قوله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } الآية . قال ابن عباس :نزلت في ثابت بن قيس ، وقوله للرجل الذي لم يفسح له : ابن فلانة ، يعيره بأمه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : من الذاكر فلانة ؟ فقال ثابت : أنا يا نبي الله ، فقال :انظر في وجوه القوم فنظر فقال : ما رأيت يا ثابت ؟ قال : رأيت أبيض وأحمر وأسود ، قال : فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى ، فنزلت في ثابت هذه الآية ، وفي الذي لم يتفسح : { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا } ( المجادلة-11 ) . وقال مقاتل : لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى علا ظهر الكعبة وأذن له ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم ، وقال الحارث بن هشام : أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً ، وقال سهيل ابن عمرو : إن يرد الله شيئاً يغيره . وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به رب السماء ، فنزل جبريل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا : فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والإزار بالفقراء ، فقال : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } يعني آدم وحواء أي إنكم متساوون في النسب . { وجعلناكم شعوباً } جمع شعب بفتح الشين ، وهي رؤوس القبائل مثل : ربيعة ومضر والأوس والخزرج ، سموا شعوباً لتشعبهم واجتماعهم ، كشعب أغصان الشجر ، والشعب من الأضداد يقال : شعب ، أي : جمع ، وشعب أي : فرق . { وقبائل } وهي دون الشعوب ، واحدتها قبيلة وهي كبكر من ربيعة وتميم من مضر ، ودون القبائل العمائر ، واحدتها عمارة ، بفتح العين ، وهم كشيبان من بكر ، ودارم من تميم ، ودون العمائر البطون ، واحدتها بطن ، وهم كبني غالب ولؤي من قريش ، ودون البطون الأفخاذ واحدتها فخذهم كبني هاشم وأمية من بني لؤي ، ثم الفصائل ، والعشائر واحدتها فصيلة وعشيرة ، بعد العشيرة حتى يوصف به . وقيل : الشعوب من العجم ، والقبائل العرب ، والأسباط من بني إسرائيل . وقال أبو روق : الشعوب من الذين لا يعتزون إلى أحد ، بل ينتسبون إلى المدائن والقرى ، والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم . { لتعارفوا } ليعرف بعضكم بعضاً في قرب النسب وبعده ، لا ليتفاخروا . ثم أخبر أن أرفعهم منزلة عند الله أتقاهم فقال : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } قال قتادة في هذه الآية : إن أكرم الكرم التقوى ، وألأم اللؤم الفجور .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه ، أنبأنا إبراهيم بن خزيم الشاسي ، حدثنا عبد الله بن حميد ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا سلام بن أبي مطيع ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الحسب المال ، والكرم التقوى " ، وقال ابن عباس : كرم الدنيا الغنى ، وكرم الآخرة التقوى . أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم ، أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حمويه ، أنبأنا إبراهيم بن خزيم ، حدثنا عبد الله بن حميد ، أنبأنا الضحاك بن مخلد ، عن موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه ، فلما خرج لم يجد مناخاً ، فنزل على أيدي الرجال ، ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها بآبائها ، إنما الناس رجلان بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله ، ثم تلا { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد هو ابن سلام ، حدثنا عبدة عن عبيد الله ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم ؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله . قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ قالوا : نعم قال : فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا كثير بن هشام ، حدثنا جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " .
وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا ؛ وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية ؛ وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم ، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم ، بالتطلع إلى الله وتقواه . .
بعد هذه المدارج إلى ذلك الأفق السامق ، يهتف بالإنسانية جميعها على اختلاف أجناسها وألوانها ، ليردها إلى أصل واحد ، وإلى ميزان واحد ، هو الذي تقوم به تلك الجماعة المختارة الصاعدة إلى ذلك الأفق السامق :
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم . إن الله عليم خبير ) . .
يا أيها الناس . يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا ، المتفرقون شعوبا وقبائل . إنكم من أصل واحد . فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا .
يا أيها الناس . والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم . . من ذكر وأنثى . . وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل . إنها ليست التناحر والخصام . إنما هي التعارف والوئام . فأما اختلاف الألسنة والألوان ، واختلاف الطباع والأخلاق ، واختلاف المواهب والاستعدادات ، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق ، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات . وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله . إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم ، ويعرف به فضل الناس : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) . . والكريم حقا هو الكريم عند الله . وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين : ( إن الله عليم خبير ) . .
وهكذا تسقط جميع الفوارق ، وتسقط جميع القيم ، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة ، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر ، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان .
وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض ؛ وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس . ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون : ألوهية الله للجميع ، وخلقهم من أصل واحد . كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته : لواء التقوى في ظل الله . وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس ، والعصبية للأرض ، والعصبية للقبيلة ، والعصبية للبيت . وكلها من الجاهلية وإليها ، تتزيا بشتى الأزياء ، وتسمى بشتى الأسماء . وكلها جاهلية عارية من الإسلام !
وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها ، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة : راية الله . . لا راية الوطنية . ولا راية القومية . ولا راية البيت . ولا راية الجنس . فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام .
قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " كلكم بنو آدم ، وآدم خلق من تراب . ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان " .
وقال[ صلى الله عليه وسلم ] عن العصبية الجاهلية : " دعوها فإنها منتنة " .
وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي . المجتمع الإنساني العالمي ، الذي تحاول البشرية
في خيالها المحلق أن تحقق لونا من ألوانه فتخفق ، لأنها لا تسلك إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم . . الطريق إلى الله . . ولأنها لا تقف تحت الراية الواحدة المجمعة . . راية الله . .
قوله تعالى : { من ذكر وأنثى } يحتمل أن يريد آدم وحواء . فكأنه قال : إنا خلقنا جميعكم من آدم وحواء . ويحتمل أن يريد الذكر والأنثى اسم الجنس . فكأنه قال : إنا خلقنا كل واحد منكم من ماء ذكر وما أنثى . وقصد هذه الآية التسوية بين الناس . ثم قال تعالى : { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } أي لئلا تفاخروا ويريد بعضكم أن يكون أكرم من بعض . فإن الطريق إلى الكرم غير هذا : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وروى بو بكرة : قيل يا رسول الله : من خير الناس ؟ قال : «من طال عمره وحسن عمله »{[10492]} . وفي حديث آخر من خير الناس ؟ قال : «آمرهم بالمعروف . وأنهاهم عن المنكر . وأوصلهم للرحم وأتقاهم »{[10493]} . وحكى الزهراوي أن سبب هذه الآية غضب الحارث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة{[10494]} ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس أن سببها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح عند النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن فلانة ، فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له : «إنك لا تفضل أحداً إلا في الدين والتقوى »{[10495]} فنزلت هذه الآية ونزل الأمر بالتفسح في ذلك أيضاً .
والشعوب : جمع شعب وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطاً بنسب واحد ، ويتلوه القبيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الأسرة والفصيلة : وهما قرابة الرجل الأدنون فمضر وربيعة وحمير شعوب ، وقيس وتميم ومذحج ومراد ، قبائل مشبهة بقبائل الرأس ، «لأنها قطع تقابلت » وقريش ومحارب وسليم عمارات ، وبنو قصي وبنو مخزوم بطون ، وبنو هاشم وبنو أمية أفخاذ ، وبنو عبد المطلب أسرة وفصيلة ، وقال ابن جبير : الشعوب : الأفخاذ . وروي عن ابن عباس الشعوب : البطون ، وهذا غير ما تمالأ{[10496]} عليه اللغويون . قال الثعلبي ، وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب ، والأسباط في بني إسرائيل . وأما الشعب الذي هو في همدان الذي ينسب إليه الشعبي فهو بطن يقال له الشعب .
قال القاضي أبو محمد : وقيل للأمم التي ليست بعرب : شعوبية ، نسبة إلى الشعوب ، وذلك أن تفصيل أنسابها خفي فلم يعرف أحد منهم إلا بأن يقال : فارسي تركي رومي زناتي . فعرفوا بشعوبهم وهي أعم ما يعبر به عن جماعتهم ، ويقال لهم الشعوبية بفتح الشين ، وهذا من تغيير النسب ، وقد قيل فيهم غير ما ذكرت ، وهذا أولى عندي .
وقرأ الأعمش : «لتتعارفوا » وقرأ عبد الله بن عباس : «لتعرفوا أن » ، على وزن تفعِلوا بكسر العين وفتح الألف من «أن » ، وبإعمال «لتعرفوا » فيها ، ويحتمل على هذه القراءة أن تكون اللام في قوله : «لتعرفوا » لام كي ، ويضطرب معنى الآية مع ذلك ، ويحتمل أن تكون لام الأمر ، وهو أجود في المعنى ، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفاً تقديره : الحق ، وإذا كانت لام كي فكأنه قال : يا أيها الناس أنتم سواء من حيث أنتم مخلوقون لأن تتعارفوا ولأن تعرفوا الحقائق ، وأما الشرف والكرم فهو بتقوى الله تعالى وسلامة القلوب .
وقرأ ابن مسعود : «لتعارفوا بينكم وخيركم عند الله أتقاكم » . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من سره أن يكون أكرم الناس ، فليتق الله ربه »{[10497]} . ثم نبه تعالى على الحذر بقوله : { إن الله عليم خبير } أي بالمتقي الذي يستحق رتبة الكرم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس إنا أنشأنا خلقكم من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء...
وقوله:"وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا "يقول: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبا فالمناسب النسب البعيد من لم ينسبه أهل الشعوب، وذلك إذا قيل للرجل من العرب: من أيّ شعب أنت؟ قال: أنا من مضر، أو من ربيعة. وأما أهل المناسبة القريبة أهل القبائل، وهم كتميم من مضر، وبكر من ربيعة، وأقرب القبائل الأفخاذ، وهما كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ونحو ذلك.. عن ابن عباس وَجَعلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجُمّاع، والقبائل: البطون...
عن سعيد بن جُبَير وَجَعلْناكُمْ شُعُوبا وَقَبائِلَ قال: الشعوب: الجمهور، والقبائل: الأفخاذ...
عن مجاهد، قوله: شُعُوبا قال: النسب البعيد. وَقَبائِلَ دون ذلك...
وقال بعضهم: الشعوب: الأفخاذ...
وقال آخرون: الشعوب: البطون، والقبائل: الأفخاذ... وقال آخرون: الشعوب: الأنساب...
وقوله: "لِتَعارَفُوا" يقول: ليعرف بعضكم بعضا في النسب، يقول تعالى ذكره: إنما جعلنا هذه الشعوب والقبائل لكم أيها الناس، ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقُربة تقرّبكم إلى الله، بل أكرمكم عند الله أتقاكم...
وقوله: "إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ" يقول تعالى ذكره: إن أكرمكم أيها الناس عند ربكم، أشدّكم اتقاء له بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا ولا أكثركم عشيرة...
وقوله: "إنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الناس ذو علم بأتقاكم عند الله وأكرمكم عنده، ذو خبرة بكم وبمصالحكم، وغير ذلك من أموركم، لا تخفى عليه خافية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى} يخرّج تأويل الآية إلى وجهين:
أحدهما: إنا خلقناكم جميعا من أصل واحد، وهو آدم حواء عليهما السلام فيكونون جميعا إخوة وأخوات، وليس لبعض الإخوة والأخوات الافتخار والفضيلة على بعض بالآباء والقبائل التي جُعلت لهم؛ إنما القبائل وما ذكر للتعارُف، والفضيلة والكرامة في ما ذكر: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} معا لو كان في ذلك فضيلة وافتخار. فالكل في النسبة إليهم على السواء، فلا معنى لانفراد البعض بالافتخار.
والثاني: يحتمل: إنا خلقنا كل واحد منكم من الملوك والأتباع والحر والعبد والذّكر والأنثى من ماء الذكر والأنثى، فليس لأحد على أحد من تلك الجهة التي يفتخرون بها الافتخار والفضيلة؛ إذ كانوا جميعا من نطفة مَدَرة مُنتِنة، تستقذرها الطباع. ذكر هذا ليتركوا التفاخر والتطاول بالأنساب والقبائل، والله أعلم...
ثم قوله تعالى: {لتعارفوا} أي جعل فيكم هذه القبائل ليعرف بعضكم بعضا بالنسبة إلى القبائل والأفخاذ!؛ فيقال: فلان التّيميّ، والهاشميّ، إن كل أحد لا يُعرف إلا بأبيه وجدّه...
ثم قال عز وجل: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} بيّن الله تعالى بما به تكون الفضيلة والكرامة، وهو التقوى لا في ما يرون، ويفتخرون بذلك، وهو النسبة إلى الآباء والقبائل...
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}. بدأ بذكر الخلق من ذَكَرٍ وَأنثى وهما آدم وحواء، ثم جعلهم شعوباً يعني متشعبين متفرقين في الأنساب كالأمم المتفرقة نحو العرب وفارس والروم والهند ونحوهم، ثم جعلهم قبائل وهم أخصّ من الشعوب نحو قبائل العرب وبيوتات العجم، ليتعارفوا بالنسبة، كما خالف بين خِلَقِهِمْ وصُوَرِهم ليعرف بعضهم بعضاً. ودل بذلك على أنه لا فضل لبعضهم على بعض من جهة النسب، إذ كانوا جميعاً من أب وأم واحدة؛ ولأن الفضل لا يستحق بعمل غيره، فبيّن الله تعالى ذلك لنا لئلا يفخر بعضنا على بعض بالنسب، وأكّد ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}، فأبان أن الفضيلة والرفعة إنما تُستحق بتقوى الله وطاعته...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
فبين أن الشعوب والقبائل للتعارف لا للافتخار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أن الحكمة التي من أجلها رتبكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض. فلا يعتزى إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب. ثم بين الخصلة التي بها يفضل الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله تعالى فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم}...
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}...
فذلك إشارة إلى أن الجنس واحد، فإن كل واحد خلق كما خلق الآخر من أب وأم...
. إذا جاء الشرف الديني الإلهي، لا يبقى لأمر هناك اعتبار، لا لنسب ولا لنشب، ألا ترى أن الكافر وإن كان من أعلى الناس نسبا، والمؤمن وإن كان من أدونهم نسبا، لا يقاس أحدهما بالآخر، وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا يصلح للمناصب الدينية كالقضاء والشهادة كل شريف ووضيع إذا كان دينا عالما صالحا، ولا يصلح لشيء منها فاسق، وإن كان قرشي النسب، وقاروني النشب...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أي: إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها الناس} أي كافة المؤمن وغيره {إنا} على عظمتنا وقدرتنا {خلقناكم} أي أوجدناكم عن العدم على ما أنتم عليه من المقادير في صوركم وما أنتم عليه من التشعب الذي يفوت الحصر، وأخرجنا كل واحد منكم {من ذكر} هو المقصود بالعزم والقوة {وأنثى} هي موضع الضعف والراحة، لا مزية لأحد منكم في ذلك على آخر، ولا فخر في نسب...
. {وجعلناكم} أي بعظمتنا {شعوباً} تتشعب من أصل واحد...
{لتعارفوا} أي ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له، لا لتواصفوا وتفاخروا...
. {إن أكرمكم} أيها المتفاخرون {عند الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أكرمكم بكرمه ولا كمال لأحد سواه {أتقاكم} فذلك هو الذكر الذي يصح أصله باقتدائه بأبيه آدم عليه السلام فلم يمل إلى الأنوثة وإن كان أدناكم نسباً ولذلك أكده...
. {إن الله} أي المحيط علماً وقدرة {عليم} أي بالغ العلم بالظواهر {خبير} محيط العلم بالبواطن والسرائر أيضاً...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى أنه خلق بني آدم، من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله [تعالى] بث منهما رجالاً كثيرا ونساء، وفرقهم، وجعلهم شعوبًا وقبائل أي: قبائل صغارًا وكبارًا، وذلك لأجل أن يتعارفوا، فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه، لم يحصل بذلك، التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون، والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوبًا وقبائل، لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها، مما يتوقف على التعارف، ولحوق الأنساب، ولكن الكرم بالتقوى، فأكرمهم عند الله، أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقومًا، ولا أشرفهم نسبًا، ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله، ظاهرًا وباطنًا، ممن يقوم بذلك، ظاهرًا لا باطنًا، فيجازي كلا، بما يستحق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد هذه النداءات المتكررة للذين آمنوا؛ وأخذهم إلى ذلك الأفق السامي الوضيء من الآداب النفسية والاجتماعية؛ وإقامة تلك السياجات القوية من الضمانات حول كرامتهم وحريتهم وحرماتهم، وضمان هذا كله بتلك الحساسية التي يثيرها في أرواحهم، بالتطلع إلى الله وتقواه..
بعد هذه المدارج إلى ذلك الأفق السامق، يهتف بالإنسانية جميعها على اختلاف أجناسها وألوانها، ليردها إلى أصل واحد، وإلى ميزان واحد، هو الذي تقوم به تلك الجماعة المختارة الصاعدة إلى ذلك الأفق السامق:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير)..
يا أيها الناس. يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل. إنكم من أصل واحد. فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا.
يا أيها الناس. والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم.. من ذكر وأنثى.. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل. إنها ليست التناحر والخصام. إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله. إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).. والكريم حقا هو الكريم عند الله. وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين: (إن الله عليم خبير)..
وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان.
وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض؛ وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس. ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون: ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت. وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء. وكلها جاهلية عارية من الإسلام!
وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة: راية الله.. لا راية الوطنية. ولا راية القومية. ولا راية البيت. ولا راية الجنس. فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام.
قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: "كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب. ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان".
وقال [صلى الله عليه وسلم] عن العصبية الجاهلية: " دعوها فإنها منتنة".
وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي. المجتمع الإنساني العالمي، الذي تحاول البشرية
في خيالها المحلق أن تحقق لونا من ألوانه فتخفق، لأنها لا تسلك إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم.. الطريق إلى الله.. ولأنها لا تقف تحت الراية الواحدة المجمعة.. راية الله..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من واجبات المعاملات إلى ما يجب أن يراعيه المرء في نفسه، وأعيد النداء للاهتمام بهذا الغرض، إذ كان إعجابُ كل قبيلة بفضائلها وتفضيل قومها على غيرهم فاشياً في الجاهلية... فكان ذلك يجرّ إلى الإحن والتقاتل وتتفرع عليه السخرية واللمز والنبز والظن والتجسس والاغتياب الواردة فيها الآيات السابقة، فجاءت هذه الآية لتأديب المؤمنين على اجتناب ما كان في الجاهلية لاقتلاع جذوره الباقية في النفوس بسبب اختلاط طبقات المؤمنين بعد سنة الوفود إذ كثر الداخلون في الإسلام.
فعن أبي داود أنه روى في كتابه « المراسيل» عن الزهري قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة (من الأنصار) أن يزوجوا أبا هند (مولَى بني بياضة قيل اسمه يَسار) امرأةً منهم فقالوا: تزوج بناتنا موالينَا، فأنزل الله تعالى: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا} الآية. وروي غير ذلك في سبب نزولها.
ونُودوا بعنوان {الناس} دون المؤمنين رعيا للمناسبة بين هذا العنوان وبين ما صُدّر به الغرض من التذكير بأن أصلهم واحد، أي أنهم في الخلقة سواء ليتوسل بذلك إلى أن التفاضل والتفاخر إنما يكون بالفضائل وإلى أن التفاضل في الإسلام بزيادة التقوى فقيل: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}. فمن أقدم على القول بأن هذه الآية نزلت في مكة دون بقية السورة اغترّ بأن غالِب الخطاب ب {يا أيها الناس} إنما كان في المكي.
والمراد بالذَكَر والأنثى: آدم وحواء أبَوَا البشر، بقرينة قوله {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم بنو آدم وآدم من تراب " كما سيأتي قريباً. فيكون تنوين (ذكر وأنثى) لأنهما وصفان لموصوف فقرر، أي من أب ذكر ومن أم أنثى.
ويجوز أن يراد ب {ذكر وأنثى} صنف الذكر والأنثى، أي كل واحد مكون من صنف الذكر والأنثى...
واقُتصر على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما تحتها داخل بطريق لحن الخطاب.
وتجاوز القرآن عن ذكر الأمم جرياً على المتداول في كلام العرب في تقسيم طبقات الأنساب إذ لا يدركون إلا أنسابهم.
وجعلت علة جَعْل الله إياه شعوباً وقبائل وحكمتهُ من هذا الجَعل أن يتعارف الناس، أي يعرِف بعضهم بعضاً.
والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجاً إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون والبطون مع العمائِر، والعمائِر مع القبائل، والقبائل مع الشعوب لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها.
فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظاماً محكماً لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل ثم بينه وبين جماعات أكثر. وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم.
والمقصود: أنكم حرَّفتم الفطرة وقلبتم الوضع فجعلتم اختلاف الشعوب والقبائل بِسبب تناكر وتطاحن وعدوان...
وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة.
ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يَغِين على نُورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتَجسِس والغيبة، ذكَّرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عوناً على تبصرهم في حالهم، ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عَمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعتْه الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله: {لتعارفوا} ثم وأتبعه بقوله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26].
والخبر في قوله: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والمزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين. والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فتلك الجملة تتنزل من جملة {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} منزلة المقصد من المقدمة والنتيجةِ من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان.
وأما جملة {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} فهي معترضة بين الجملتين الأخريين.
والمقصود من اعتراضها: إدماج تأديب آخر من واجب بث التعارف والتواصل بين القبائل والأمم وأن ذلك مراد الله منهم.
ومن معنى الآية ما خطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إذ قال: " يا أيها الناس ألاَ إن ربكم واحد وأن أباكم واحد لا فضل لعَربي على عجمي ولا لِعجمي على عربي ولا لأسودَ على أحمرَ ولا لأحمرَ على أسود إلا بالتقوى"...
وجملة {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم} مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإنما أخّرت في النظم عن جملة إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة لأنهم لما تساوَوا في أصل الخلقة من أب واحد وأم واحدة كان الشأن أن لا يفضُل بعضهم بعضاً إلا بالكمال النفساني وهو الكمال الذي يرضاه الله لهم والذي جعل التقوى وسيلته ولذلك ناط التفاضل في الكرم ب {عند الله} إذ لا اعتداد بكرم لا يعبأ الله به.
والمراد بالأكرم: الأنْفَس والأشَرف، كما تقدم بيانه في قوله: {إني ألقي إلى كتاب كريم} في سورة [النمل: 29].
والأتقى: الأفضل في التقوى وهو اسم تفضيل صيغ من اتَّقى على غير قياس.
وجملة {إن الله عليم خبير} تعليل لمضمون {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أي إنما كان أكرمكم أتقاكم لأن الله عليم بالكرامة الحق وأنتم جعلتم المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه وغير ذلك الكرامة التي هي التقوى خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة فلذلك الأكرم هو الأتقى، وهذا كقوله: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 32] أي هو أعلم بمراتبكم في التقوى، أي التي هي التزكية الحق. ومن هذا الباب قوله: {الله أعمل حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124].
علم أن قوله: {إن أكرمكم عند الله اتقاكم} لا ينافي أن تكون للناس مكارم أخرى في المرتبة الثانية بعد التقوى مما شأنه أن يكون له أثر تزكية في النفوس مثل حسن التربية ونقاء النسب والعرافة في العلم والحضارة وحسن السمعة في الأمم وفي الفصائل، وفي العائلات، وكذلك بحسب ما خلده التاريخ الصادق للأمم والأفراد فما يترك آثاراً لأفرادها وخلالاً في سلائلها قال النبي صلى الله عليه وسلم « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»
فإن في خلق الأنباء آثاراً من طباع الآباء الأدنَيْن أو الأعَليْن تكون مهيئة نفوسهم للكمال أو ضده وأن للتهذيب والتربية آثاراً جمّة في تكميل النفوس أو تقصيرها وللعوائد والتقاليد آثارها في الرفعة والضعة وكل هذه وسائل لإعداد النفوس إلى الكمال والزكاء الحقيقي الذي تخططه التقوى.
وجملة {إن الله عليم خبير} تذييل، وهو كناية عن الأمر بتزكية نواياهم في معاملاتهم وما يريدون من التقوى بأن الله يعلم ما في نفوسهم ويحاسبهم عليه.