قوله عز وجل : { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } ، قال مجاهد ، قتادة : بنبيهم . وقال : أبو صالح والضحاك : بكتابهم الذي أنزل عليهم . وقال الحسن و أبو العالية : بأعمالهم . وقال قتادة أيضاً : بكتابهم الذي فيه أعمالهم ، بدليل سياق الآية . { فمن أوتي كتابه بيمينه } ، ويسمى الكتاب إماماً كما قال عز وجل : { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } [ يس – 12 ] . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالة أو هدى ، قال الله تعالى : { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [ الأنبياء – 73 ] ، وقال : { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } [ القصص – 41 ] . وقيل : بمعبودهم . وعن سعيد بن المسيب قال : كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر . وقال محمد بن كعب : { بإمامهم } ، قيل : بعني بأمهاتهم ، وفيه ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها : لأجل عيسى عليه السلام ، والثاني : لشرف الحسن والحسين ، والثالث : لئلا يفتضح أولاد الزنا . { فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا } أي : لا ينقص من حقهم قدر فتيل .
{ يوم ندعو } نصب بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه { ولا يظلمون } ، وقرئ " يدعو " و " يدعي " و " يدعو " على قلب الألف واواً لي لغة من يقول أفعو في أفعى ، أو على أن الواو علامة الجمع كما في قوله : { وأسروا النجوى الذين ظلموا } أو ضميره وكل بدل منه والنون محذوفة لقلة المبالاة بها فإنها ليست إلا علامة الرفع ، وهو قد يقدر كما في " يدعي " . { كل أناس بإمامهم } بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين . وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا صاحب كتاب كذا ، أي تنقطع علقة الأنساب وتبقى نسبة الأعمال . وقيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم . وقيل بأمهاتهم جمع أم كخف وخفاف ، والحكمة في ذلك ، إجلال عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وأن لا يفتضح أولاد الزنا . { فمن أُوتي } من المدعوين . { كتابه بيمينه } أي كتاب عمله . { فأولئك يقرءون كتابهم } ابتهاجا وتبجحا بما يرون فيه . { ولا يُظلمون فتيلاً } ولا ينقصون من أجورهم أدنى شيء ، وجمع اسم الإشارة والضمير لأن من أوتي في معنى الجمع ، وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على أن من أوتي كتابه بشماله إذا اطلع ما فيه غشيهم من الخجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم عن القراءة ، ولذلك لم يذكرهم مع أن قوله : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } أيضا مشعر بذلك فإن الأعمى لا يقرأ الكتاب ، والمعنى ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب لا يبصر رشده كان في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة .
انتقال من غرض التهديد بعاجل العذاب في الدنيا الذي في قوله : { ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر } إلى قوله : { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } [ الإسراء : 66 69 ] إلى ذكر حال الناس في الآخرة تبشيراً وإنذاراً ، فالكلام استئناف ابتدائي ، والمناسبة ما علمتَ . ولا يحسن لفظ ( يومَ ) للتعلق بما قبله من قوله : { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } [ الإسراء : 70 ] على أن يكون تخلصاً من ذكر التفضيل إلى ذكر اليوم الذي تظهر فيه فوائد التفضيل ، فترجح أنه ابتداء مستأنف استئنافاً ابتدائياً ، ففتحة { يوم } إما فتحة إعراب على أنه مفعول به لفعل شائع الحذف في ابتداء العبر القرآنية وهو فِعل « اذكر » فيكون { يوم } هنا اسمَ زمان مفعولاً للفعل المقدر وليس ظرفاً .
والفاء في قوله : { فمن أوتي } للتفريع لأن فعْل ( اذكر ) المقدر يقتضي أمراً عظيماً مجملاً فوقع تفصيله بذكر الفاء وما بعدها فإن التفصيل يتفرع على الإجمال .
