75- ما كان ينبغي لكم أيها المؤمنون أن تطمعوا في أن يُؤمن اليهود بدينكم وينقادوا لكم وقد اجتمعت في مختلف فرقهم أشتات الرذائل التي تباعد بينهم وبين الإيمان بالحق ، فقد كان فريقا منهم - وهم الأحبار - يسمعون كلام الله في التوراة ويفهمونه حق الفهم ثم يتعمدون تحريفه وهم يعلمون أنه الحق ، وأن كتب الله المنزلة لا يجوز تغييرها .
قوله تعالى : { أفتطمعون } . أفترجون يريد : محمداً وأصحابه .
قوله تعالى : { أن يؤمنوا لكم } . تصدقكم اليهود بما تخبرونهم به .
قوله تعالى : { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } . يعني التوراة .
قوله تعالى : { ثم يحرفونه } . ويغيرون ما فيها من الأحكام .
قوله تعالى : { من بعد ما عقلوه } . علموه كما غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم .
قوله تعالى : { وهم يعلمون } . أنهم كاذبون ، هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة والسدي وجماعة ، وقال ابن عباس ومقاتل : نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه ، وذلك أنهم لما رجعوا بعد ما سمعوا كلام الله إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم ، وأما الصادقون منهم فأدوا كما سمعوا ، وقالت طائفة منهم : سمعنا الله يقول في آخر كلامه : إن استطعتم أن تفعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا ، فهذا تحريفهم وهم يعلمون أنه الحق .
وبهذا يختم هذا الشطر من الجولة مع بني إسرائيل في تاريخهم الحافل بالكفر والتكذيب ، والالتواء واللجاجة ، والكيد والدس ، والقسوة والجدب ، والتمرد والفسوق . .
( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ؟ أفلا تعقلون ؟ أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ؟ ) . .
كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صور الله بها قلوب بني إسرائيل في نهاية الدرس الماضي . صورة الحجارة الصلدة التي لا تنض منها قطرة ، ولا يلين لها ممس ، ولا تنبض فيها حياة . . وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية . . وفي ظل هذا التصوير ، وظل هذا الإيحاء ، يلتفت السياق إلى المؤمنين ، الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل ، ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان ، وأن يفيضوا عليها النور . . يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة ، وبالقنوط من الطمع :
( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم ؟ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ؟ ) . .
إلا أنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء . فللإيمان طبيعة أخرى ، واستعداد آخر . إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة ، مفتحة المنافذ للأضواء ، مستعدة للاتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء . وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى . هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تحرفه من بعد تعقله . تحرفه عن علم وإصرار . فالطبيعة المؤمنة طبيعة مستقيمة ، تتحرج من هذا التحريف والالتواء .
والفريق المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم هم الأحبار والربانيون ، الذين يسمعون كلام الله المنزل على نبيهم موسى في التوراة ثم يحرفونه عن مواضعه ، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي تخرج به عن دائرته . لا عن جهل بحقيقة مواضعه ، ولكن عن تعمد للتحريف ، وعلم بهذا التحريف . يدفعهم الهوى ، وتقودهم المصلحة ، ويحدوهم الغرض المريض ! فمن باب أولى ينحرفون عن الحق الذي جاء به محمد [ ص ] وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى - عليه السلام - ومن باب أولى - وهذا خراب ذممهم ، وهذا إصرارهم على الباطل وهم يعلمون بطلانه - أن يعارضوا دعوة الإسلام ، ويروغوا منها ويختلقوا عليها الأكاذيب !
{ أفتطمعون } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { أن يؤمنوا لكم } أن يصدقوكم ، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم . يعني اليهود . { وقد كان فريق منهم } طائفة من أسلافهم { يسمعون كلام الله } يعني التوراة . { ثم يحرفونه } كنعت محمد صلى الله عليه وسلم ، وآية الرجم . أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون . وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله تعالى حين كلم موسى عليه السلام بالطور ، ثم قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا . { من بعد ما عقلوه } أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة . { وهم يعلمون } أنهم مفترون مبطلون ، ومعنى الآية : أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة ، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم ، وأنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك .
ّ{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ( 75 )
وقوله تعالى : { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } الآية ، الخطاب للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم ، ومعنى هذا الخطاب : التقرير( {[830]} ) على أمر فيه بعد ، إذ قد سلفت لأسلاف هؤلاء اليهود أفاعيل سوء ، وهؤلاء على ذلك السنن ، والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالحزب ، وقال مجاهد والسدي : عني بالفريق هنا الأحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل المراد كل من حرف في التوراة شيئاً حكماً أو غيره كفعلهم في آية الرجم ونحوها ، وقال ابن إسحاق والربيع : عُني السبعون الذين سمعوا مع موسى صلى الله عليه وسلم ثم بدلوا بعد ذلك .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفي هذا القول ضعف ، ومن قال إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ وأذهب فضيلة موسى عليه السلام واختصاصه بالتكليم ، وقرأ الأعمش ، «كَلِمَ الله » ، وتحريف الشيء إحالته من حال إلى حال( {[831]} ) ، وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باقٍ ، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم وأن ذلك ممكنٌ في التوراة لأنهم استحفظوها ، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه .