محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ لَا تَبۡدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (64)

[ 64 ] { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم 64 } .

وقوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } { البشرى } مصدر إما باق على مصدريته ، والمبشر به محذوف ، أي لهم البشارة فيهما بالجنة ، وإنما حذف للعلم به من آيات أخر كقوله تعالى{[4752]} : { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا . . . إلى قوله : يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم } ، وقوله تعالى{[4753]} : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } وإما مراد به المبشر به ، وتعريفه للعهد . كقوله سبحانه{[4754]} : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيدهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، ذلك هو الفوز العظيم } .

وقوله تعالى : { لا تبديل لكلمات الله } أي لمواعيده { ذلك } أي بشراكم ، وهي / الجنة ، { هو الفوز العظيم } أي المنال الجليل . الذي لا مطلب وراءه . كيف ؟ وقد فازوا بالجنة وما فيها ، ونجوا من النار وما فيها .

تنبيه :

هذه الآية الكريمة أصل في بيان أولياء الله ، وقد بين تعالى في كتابه ، ورسوله في سنته ، أن لله أولياء من الناس ، كما أن للشيطان أولياء . وللإمام تقي الدين بن تيمية ، عليه الرحمة ، كتاب في ذلك سماه ( الفرقان بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان ) نقتبس منه جملة يهم الوقوف عليها ، لكثرة ما يدور على الألسنة من ذكر الولي والأولياء . قال رحمه الله :

إذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمان ، وأولياء الشيطان ، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء ، كما فرق الله ورسوله بينهما ، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون ، كما في هذه الآية ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[4755]} : " يقول الله : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، أو فقد آذنته بالحرب " {[4756]} . . . الحديث وهذا أصح حديث يروى في الأولياء ، دل على أن من عادى وليا لله ، فقد بارز الله بالمحاربة .

وفي حديث آخر{[4757]} : " وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " . أي : آخذ ثأرهم ممن عاداهم ، كما يأخذ الليث الحرب ثأره . وهذا ، لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه ، فأحبوا ما يحب ، وأبغضوا ما يبغض ، ورضوا بما يرضى ، وسخطوا بما يسخط ، وأمروا بما يأمر ، ونهوا عما نهى ، وأعطوا لمن يحب أن يعطى ، ومنعوا من يحب أن يمنع .

والولاية ضد العداوة . وأصل الولاية المحبة والقرب . وأصل العداوة البغض والبعد .

/ وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه ، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم ، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ، خاتم النبيين ، وإمام المتقين ، الذي بعثه الله بأفضل كتبه ، وشرع له أفضل شرائع دينه ، وجعله الفارق بين أوليائه ، وأعدائه ، فلا يكون وليا لله إلا من آمن به ، وبما جاء به ، واتبعه ظاهرا وباطنا . ومن ادعى محبة الله وولايته ، وهو لم يتبعه ، فليس من أولياء الله ، بل من خالفه كان من أعداء الله ، وأولياء الشيطان . وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ، ولا يكونون من أوليائه . فاليهود والنصارى يدعون أنهم من أولياء الله وأحباؤه . قال تعالى{[4758]} : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق . . } الآية . وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله ، لسكناهم مكة ، ومجاورتهم البيت ، فأنزل تعالى{[4759]} : { وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } . وكما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله ، وليس وليا لله ، بل عدو له ، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ، يقرون في الظاهر بالشهادتين ، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك ، مثل ألا يقروا باطنا برسالته عليه السلام ، وإنما كان ملكا مطاعا ، ساس الناس ، برأيه ، من جنس غيره من الملوك . أو يقولون إنه رسول الله إلى الأميين خاصة . أو يقولون إنه مرسل إلى عامة الخلق ، وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ، ولا يحتاجون إليه ، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته ، كما كان الخضر مع موسى . أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه ، وينتفعون به من غير واسطة ، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة ، وهم موافقون له فيها . وأما الحقائق الباطنة ، فلم يرسل بها ، أو لم يكن يعرفها . أو هم أعرف بها منه ، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته . فهؤلاء كلهم كفار ، مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله . وإنما أولياء الله : الذين وصفهم تعالى بولايته بقوله{[4760]} : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون } .

/ ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ، خاتم النبيين ، مرسل إلى جميع الثقلين الإنس والجن . فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن ، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ما جاء به ، وكفر ببعض ، فهو كافر ليس بمؤمن .

ومن الإيمان به ، الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه ، في تبليغ أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، وحلاله وحرامه . فالحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله ، والدين ما شرعه ورسوله صلى الله عليه وسلم . فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر من أولياء الشيطان .

وأما خلق الله تعالى للخلق ، ورزقه إياهم ، وإجابته لدعائهم ، وهدايته لقلوبهم ، ونصرهم على أعدائهم ، وغير ذلك من جلب المنافع ، ودفع المضار ، فهذا لله وحده ، يفعله بما يشاء من الأسباب ، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل .

ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فليس بمؤمن ، ولا ولي لله تعالى . كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبّادهم ، وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ، ممن كان من حكماء الهند والترك ، وله علم أو زهد وعبادة في دينه ، وليس مؤمنا بجميع ما جاء به ، فهو كافر ، عدو لله ، وإن ظن طائفة أنه ولي الله . كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارا مجوسا ، وكذلك حكماء اليونان مثل أرسطو وأمثاله ، كانوا مشركين ، يعبدون الأصنام والكواكب . وفي أصناف المشركين من هذه الطوائف من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة ، ولكن ليس بمؤمن بالرسل ، ولا يصدقهم فيما أخبروا به ، ولا يطيعهم فيما أمروا ، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ، ولا أولياء الله ، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين ، وتنزل عليهم ، فيكاشفون الناس ببعض الأمور ، لهم تصرفات خارقة من جنس السحر ، وهم من جنس الكهان والسحرة / الذين تنزل عليهم الشياطين . قال تعالى{[4761]} : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } . وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات ، وخوارق العادات ، إذا لم يكونوا متبعين للرسل ، فلا بد أن يكذبوا ، وتكذبهم شياطينهم ، ولا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور ، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة ، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين ، واقترنت بهم ، فصاروا من أولياء الشيطان ، لا من أولياء الرحمن .

ومن الناس من يكون فيه إيمان ، وفيه شعبة من نفاق ، كما في ( الصحيحين ) {[4762]} عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " وفي ( صحيح مسلم ) {[4763]} : " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم " .

وإذ كان أولياء الله هم ( المؤمنون المتقون ) ، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى ، فمن كان أكمل إيمانا وتقوى ، كان أكمل ولاية لله . فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل ، بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى ، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله ، بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق .

وأولياء الله على طبقتين : سابقون ومقربون وأصحاب يمين مقتصدون ، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز . فالأبرار أصحاب اليمين ، هم المتقربون إلى الله بالفرائض ، يفعلون ما أوجب الله عليهم ، ويتركون ما حرم الله عليهم ، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات ، ولا الكفّ عن فضول المباحات . وأما السابقون المقربون ، فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ، ففعلوا / الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات ، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم ، أحبهم الرب حبا تاما ، كما قال تعالى{[4764]} : { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } يعني الحب المطلق .

ثم إذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا لهذه الآية فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله . وكذلك من لا يصح إيمانه وعبادته ، وإن قدر أنه لا إثم عليه ، مثل أطفال الكفار ، ومن لم تبلغه الدعوة ، وإن قيل إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولا ، فلا يكونون من أولياء الله ، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين . فمن يتقرب إلى الله ، لا بفعل الحسنات ولا بفعل السيئات ، لم يكن من أولياء الله .

وكذلك المجانين والأطفال ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[4765]} : " رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يستيقظ " . وهذا الحديث قد رواه أهل ( السنن ) من حديث عائشة رضي الله عنها ، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول . ولكن الصبي المميز تصح عباداته ، ويثاب عليها عند جمهور العلماء ، وأما المجنون الذي رفع عنه القلم ، فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء ، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات ، بل لا يصلح هو ، عند عامة العقلاء ، لأمور الدنيا . كالتجارة والصناعة . فلا يصلح أن يكون بزازا ولا عطارا ولا حدادا ولا نجارا ، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء . فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته ، ولا غير ذلك من أقواله ، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي ، ولا ثواب ولا عقاب . بخلاف الصبي / المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع ، بالنص والإجماع ، وفي مواضع فيها نزاع وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل ، وامتنع أن يكون وليا لله ، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله ، لاسيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه ، أو نوعا من تصرف ، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع . فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعبّاد المشركين وأهل الكتاب ، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله ، إن لم يعلم ما يناقض ولاية الله ، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله ؟ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، ظاهرا وباطنا ، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر ، دون الحقيقة الباطنة ، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . أو يقول إن الأنبياء ضيقوا الطريق ، أو هم قدوة العامة دون الخاصة ، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية . فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان ، فضلا عن ولاية الله عز وجل . فمن احتج بما يصدر عن أحدهم ، من خرق عادة ، على ولايتهم ، كان أضل من اليهود والنصارى . وكذلك المجنون ، فإن كونه مجنونا يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادة ، التي هي شرط في ولاية الله . ومن كان يجن أحيانا ، ويفيق أحيانا ، إذا كان في حال إفاقته مؤمنا بالله ورسوله ، ويؤدي الفرائض ، ويجتنب المحارم ، فهذا إذا جن ، لم يكن جنونه مانعا من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه ، الذي أتى به في حال إفاقته ، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك . وكذلك من طرأ عليه الجنون ، بعد إيمانه وتقواه ، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه ، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله ، والقلم مرفوع عنه في حال جنونه .

فعلى هذا ، فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ، ولا يجتنب المحارم ، بل قد يأتي بما يناقض ذلك ، لم يكن لأحد أن يقول : هذا ولي الله ، فإن هذا إن لم يكن مجنونا ، بل كان تولها من غير جنون ، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ، ويفيق أخرى ، وهو لا يقوم بالفرائض بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر ؛ وإن كان مجنونا باطنا وظاهرا قد ارتفع عنه القلم . فهذا وإن لم يكن معاقبا عقوبة الكافرين ، فليس هو مستحقا لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل ، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي الله ، ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنا بالله متقيا ، كان له من ولاية الله بحسب ذلك ، وإن كان له في حال كفر أو نفاق ، أو كان كافرا أو منافقا ثم طرأ عليه الجنون ، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه ، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق .

فصل

وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات ، فلا يتميزونه بلباس دون لباس ، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ضفره ، إذا كان كلاهما مباحا ، كما قيل : كم من صديق في قباء ، وكم من زنديق في عباء . بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور ، فيوجدون في أهل القرآن ، وأهل العلم ، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف ، ويوجدون في التجار والصناع والزراع . وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم ( القراء ) فيدخل فيهم العلماء والنساك . ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء واسم ( الصوفية ) ، نسبة إلى لباس الصوف . هذا هو الصحيح ، وقد قيل : إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء وقيل : إلى ( صوفة بن أد ) قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك ، وقيل إلى أهل الصفاء ، وقيل إلى الصفوة ، وقيل إلى الصفة ، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى . وهذه أقوال ضعيفة فإنه لو كان كذلك لقيل : صفي ، أو صفائي ، أو صفي ، ولم يقل صوفي . وصار أيضا اسم الفقراء يعني به أهل السلوك ، وهذا عرف حادث وقد تنازع الناس : أيهما أفضل : مسمى الصوفي / أو مسمى الفقير ؟ ويتنازعون أيضا : أيهما أفضل ؟ الغنيّ الشاكر ، أو الفقير الصابر ؟ والصواب في هذا كله ما قاله تبارك وتعالى{[4766]} : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم } . وفي ( الصحيح ) {[4767]} عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه سئل : أي الناس أفضل ؟ قال : أتقاهم " . فدل الكتاب والسنة على أن أكرم الناس عند الله أتقاهم . وفي ( السنن ) {[4768]} عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أبيض ، و لا لأبيض على أسود ، إلا بالتقوى " . وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم قال{[4769]} : " إن الله تعالى أذهب عنكم عبّية{[4770]} الجاهلية وفخرها بالآباء . الناس رجلان : مؤمن تقي ، وفاجر شقي " .

فصل

وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين ، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ، مما نهى الله عنه . ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبّسها عليه لنقص درجته ولا يعرف أنها من الشيطان ، وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان / وما استكرهوا عليه ولم يؤثّّم النبي صلى الله عليه وسلم المجتهد المخطئ ، بل جعل له أجرا على اجتهاده ، وجعل خطأه مغفورا له . ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط ، لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي الله ، إلا أن يكون نبيا ، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه ، إلا أن يكون موافقا ، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق ، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله ، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه . والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف : طرفان ووسط . فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي الله وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه ، وسلم إليه جميع ما يفعله . ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع ، أخرجه عن ولاية الله بالكلية ، وإن كان مجتهدا مخطئا ، وخيار الأمور أوساطها . وهو ألا يجعل معصوما ولا مأثوما ، إذا كان مجتهدا مخطئا ، فلا يتبع في كل ما يقوله ، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده . والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله . وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ، ووافق قول آخرين ، لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف ، ويقول : هذا خالف الشرع !

وفي ( الصحيحين ) {[4771]} عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قد كان في الأمم قبلكم محدّثون ، فإن كان في أمتي أحد ، فعمر منهم " . وكان عمر يقول : " اقتربوا من أفواه المطيعين ، واسمعوا منهم ما يقولون ، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة " . والمحدّث الذي يأخذ عن قلبه أشياء ، ليس بمعصوم ، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور ، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ، ويحتجون عليه بالكتاب والسنة ، ويقررهم على منازعته ، ولا يقول لهم : أنا محدّث ملهم خاطب فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني . فأيّ من ادعى له أصحابه أنه ولي الله ، وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون . ومثل هذا من أضلّ الناس فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه وهو أمير المؤمنين وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقول ، هو وهم ، على الكتاب والسنة . وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم . ولذا قال الجنيد : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة . وقال أبو عثمان النيسابوري : من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة . لقوله تعالى{[4772]} : { وإن تطيعوه تهتدوا } . وقال أبو عمرو بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل .

فأولياء الله تعتبر بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن ، وبحقائق الإيمان الباطنة ، وشرائع الإسلام . فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان ؛أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين ، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق . أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان . أو يدعو غير الله ، فيستغيث بالمخلوقات ، ويتوجه إليها ، أو يسجد إلى ناحية شيخه ، ولا يخلص الدين لرب العالمين . أو يلابس الكلاب أو النيران ، أو يأوي إلى المزابل ، والمواضع النجسة ، أو يأوي إلى المقابر ، لاسيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين ، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار ، ويؤثر سماع مزامير الشيطان ، على سماع كلام الرحمن ، فهذه علامات أولياء الشيطان ، لا علامات أولياء الرحمان انتهى ملخصا / والكتاب مما يلزم الوقوف عليه ، ومطالعته بالحرف . ففيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره ، فرحم الله جامعه ، وجزاه خيرا .


[4752]:[9 / التوبة / 20 و 21].
[4753]:[41 / فصلت / 30].
[4754]:[57 / الحديد/ 12].
[4755]:أخرجه ابن ماجة في: 36- كتاب الفتن، 16- باب من ترجى له السلامة من الفتن، حديث رقم 3989 (طبعتنا).
[4756]:أخرجه البخاري في: 81- كتاب الرقاق، 38- باب التواضع، حديث رقم 2440.
[4757]:هذا الحديث لم أهتد إليه.
[4758]:[5 / المائدة / 18].
[4759]:[8 / الأنفال / 34].
[4760]:[10/ يونس / 62 و 63].
[4761]:[26 / الشعراء / 221 ـ 223].
[4762]:أخرجه البخاري في: 2- كتاب الإيمان، 24- باب علامة المنافق، حديث رقم 31. ومسلم في: 1- كتاب الإيمان، حديث رقم 107و108 (طبعتنا).
[4763]:أخرجه مسلم في: 1- كتاب الإيمان، حديث 109-110 (طبعتنا).
[4764]:أخرجه البخاري في: 81- كتاب الرقاق، 38- باب التواضع، حديث 2440.
[4765]:أخرجه البخاري في: 86- كتاب الحدود، 22- باب لا يرجم المجنون والمجنونة، وقال علي لعمر: أما علمت أن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ (في ترجمة الباب).
[4766]:[49 / الحجرات / 13].
[4767]:أخرجه البخاري في: 60- كتاب الأنبياء، 8- قول الله تعالى:{واتخذ الله إبراهيم خليلا}، حديث رقم 1587. وأخرجه مسلم في 43- كتاب الفضائل حديث رقم 168 (طبعتنا).
[4768]:لم أهتد إلى هذا الحديث في السنن ولكن وجدته في مسند الإمام أحمد بالصفحة رقم 411 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي).
[4769]:أخرجه أبو داود في: 40- كتاب الأدب، 111- باب في التفاخر بالأحساب، حديث رقم 5116.
[4770]:العبية بضم العين وكسرها. الكبر والفخر والنخوة. اهـ قاموس.
[4771]:أخرجه البخاري في: 62- كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 6- باب مناقب عمر بن الخطاب، أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه، حديث رقم 1628، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم في: 44- كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم 23- عن عائشة (طبعتنا).
[4772]:[24 / النور / 54].