية مؤجّلاً إلى عَشر سنين في بعض الأقوال وقيل: إلى أربع سنين، وقيل: إلى سنتين. وقد كان عهد الحديبية في ذي القعدة سنة ستّ، فيكون قد انقضت مدّته على بعض الأقوال، ولم تنقض على بعضها، حين نزول هذه الآية. وكانوا يحسبون أنّه على حكم الاستمرار، وكان بعض تلك العهود مؤجلاً إلى أجل لم يتمّ، ولكن المشركين خفروا بالعهد في ممالاة بعض المشركين غير العاهدين، وفي إلحاق الأذى بالمسلمين، فقد ذُكر أنّه لمّا وقعت غزوة تبوك أرجف المنافقون أنّ المسلمين غُلبوا فنقض كثير من المشركين العهد، وممّن نقض العهد بعضُ خزاعة، وبنُو مُدلِج، وبنو خزيمة أو جَذِيمة، كما دلّ عليه قوله تعالى: {ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحدا} [التوبة: 4] فأعلن الله لهؤلاء هذه البراءة ليأخذوا حِذرهم، وفي ذلك تضييق عليهم إن داموا على الشرك، لأنّ الأرض صارت لأهل الإسلام كما دلّ عليه قوله تعالى بعدُ: {فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله} [التوبة: 3].

وإنّما جعلت البراءة شأنا من شؤون الله ورسوله، وأسند العهد إلى ضمير المسلمين: للإشارة إلى أنّ العهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لازمة للمسلمين وهي بمنزلة ما عقدوه بأنفسهم، لأنّ عهود النبي عليه الصلاة والسلام إنّما كانت لمصلحة المسلمين، في وقت عدم استجماع قوتهم، وأزمانَ كانت بقية قوةٍ للمشركين، وإلاّ فإنّ أهل الشرك ما كانوا يستحقّون من الله ورسوله توسعة ولا عهداً لأنّ مصلحة الدين تكون أقْوَمُ إذا شّدد المسلمون على أعدائه، فالآن لمّا كانت مصلحة الدين متمحّضة في نبذ العهد الذي عاهده المسلمون المشركين أذن اللَّهُ رسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من ذلك العهد، فلا تبعة على المسلمين في نبذه، وإن كان العهد قد عقده النبي صلى الله عليه وسلم ليعلموا أنّ ذلك توسعة على المسلمين، على نحو ما جزى من المحاورة بين عمر بن الخطاب وبين النبي صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية، وعلى نحو ما قال الله تعالى في ثبات الواحد من المسلمين لاثنين من المشركين، على أنّ في الكلام احتباكاً، لما هو معروف من أنّ المسلمين لا يعملون عملاً إلاّ عن أمر من الله ورسوله، فصار الكلام في قوَّة براءة من الله ورسوله ومنكم، إلى الذين عاهد الله ورسولُه وعاهدتم.

فالقبائل التي كان لها عهد مع المسلمين حين نزول هذه السورة قد جمعها كلّها الموصول في قوله: {إلى الذين عاهدتم من المشركين}. فالتعريف بالموصولية هنا، لأنّها أخصر طريق للتعبير عن المقصود، مع الإشارة إلى أنّ هذه البراءة براءة من العهد، ثم بيّن بعضها بقوله: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً} [التوبة: 4] الآية.

أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :

ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين، وأنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله: {في الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} لا عهد لكافر. وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء. والذي يبينه القرآن، ويشهد له من تلك الأقوال، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير الموقتة بوقت معين، أو من كانت مدة عهده الموقت أقل من أربعة أشهر، فتكمل له أربعة أشهر.