118- يا أيها الذين آمنوا : لا تتخذوا أصفياء تستعينون بهم من غير أهل دينكم ، تطلعونهم على أسراركم ، لأنهم لا يقصرون في إفساد أموركم . إذ هم يودون أن يرهقوكم ويضروكم أشد الضرر . وقد ظهرت أمارات البغضاء لكم من فلتات ألسنتهم ، وما تضمره قلوبهم أعظم مما بدا ، قد أظهرنا لكم العلامات التي يتميز بها الولي من العدو إن كنتم من أهل العقل والإدراك الصحيح .
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يتخذوا من الكفار واليهود أخلاء يأنسون بهم في الباطن من أمورهم ويفاوضونهم في الآراء ويستنيمون إليهم ، وقوله : { من دونكم } يعني من دون المؤمنين ، ولفظة «دون » تقتضي فيما أضيف إليه أنه معدوم من القصة التي فيها الكلام ، فشبه الأخلاء بما يلي بطن الإنسان من ثوبه ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان ، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصم الله{[3453]} ، وقوله : { لا يألونكم خبالاً } معناه لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم ، تقول : ما ألوت في كذا أي ما قصرت بل اجتهدت ومنه قول زهير :
جرى بعدهم قوم لكي يلحقوهم . . . فلم يلحقوا ولم يليموا ولم يألوا{[3454]}
أي لم يقصروا ، والخبل والخبال : الفساد ، وقال ابن عباس : كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من اليهود للجوار والحلف الذي كان بينهم في الجاهلية ، فنزلت الآية في ذلك ، وقال أيضاً ابن عباس وقتادة والربيع والسدي : نزلت في المنافقين : نهى الله المؤمنين عنهم ، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً »{[3455]} فسره الحسن بن أبي الحسن ، فقال أراد عليه السلام ، لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم ( محمداً ) .
قال القاضي : ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستنامة إليهم ، وروي أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميماً فكتب إليه عمر يعنفه ، وتلا عليه هذه الآية ، وقيل لعمر : إن هاهنا رجلاً من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم ، أفلا يكتب عنك ؟ فقال : إذاً أتخذ بطانة من دون المؤمنين ، و { ما } في قوله ، { ما عنتّم } مصدرية ، فالمعنى : { ودوا } عنتكم ، و «العنت » : المشقة والمكروه يلقاه المرء وعقبة عنوت : أي شاقة ، وقوله تعالى : { ذلك لمن خشي العنت }{[3456]} معناه المشقة إما في الزنا وإما في ملك الإرب قال السدي : معناه «ودوا » ما ضللتم ، وقال ابن جريج : المعنى «ودوا » أن تعنتوا في دينكم ويقال عنت الرجل يعنت بكسر النون في الماضي ، وقوله تعالى : { قد بدت البغضاء من أفواههم } يعني بالأقوال ، فهم فوق المتستر الذي تبدوالبغضاء في عينيه وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى شدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه ، ويشبه هذا الذي قلناه ما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يتشحى الرجل في عرض أخيه{[3457]} ، معناه : أن يفتح فاه به يقال شحّى الحمار فاه بالنهيق وشحّى اللجام في الفرس ، والنهي في أن يأخذ أحد عرض أخيه همساً راتب{[3458]} ، فذكر التشحي إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط وقوله : { وما تخفي صدورهم أكبر } إعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود : «قد بدا البغضاء » بتذكير الفعل ، لما كانت { البغضاء } بمعنى البغض ، ثم قال تعالى للمؤمنين ، { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } تحذيراً وتنبيهاً ، وقد علم تعالى أنهم عقلاء ولكن هذا هز للنفوس كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا وكذا .
الآن إذ كشف الله دخائل مَنْ حولَ المسلمين من أهل الكتاب ، أتمّ كشف ، جاء موقع التحذير من فريق منهم ، والتحذير من الاغترار بهم ، والنهي عن الإلقاء إليهم بالمودة ، وهؤلاء هم المنافقون ، للإخبار عنهم بقوله : { وإذا لقوكم قالوا آمنا } [ آل عمران : 119 ] الخ . . . وأكثرهم من اليهود ، دون الذين كانوا مشركين من الأوس والخزرج . وهذا موقع الاستنتاج في صناعة الخطابة بعد ذكر التمهيدات والإقناعات . وحقّه الاستئناف الابتدائي كما هنا .
والبطانة بكسر الباء في الأصل داخل الثَّوب ، وجمعها بطائن ، وفي القرآن { بطائنها من استبرق } [ الرحمن : 54 ] وظاهر الثوب يسمّى الظِهارة بكسر الظاء . والبطانة أيضاً الثوب الذي يجعل تحت ثوب آخر ، ويسمّى الشِعار ، وما فوقه الدثار ، وفي الحديث : « الأنصارُ شعار والنَّاس دِثار » ثمّ أطلقت الثِّياب في شدة القرب من صاحبها .
ومعنى اتخاذهم بطانة أنهم كانوا يحالفونهم ويودّونهم من قبل الإسلام فلمَّا أسلم من أسلم من الأنصار بقيت المودة بينهم وبين من كانوا أحلافهم من اليهود ، ثُمّ كان من اليهود من أظهروا الإسلام ، ومنهم من بَقي على دينه .
وقوله : { من دونكم } يجوز أن تكون ( من ) فيه زائدة و ( دون ) اسم مكان بمعنى حولكم ، وهو الاحتمال الأظهر كقوله تعالى في نظيره { ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } [ التوبة : 16 ] ويجوز أن تكون ( من ) للتبعيض و ( دون ) بمعنى غير كقوله تعالى { ومنَّا دون ذلك } [ الفتح : 27 ] من غير أهل ملّتكم ، وقد علم السامعون أنّ المنهي عن اتِّخاذهم بطانة هم الذين كانوا يموّهون على المؤمنين بأنَّهم منهم ، ودخائلهم تقتضي التَّحذير من استبطانهم .
وجملة : { لا يألونكم خبالاً } صفة لبطانة على الوجه الأول ، وهذا الوصف ليس من الأوصاف الظاهرة التي تفيد تخصيص النكرة عمّا شاركها ، لكنّه يظهر بظهور آثاره للمتوسّمين . فنهى الله المسلمين عن اتّخاذ بطانة هذا شأنها وسمَتها ، ووكلهم إلى توسّم الأحوال والأعمال ، ويكون قوله { ودّوا مَا عنتُّم } وقوله { قد بدت البغضاء } جملتين في محلّ الوصف أيضاً على طريقة ترك عطف الصفات ، ويومىء إلى ذلك قوله : { قد بينّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } أي : قد بيّنا لكم علامات عداوتهم بتلك الصفات إن كنتم تعقلون فتتوسّمون تلك الصّفات ، كما قال تعالى : { إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين } وعلى الاحتمال الثاني يجعل { من دونكم } وصفاً ، وتكون الجمل بعده مستأنفات واقعة موقع التعليل للنَّهي عن اتِّخاذ بطانة من غير أهل ملّتنا ، وهذ الخلال ثابتة لهم فهي صالحة للتوصيف ، ولتعليل النَّهي ، ذلك لأنّ العداوة النَّاشئة عن اختلاف الدين عداوة متأصّلة لا سيما عداوة قوم يرون هذا الدّين قد أبطَلَ دينهم ، وأزال حظوظهم . كما سنبينه .
ومعنى { لا يألونكم خبالاً } لا يقصّرون في حبالكم ، والألْوُ التقصير والترك ، وفعله ألاَ يَألو ، وقد يتوسّعون في هذا الفعل فيعدّى إلى مفعولين ، لأنَّهم ضمّنوه معنى المنع فيما يرغَب فيه المفعول ، فقالوا لا آلوك جُهداً ، كما قالوا لا أدّخرك نصحاً ، فالظاهر أنَّه شاع ذلك الاستعمال حتَّى صار التضمين منسياً ، فلذلك تعدّى إلى ما يدلّ على الشرّ كما يعدّى إلى ما يدلّ على الخير ، فقال هنا : { لا يألونكم خبالا } أي لا يقصّرون في خبالكم ، وليس المراد لا يمنعونكم ، لأن الخبال لا يُرْغب فيه ولا يسأل .
ويحتمل أنَّه استعمل في هذه الآية على سبيل التهكّم بالبطانة ، لأنّ شأن البطانة أن يسعوا إلى ما فيه خير من استبطنهم ، فلمّا كان هؤلاء بضدّ ذلك عبّر عن سعيهم بالضرّ ، بالفعل الذي من شأنه أن يستعمل في السعي بالخير .
والخبال اختلال الأمر وفساده ، ومنه سمّي فساد العقل خبالاً ، وفساد الأعْضَاء .
وقوله { ودّوا ما عنتم } الود : المحبّة ، والعنَت : التعب الشَّديد ، أي رغبوا فيما يعنتكم و ( ما ) هنا مصدرية ، غير زمانية ، ففعل { عنتم } لمّا صار بمعنى المصدر زالت دلالته على المضي .
ومعنى { قد بدت البغضاء من أفواههم } ظهرت من فلتات أقوالهم كما قال تعالى : { ولتعرفنهم في لحن القول } فعبّر بالبغضاء عن دلائلها .
وجملة { وما تخفي صدورهم أكبر } حالية .
( والآيات ) في قوله : { قد بينا لكم الآيات } بمعنى دلائل سوء نوايا هذه البطانة كما قال : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } [ الحجر : 75 ] ولم يزل القرآن يربّي هذه الأمّة على إعمال الفكر ، والاستدلال ، وتعرّف المسبَّبات من أسبابها في سائر أحوالها : في التَّشريع ، والمعاملة ليُنشئها أمَّة علم وفطنة .
ولكون هذه الآيات آياتِ فراسةٍ وتوسّم ، قال : { إن كنتم تعقلون } ولم يقل : إن كنتم تعلمون أو تفقهون ، لأنّ العقل أعمّ من العلم والفقه .