غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ لَا تَبۡدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (64)

61

يحكى أن إبراهيم الخواص كان في البادية ومعه واحد يصحبه ، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له فجلس في موضعه وجاءه السباع ووقفوا بالقرب منه والمريد تسلق على رأس شجرة خوفاً منها والشيخ كان فارغاً من تلك السباع ، فلما أصبح زالت تلك الحالة . ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على بدنه فأظهر الجزع من تلك البعوضة فقال المريد : كيف تليق هذه الحالة بما قبلها ؟ فقال الشيخ : تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي ، فلما غاب ذلك الوارد فإنا أضعف خلق الله . ثم أخبر الله سبحانه عنهم بأن { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } فقيل : بشراهم في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } [ البقرة : 25 ] { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات } [ التوبة : 21 ] وقيل : إنها عبارة عن محبة الناس لهم وعن ذكرهم إياهم بالثناء الحسن . عن أبي ذر رضي الله عنه قلت : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس . قال : تلك عاجل بشرى المؤمن . والدليل العقلي عليه أن الكمال محبوب لذاته فكل من اتصف بصفة الكمال كان محبوباً لكل أحد إذا أنصفه ولم يحسده ، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب في معرفة الله معرضاً عما سواه . ونور الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حصل كان مخدوماً بالطبع لما سوى الله . وقيل : هي الرؤيا الصالحة . وعنه صلى الله عليه وسلم : «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة » وسبب تخصيص هذا العدد أن النبي صلى الله عليه وسلم استنبأ بعد أربعين سنة إلى كمال عمره - وهو ثلاث وستون سنة - وكان يأتيه الوحي أوّلاً بطريقة المنام ستة أشهر . ونسبة هذه المدة إلى ثلاث وعشرين سنة التي هي جميع مدة الوحي نسبة الواحد إلى ستة وأربعين . وأما أن الرؤيا الصادقة توجب لبشارة فلأنها دليل صفاء القلب واتصال النفس إلى عالم القدس والإطلاع على بعض ما هنالك . وعن عطاء : البشرى في الدنيا هي البشارة عند الموت { تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة } [ فصلت : 30 ] وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها إلى آخر أحوالهم في الجنة { لا تبديل لكلمات الله } لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده وقد مر مثله في «الأنعام » { ذلك } إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين ، وكلتا الجملتين اعتراض ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام . تقول : فلان ينطق بالحق والحق أبلج ، قال القاضي : { لا تبديل لكلمات الله } يدل على أنها قابلة للتبديل ، وكل ما يقبل العدم امتنع أن يكون قديماً ومحل المنع ظاهر فإن نفي شيء عن شيء لا يلزم منه إمكانه له كقول الموحد : لا شريك لله .

/خ70