وإما أن تكون فتحته فتحةَ بناء لإضافته اسم الزمان إلى الفعل ، وهو إما في محل رفع بالابتداء ، وخبره جملة { فمن أوتي كتابه بيمينه } . وزيدت الفاء في الخبر على رأي الأخفش ، وقد حكى ابن هشام عن ابن بَرهان أن الفاء تزاد في الخبر عند جميع البصريين ما عدا سيبويه ؛ وإما ظرف لفعل محذوف دل عليه التقسيم الذي بعده ، أعني قوله : { فمن أوتي كتابه بيمينه } إلى قوله : { وأضل سبيلاً } . وتقدير المحذوف : تتفاوت الناس وتتغابَن . وبُيّن تفصيل ذلك المحذوف بالتفريع بقوله : { فمن أوتي كتابه } الخ .
والإمام : ما يؤتم به ، أي يُعمل على مِثل عمله أو سيرته . والمراد به هنا مبين الدين : من دين حق للأمم المؤمنة ومن دين كفر وباطل للأمم الضالة .
ومعنى دعاء الناس أن يُدعى يا أمةَ فلان ويا أتباعَ فلان ، مثل : يا أمة محمد ، يا أمةَ موسى ، يا أمة عيسى ، ومثل : يا أمة زَرادشت . ويا أمةَ برْهَما ، ويا أمةَ بُوذا ، ومثل : يا عبدة العزى ، يا عبدة بَعل ، يا عبدةَ نَسْر .
والباء لتعدية فعل { ندعوا } لأنه يتعدى بالباء ، يقال : دعوته بكنيته وتدَاعَوا بِشعارهِم .
وفائدة ندائهم بمتبوعيهم التعجيلُ بالمسرة لاتباع الهُداة وبالمساءة لاتباع الغُواة ، لأنهم إذا دُعوا بذلك رأوا متبوعيهم في المقامات المناسبة لهم فعلموا مصيرهم .
وفرع على هذا قوله : { فمن أوتي كتابه بيمينه } تفريع التفصيل لما أجمله قوله : { ندعوا كل أناس بإمامهم } ، أي ومن الناس من يُؤتى كتابه ، أي كتاب أعماله بيمينه .
وقوله : { فمن أوتي } عطف على مقدر يقتضيه قوله : { ندعوا كل أناس بإمامهم } أي فيؤتَوْن كتبهم ، أي صحائف أعمالهم .
وإيتاء الكتاب باليمين إلهام صاحبه إلى تناوله باليمين . وتلك علامة عناية بالمأخوذ ، لأن اليمين يأخذ بها من يعْزم عملاً عظيماً قال تعالى : { لأخذنا منه باليمين } [ الحاقة : 45 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً تلقاها الرحمان بيَمينه وكلتَا يديْه يَمين . . . " الخ ، وقال الشمّاخ :
إذا ما رايةٌ رفعت لمجد *** تلقاها عَرابة باليمين
وأما أهل الشقاوة فيؤتَون كتبهم بشمائلهم ، كما في آية [ الحاقة : 25 ] { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه } .
والإتيان باسم الإشارة بعد فاء جواب ( أما ) ، للتنبيه على أنهم دون غيرهم يقرؤون كتابهم ، لأن في اطلاعهم على ما فيه من فعل الخَير والجزاء عليْه مسرة لهم ونعيماً بتذكر ومعرفة ثوابه ، وذلك شأن كل صحيفة تشتمل على ما يسر وعلى تذكر الأعمال الصالحة ، كما يطالع المرء أخبار سلامة أحبائه وأصدقائه ورفاهة حالهم ، فتوفرُ الرغبة في قراءة أمثال هذه الكتب شنشنة معروفة .
وأما الفريق الآخر فسكت عن قراءة كتابهم هنا . وورد في الآية التي قبلها في هذه السورة { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 13 14 ] .
والظلم مستعمل هنا بمعنى النقص كما في قوله تعالى : { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } [ الكهف : 33 ] ، لأن غالب الظلم يكون بانتزاع بعض ما عند المظلوم فلزمه النقصان فأطلق عليه مجازاً مرسلاً . ويفهم من هذا أن ما يعطاه من الجزاء مما يرغب الناس في ازدياده .
والفتيل : شبه الخَيط تكون في شق النواة وتقدم في قوله تعالى : { بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا } في سورة [ النساء : 49 ] ، وهو مثَل للشيء الحقير التافه ، أي لا ينقصون شيئاً ولو قليلاً جداً .