قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ، اختلفوا في هذه البشرى : روي عن عبادة بن الصامت قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا } ، قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد ابن إسماعيل ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، حدثني سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا : وما المبشرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة " . وقيل : البشري في الدنيا هي : الثناء الحسن وفى الآخرة : الجنة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا عبد الرزاق بن أبي شريج ، أنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أنا شعبة عن أبي عمران الجوني قال : سمعت عبد الله بن الصامت قال : " قال أبو ذر : يا رسول الله الرجل يعمل لنفسه ويحبه الناس ؟ قال : تلك عاجل بشرى المؤمن " .
وأخرج مسلم بن الحجاج هذا الحديث عن يحيى بن يحيى عن حماد بن زيد عن أبي عمران ، وقال : ويحمده الناس عليه . وقال الزهري وقتادة : هي نزول الملائكة بالبشارة من الله تعالى عند الموت ، قال الله تعالى : { تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } [ فصلت-30 ] . وقال عطاء عن ابن عباس : البشرى في الدنيا ، يريد : عند الموت تأتيهم الملائكة بالبشارة ، وفى الآخرة عند خروج نفس المؤمن ، يعرج بها إلى الله ، ويبشر برضوان الله . وقال الحسن : هي ما بشر الله المؤمنين في كتابه من جنته وكريم ثوابه ، كقوله : { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ البقرة- 25 ] ، { وبشر المؤمنين } [ الأحزاب-47 ] { وأبشروا بالجنة } [ فصلت-30 ] . وقيل : بشرهم في الدنيا بالكتاب والرسول أنهم أولياء الله ، ويبشرهم في القبور وفى كتب أعمالهم بالجنة . { لا تبديل لكلمات الله } ، لا تغيير لقوله ، ولا خلف لوعده . { ذلك هو الفوز العظيم * }
وعلام يحزنون ومم يخافون ، والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ? إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل - لا تبديل لكلمات الله - :
إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى . والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل . والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه . . هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله . لا كما يفهمه العوام ، من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء !
أما بشرى الآخرة فهي بالجنة قولاً واحداً وتلك هي الفضل الكبير الذي في قوله { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً }{[6154]} وأما بشرى الدنيا فتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له ، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الدرداء وعمران بن حصين وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وغيرهم على أنه سئل عن ذلك ففسره بالرؤيا{[6155]} ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال : «لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة »{[6156]} ، وروت عنه أم كرز الكعبية أنه قال : «ذهبت النبوءة وبقيت المبشرات »{[6157]} ، وقال قتادة والضحاك : البشرى في الدنيا هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن تكون بشرى الدنيا في القرآن من الآيات المبشرات ، ويقوى ذلك بقوله في هذه الآية { لا تبديل لكلمات الله } وإن كان ذلك كله يعارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «هي الرؤيا » إلا إن قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى مثالاً من البشرى وهي تعم جميع الناس ، وقوله { لا تبديل لكلمات الله } يريد لا خلف لمواعيده ولا رد في أمره .
قال القاضي أبو محمد : وقد أخذ ذلك عبد الله بن عمر على نحو غير هذا وجعل التبديل المنفي في الألفاظ وذلك أنه روي : أن الحجّاج بن يوسف خطب فأطال خطبته حتى قال : إن عبد الله بن الزبير قد بدل كتاب الله ، فقال له عبد الله بن عمر : إنك لا تطيق ذلك أنت ولا ابن الزبير { لا تبديل لكلمات الله } ، فقال له الحجاج : لقد أعطيت علماً فلما انصرف إليه في خاصته سكت عنه ، وقد روي هذا النظر عن ابن عباس في غير مقاولة الحجّاج ، ذكره البخاري ، وقوله { ذلك هو الفوز العظيم } إشارة إلى النعيم الذي به وقعت البشرى .
{لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة}...: هي البشارة عند الموت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: البشرى من الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة لأولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون.
ثم اختلف أهل التأويل في البشرى التي بشّر الله بها هؤلاء القوم ما هي، وما صفتها؟
فقال بعضهم: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة...
حدثنا العباس بن الوليد، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرنا الأوزاعي، قال: أخبرني يحيى بن أبي كثير، قال: ثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: سأل عبادة بن الصامت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن هذه الآية:"الّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتّقُونَ لهُمُ البُشْرَى فِي الحَياةِ الدّنيَا وفِي الآخِرَةِ" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ ما سأَلَنِي عَنْهُ أحَدٌ قَبْلَكَ»، أو قال: «غْيَركَ». قال: «هِيَ الرّؤْيا الصّالِحَةُ يَرَاها الرّجُلُ الصّالِحُ، أوْ تُرَى لَهُ»...
وقال آخرون: هي بشارة يبشر بها المؤمن في الدنيا عند الموت... وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له منها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله، كما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ المَلائِكَةَ التي تَحْضُرُه عِنْدَ خُرُوجِ نَفْسِهِ، تَقُولُ لَنْفْسِهِ: اخْرُجي إلى رَحْمَةِ اللّهِ وَرِضْوَانِهِ». وَمنها: بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل، كما قال جلّ ثناؤه: "وبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ أنّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ...". وكلّ هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جلّ ثناؤه أن لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَياةِ الدّنْيا وأما في الآخرة فالجنة.
وأما قوله: "لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللّهِ "فإن معناه: إن الله لا خلف لوعده ولا تغيير لقوله عما قال ولكنه يمضي لخلقه مواعيده وينجزها لهم ...
وقوله: "ذلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ" يقول تعالى ذكره: هذه البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة هي الفوز العظيم، يعني الظفر بالحاجة والطلبة والنجاة من النار.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال البشارة العُظْمَى ما يجدون في قلوبهم مِنْ ظَفَرِهم بنفوسهم بسقوط مآربهم، وأيُّ مُلْكٍ أتمُّ من سقوط المآرب، والرضا بالكائن؟ هذه هي النعمة العظمى، ووجدانُ هذه الحالة هو البشرى الكبرى...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
في صحيح مسلم:"لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة"
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما نفى عنهم الخوف والحزن، زادهم فقال مبيناً لتوليه لهم بعد أن شرح توليهم له: {لهم} أي خاصة {البشرى} أي الكاملة {في الحياة الدنيا} أي بأن دينهم يظهر وحالهم يشتهر وعدوهم يخذل وعمله لا يقبل، وبالرؤية الصالحة. {وفي الآخرة} بأنهم هم السعداء وأعداؤهم الأشقياء وتتلقاهم الملائكة {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} [الأنبياء: 103]. ولما كان الغالب على أحوال أهل الله في الدنيا الضيق ولا سيما في أول الإسلام، كان السامع لذلك بمعرض أن يقول: يا ليت شعري هل يتم هذا السرور! فقيل: نعم، وأكد بنفي الجنس لأن الجبابرة ينكرون ذلك لهم لما يرون من أن عزهم من وراء ذل ليس فيه سوء ما لباطل المتكبرين من السورة والإرجاف والصولة: {لا تبديل} أي بوجه من الوجوه {لكلمات الله} أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة؛ وقوله -: {ذلك} أي الأمر العالي الرتبة {هو} أي خاصة {الفوز العظيم} في موضع البيان والكشف لمضمون هذه البشرى؛ والخوف: انزعاج القلب بما يتوقع من المكروه، ونظيره الجزع والفزع، ونقيضه الأمن؛ والحزن: انزعاجه وغلظ همه مما وقع من المكروه، من الحزن للأرض الغليظة، ونقيضه السرور، وهما يتعاقبان على حال الحي الذاكر للمحبوب؛ والبشرى: الخبر الأول بما يظهر سروره في بشرة الوجه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وأما البشرى التي زفها إليهم فهي قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ} البشرى: الخبر السار الذي تنبسط به بشرة الوجه فيتهلل وتبرق أساريره. وهذه البشرى مبينة في مواضع من كتاب الله تعالى، وقد يراد متعلقها الذي يبشرون به، ولم يذكر هنا ليشمل كل ما بشروا به في كتاب الله تعالى وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فأما البشرى في الحياة الدنيا فأهمها البشارة بالنصر، وبحسن العاقبة في كل أمر، وباستخلافهم في الأرض، ما أقاموا شرع الله و سننه، ونصروا دينه وأعلوا كلمته، وأما في الآخرة فمن أكملها وأجمعها لمعاني الآية لأكملهم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا ولَا تَحْزَنُوا وأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الْآخِرَةِ ولَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ ولَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30 32].
المشهور في تنزل الملائكة عليهم أنه يكون عند البعث، وكذا عند الموت، ولا مانع من شموله لما في الدنيا من تثبيت قلوبهم، وتقوية إلهام الحق والخير فيهم، كما قال تعالى في الملائكة الذين أمد بهم أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن به قلوبكم} [الأنفال: 10] الآية ثم قال: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12]، وقد يكون منه إلهام الحق والخير كما ورد في حديث ابن مسعود مرفوعا عند الترمذي والنسائي:"إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان".
{لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} أي لا تغيير ولا خلف في مواعيد الله عز وجل، ومنها هذه البشارات وما في معناها من الآيات.
{ذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي ذلك الذي ذكر من البشرى بسعادة الدارين هو الفوز العظيم الذي لا يعلوه فوز، وإنما هو ثمرة الإيمان لحق، والتقوى العامة في حقوق الله وحقوق الخلق...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب، رتبه الله في الدنيا والآخرة، على الإيمان والتقوى، ولهذا أطلق ذلك، فلم يقيده...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وتعريف {البشرى} تعريف الجنس فهو صادق ببشارات كثيرة. و {في الحياة الدنيا وفي الآخرة} حال من {البشرى}. والمعنى: أنهم يبشرون بخيرات قبل حصولها: في الدنيا بما يتكرر من البشارات الواردة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الآخرة بما يتلقونه من الملائكة وما يسمعونه من أمر الله بهم إلى النعيم المقيم، كقوله: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات} [البقرة: 25].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
...إن المؤمنين الصافية نفوسهم والذين أخلصوا وجوههم لله تعالى تميل إليهم قلوب المخلصين،وكان بعض الأعراب يؤمنون بمجرد رؤيتهم لوجه النبي صلى الله عليه وسلم رآه مرة أعرابي فسأله: أأنت الذي تقول قريش أنك كذاب، ما هذا بوجه كذاب ثم أسلم. ذلك صفاء النفس المحمدية بدا نورا في وجهه فآمن الأعرابي.
وأما بشرى الآخرة فهي لقاء الملائكة لهم بالبشرى، كما قال تعالى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون 103} (الأنبياء).
كما يقول سبحانه: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم 12} (الحديد).
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولي الله وهو أول الأولياء وهاديهم فلا يلتفت إلى قول الذين يناوئونه؛ لأنه ولي العزيز الحكيم؛ ولذلك قال سبحانه:
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} في ما يلهمهم الله من الشعور بالرضا والطمأنينة والسعادة، مما يعيشون معه البشرى كما لو كانت وحياً منزلاً منه {وَفِى الآخرةِ} في ما تستقبلهم به الملائكة بالبشارة بالجنة التي كانوا يوعدون {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} بما وعد به أولياءه، والله لا يخلف وعده {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي يمثل السعادة المطلقة في ما يواجه به الإنسان قضية المصير حيث يعيش النجاح؛ كل النجاح، والفوز؛ كل الفوز، فلا منتهى لسعادته.