المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

13- يا أيها الناس : إنا خلقناكم متساوين من أصل واحد هو آدم وحواء ، وصيَّرناكم بالتكاثر جموعاً عظيمة وقبائل متعددة ، ليتم التعارف والتعاون بينكم ، إن أرفعكم منزلة عند الله في الدنيا والآخرة أتقاكم له . إن الله محيط علمه بكل شيء ، خبير لا تخفي عليه دقائق كل شأن .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

قوله تعالى : { من ذكر وأنثى } يحتمل أن يريد آدم وحواء . فكأنه قال : إنا خلقنا جميعكم من آدم وحواء . ويحتمل أن يريد الذكر والأنثى اسم الجنس . فكأنه قال : إنا خلقنا كل واحد منكم من ماء ذكر وما أنثى . وقصد هذه الآية التسوية بين الناس . ثم قال تعالى : { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } أي لئلا تفاخروا ويريد بعضكم أن يكون أكرم من بعض . فإن الطريق إلى الكرم غير هذا : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وروى بو بكرة : قيل يا رسول الله : من خير الناس ؟ قال : «من طال عمره وحسن عمله »{[10492]} . وفي حديث آخر من خير الناس ؟ قال : «آمرهم بالمعروف . وأنهاهم عن المنكر . وأوصلهم للرحم وأتقاهم »{[10493]} . وحكى الزهراوي أن سبب هذه الآية غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة{[10494]} ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح عند النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن فلانة ، فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له : «إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى »{[10495]} فنزلت هذه الآية ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً .

والشعوب : جمع شعب وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطاً بنسب واحد ، ويتلوه القبيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الأسرة والفصيلة : وهما قرابة الرجل الأدنون فمضر وربيعة وحمير شعوب ، وقيس وتميم ومذحج ومراد ، قبائل مشبهة بقبائل الرأس ، «لأنها قطع تقابلت » وقريش ومحارب وسليم عمارات ، وبنو قصي وبنو مخزوم بطون ، وبنو هاشم وبنو أمية أفخاذ ، وبنو عبد المطلب أسرة وفصيلة ، وقال ابن جبير : الشعوب : الأفخاذ . وروي عن ابن عباس الشعوب : البطون ، وهذا غير ما تمالأ{[10496]} عليه اللغويون . قال الثعلبي ، وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب ، والأسباط في بني إسرائيل . وأما الشعب الذي هو في همدان الذي ينسب إليه الشعبي فهو بطن يقال له الشعب .

قال القاضي أبو محمد : وقيل للأمم التي ليست بعرب : شعوبية ، نسبة إلى الشعوب ، وذلك أن تفصيل أنسابها خفي فلم يعرف أحد منهم إلا بأن يقال : فارسي تركي رومي زناتي . فعرفوا بشعوبهم وهي أعم ما يعبر به عن جماعتهم ، ويقال لهم الشعوبية بفتح الشين ، وهذا من تغيير النسب ، وقد قيل فيهم غير ما ذكرت ، وهذا أولى عندي .

وقرأ الأعمش : «لتتعارفوا » وقرأ عبد الله بن عباس : «لتعرفوا أن » ، على وزن تفعِلوا بكسر العين وفتح الألف من «أن » ، وبإعمال «لتعرفوا » فيها ، ويحتمل على هذه القراءة أن تكون اللام في قوله : «لتعرفوا » لام كي ، ويضطرب معنى الآية مع ذلك ، ويحتمل أن تكون لام الأمر ، وهو أجود في المعنى ، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفاً تقديره : الحق ، وإذا كانت لام كي فكأنه قال : يا أيها الناس أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون لأن تتعارفوا ولأن تعرفوا الحقائق ، وأما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة القلوب .

وقرأ ابن مسعود : «لتعارفوا بينكم وخيركم عند الله أتقاكم » . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من سره أن يكون أكرم الناس ، فليتق الله ربه »{[10497]} . ثم نبه تعالى على الحذر بقوله : { إن الله عليم خبير } أي بالمتقي الذي يستحق رتبة الكرم .


[10492]:اخرجه الترمذي في الزهد، والدارمي في الرقاق، واحمد في مسنده(4-188، 5-40، 43، 44، 47، 48، 49، 50)، ولفظه كما جاء في المسند، عن عبد الله بن بُسر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابيان، فقال أحدهما: من خير الرجال يا محمد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من طال عمره، وحسن عمله)، وقال الآخر: إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فباب نتمسك به جامع؟ قال:(لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله).
[10493]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده(6-432)، عن درة بنت أبي لهب قالت: قام رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم:(خير الناس أقرؤهم وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم). وأورده السيوطي في "الدر المنثور" وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.
[10494]:أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن أبي مليكة، قال ذلك في "الدر المنثور"، وذكره الواحدي في "أسباب النزول" بدون سند عن مقاتل، قال: لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا حتى أذن على ظهر الكعبة، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟ وقال سهيل بن عمرو:إن يرد الله شيئا يغيره، وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء، فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال، والازدراء بالفقراء.
[10495]:ذكره الواحدي في"أسباب النزول" بغير سند، ولم يعزه لأحد، وذكره الخازن والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما بدون سند أيضا، وقال الحافظ بن حجر في "تخريج الكشاف":إن الثعلبي ذكره عن ابن عباس بغير سند، وأورده القرطبي مسبوقا بكلمة"وقيل" وبدون سند أيضا، قالوا جميعا: إن الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شماس حين أراد أن يجلس قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب إلى رجل أن يُفسح له في المجلس فلم يُفسح له، فقال ثابت للرجل: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقال ثابت: أنت ابن فلانة! فذكر أما له كان يُعير بها في الجاهلية، فأغضى الرجل ونكس رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الذاكر فلانة؟ فقال ثابت: أنا يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انظر في وجوه القوم، فنظر، فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر، فقال: فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى، فنزلت في ثابت هذه الآية، ونزلت في الرجل الذي لم يفسح له: {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا} الآية.
[10496]:بمعنى: اجتمعوا واتفقوا.
[10497]:ذكره القرطبي بقوله:"وقد جاء منصوصا عنه عليه الصلاة والسلام:(من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله)، وفي البخاري عن أبي هريرة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال:(أكرمهم عند الله أتقاهم)، والأحاديث في ذلك كثيرة وصحيحة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ} (13)

انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه ، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض ، إذ كان إعجابُ كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشياً في الجاهلية كما ترى بقيته في شعر الفرزدق وجرير ، وكانوا يحقرون بعض القبائل مثل بَاهلة ، وضُبيعة ، وبني عُكل .

سئل أعرابي : أتحب أن تدخل الجنة وأنت باهلي فأطرق حينا ثم قال : على شرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلى . فكان ذلك يجرّ إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة ، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام .

فعن أبي داود أنه روى في كتابه « المراسيل » عن الزهري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة ( من الأنصار ) أن يزوجوا أبا هند ( مولَى بني بياضة قيل اسمه يَسار ) امرأةً منهم فقالوا : تزوج بناتنا موالينَا ، فأنزل الله تعالى : { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا } الآية . وروي غير ذلك في سبب نزولها .

ونُودوا بعنوان { الناس } دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صُدّر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد ، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } .

فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغترّ بأن غالِب الخطاب ب { يا أيها الناس } إنما كان في المكي .

والمراد بالذَكَر والأنثى : آدم وحواء أبَوَا البشر ، بقرينة قوله { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } .

ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنتم بنو آدم وآدم من تراب " كما سيأتي قريباً . فيكون تنوين ( ذكر وأنثى ) لأنهما وصفان لموصوف فقرر ، أي من أب ذكر ومن أم أنثى .

ويجوز أن يراد ب { ذكر وأنثى } صنف الذكر والأنثى ، أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى .

وحرف ( من ) على كلا الاحتمالين للابتداء .

والشعوب : جمع شعب بفتح الشين وهو مجمع القبائل التي ترجع إلى جد واحد من أمة مخصوصة وقد يسمى جذماً ، فالأمة العربية تنقسم إلى شعوب كثيرة فمُضر شعب ، وربيعة شعب ، وأنمار شعب ، وإياد شعب ، وتجمعها الأمة العربية المستعربة ، وهي عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام ، وحمير وسبأ ، والأزدُ شعوب من أمة قحطان . وكنانة وقيس وتميم قبائل من شعب مضر . ومَذْحج ، وَكِنْدَة قبيلتان من شَعب سَبأ . والأوسُ والخزرج قبيلتان من شَعب الأزد .

وتحت القبيلة العمارة مثل قريش من كِنانة ، وتحت العمارة البطن مثل قصيّ من قريش ، وتحت البطن الفخِذ مثل هاشم وأمية من قَصي ، وتحت الفخذ الفصيلة مثل أبي طالب والعباس وأبي سفيان .

واقُتصر على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما تحتها داخل بطريق لحن الخطاب .

وتجاوز القرآن عن ذكر الأمم جرياً على المتداول في كلام العرب في تقسيم طبقات الأنساب إذ لا يدركون إلا أنسابهم .

وجعلت علة جَعْل الله إياه شعوباً وقبائل . وحكمتهُ من هذا الجَعل أن يتعارف الناس ، أي يعرِف بعضهم بعضاً .

والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجاً إلى الأعلى ، فالعائلة الواحدة متعارفون ، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة ، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائِر ، والعمائِر مع القبائل ، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها .

فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاماً محكماً لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر . وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم .

والمقصود : أنكم حرَّفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بِسبب تناكر وتطاحن وعدوان .

ألا ترى إلى قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :

مهلاً بني عمنا مهلاً موالِينا *** لا تَنْبُشوا بيننا ما كان مدفوناً

لا تطمَعوا أن تُهِينُونا ونكرمَكُم *** وأن نَكُف الأذى عنكم وتؤذونا

وقول العُقيلي وحاربه بنو عمه فقَتل منهم :

ونَبكي حين نقتلكم عليكم *** ونَقتلكم كأنَّا لا نبالي

وقول الشَّمَيْذَرِ الحارثي :

وقد ساءنِي ما جرَّت الحربُ بيننا *** بني عَمّنا لو كان أمراً مُدانيا

وأقوالهم في هذا لا تحصر عدا ما دون ذلك من التفاخر والتطاول والسخرية واللمز والنبز وسوء الظن والغيبة مما سبق ذكره .

وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة .

ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يَغِين على نُورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتَجسِس والغيبة ، ذكَّرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عوناً على تبصرهم في حالهم ، ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عَمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعتْه الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله : { لتعارفوا } ثم وأتبعه بقوله : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] .

والخبر في قوله : { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والمزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين . والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فتلك الجملة تتنزل من جملة { إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } منزلة المقصد من المقدمة والنتيجةِ من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان .

وأما جملة { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } فهي معترضة بين الجملتين الأخريين .

والمقصود من اعتراضها : إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم .

ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال : " يا أيها الناس ألاَ إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعَربي على عجمي ولا لِعجمي على عربي ولا لأسودَ على أحمرَ ولا لأحمرَ على أسود إلا بالتقوى "

ومن نمط نظم الآية وتبيينها ما رواه الترمذي في تفسير هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله أذهب عنكم عبيّة الجاهلية وفخرها لا لآباء الناس مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب " وفي رواية « أن ذلك مما خطب به يوم فتح مكة ( عبية بضم العين المهملة وبكسرها وبتشديد الموحدة المكسورة ثم تشديد المثناة التحتية : الكبر والفخر . ووزنهما على لغة ضم الفاء فُعولة وعلى لغة كسر الفاء فعلية ، وهي إما مشتقة من التعبية فتضعيف الباء لمجرد الإلحاق مثل نضّ الثوب بمعنى نضى أو مشتقة من عباب الماء فالتضعيف في الباء أصلي ) .

وفي رواية ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عمر « طاف رسول الله يوم فتح مكة ثم خطبهم في بطن المسيل فذكر الحديث وزاد فيه أن الله يقول : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } إلى { إن الله عليم خبير } .

وجملة { إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإنما أخّرت في النظم عن جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساوَوا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضُل بعضهم بعضاً إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم ب { عند الله } إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به .

والمراد بالأكرم : الأنْفَس والأشَرف ، كما تقدم بيانه في قوله : { إني ألقي إلى كتاب كريم } في سورة [ النمل : 29 ] .

والأتقى : الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتَّقى على غير قياس .

وجملة { إن الله عليم خبير } تعليل لمضمون { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة فلذلك الأكرم هو الأتقى ، وهذا كقوله : { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } [ النجم : 32 ] أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى ، أي التي هي التزكية الحق . ومن هذا الباب قوله : { الله أعمل حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] .

علم أن قوله : { إن أكرمكم عند الله اتقاكم } لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعرافة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل ، وفي العائلات ، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثاراً لأفرادها وخلالاً في سلائلها قال النبي صلى الله عليه وسلم « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا »

فإن في خلق الأنباء آثاراً من طباع الآباء الأدنَيْن أو الأعَليْن تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثاراً جمّة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى .

وجملة { إن الله عليم خبير } تذييل ، وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه .