قوله تعالى : { ومن أعرض عن ذكري } يعني : القرآن ، فلم يؤمن به ولم يتبعه ، { فإن له معيشة ضنكاً } ، ضيقاً .
روي عن ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري أنهم قالوا : هو عذاب القبر . قال أبو سعيد : يضغط حتى تختلف أضلاعه . وفي بعض المسانيد مرفوعاً يلتئم عليه القبر ، حتى تختلف أضلاعه ، فلا يزال يعذب حتى يبعث .
وقال الحسن : هو الزقوم والضريع والغسلين في النار . وقال عكرمة : هو الحرام . وقال الضحاك : هو الكسب الخبيث . وعن ابن عباس قال : الشقاء . وروى عنه أنه قال : كل مال أعطى العبد قل أم كثر فلم يتق فيه فلا خير فيه ، وهو : الضنك في المعيشة ، وإن أقواماً أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكاً ، وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف عليهم فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله . قال سعيد بن جبير : يسلبه القناعة حتى لا يشبع . { ونحشره يوم القيامة أعمى } قال ابن عباس : أعمى البصر . وقال مجاهد أعمى عن الحجة .
( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا )والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة ، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع . إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه . ضنك الحيرة والقلق والشك . ضنك الحرص والحذر : الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت . ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت . وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله . وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . . إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة ، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان .
( ومن أعرض عن ذكري )وانقطع عن الاتصال بي ( فإن له معيشة ضنكا ) . .
( ونحشره يوم القيامة أعمى ) . . وذلك ضلال من نوع ضلاله في الدنيا . وذلك جزاء على إعراضه عن الذكر في الأولى .
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي } أي : خالف أمري ، وما أنزلته على رسولي ، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } أي : في الدنيا ، فلا طمأنينة له ، ولا انشراح لصدره ، بل صدره [ ضيق ]{[19538]} حَرَج لضلاله ، وإن تَنَعَّم ظاهره ، ولبس ما شاء وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى ، فهو في قلق وحيرة وشك ، فلا يزال في ريبة يتردد . فهذا من ضنك المعيشة .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : الشقاء .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : كل مال{[19539]} أعطيته عبدًا من عبادي ، قل أو كثر ، لا يتقيني فيه ، فلا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة . ويقال : إن قومًا ضُلالا أعرضوا عن الحق ، وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ؛ [ و ]{[19540]} ذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفًا لهم معايشهم ، من سوء ظنّهم بالله والتكذيب ، فإذا كان العبد يكذب بالله ، ويسيء الظن به والثقة به اشتدت عليه معيشته ، فذلك الضنك .
وقال الضحاك : هو العمل السيئ ، والرزق الخبيث ، وكذا قال عكرمة ، ومالك بن دينار .
وقال سفيان بن عيينة ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد في قوله : { مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : يضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه فيه . قال أبو حاتم الرازي : النعمان بن أبي عياش{[19541]} يكنى أبا سلمة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لهيعة ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : " ضمة القبر " الموقوف أصح . {[19542]}
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج أبو السمح ، عن ابن حُجَيْرة - اسمه عبد الرحمن - عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المؤمن في قبره في روضة خضراء ، ويرحب له في قبره سبعون ذراعا ، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر ، أتدرون فيم أنزلت هذه الآية : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } ؟ أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده ، إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تِنِّينًا ، أتدرون ما التنين ؟ تسعة وتسعون حية ، لكل حية سبعة رؤوس ، ينفخون في جسمه ، ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون " {[19543]} .
وقال البزار : حدثنا محمد بن يحيى الأزدي ، حدثنا محمد بن عمرو{[19544]} حدثنا هشام بن سعد ، عن سعيد بن أبي هلال ، [ عن أبي حُجَيْرة ]{[19545]} عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : " المعيشة الضنك الذي قال الله تعالى : أنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ، ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة " {[19546]} .
وقال أيضًا : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : " عذاب القبر " . إسناد جيد{[19547]} .
وقوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } قال مجاهد ، وأبو صالح ، والسدي : لا حجة له .
{ من أعرض } عن ذكر الله وكفر به { فإن له معيشة ضنكاً } والضنك النكد الشاق من العيش أو المنازل أو مواطن الحرب ونحو هذا ، ومنه قول عنترة وإن نزلوا بضنك أنزل{[8172]} ، وصف به الواحد والجمع والمؤنث ، وقرأت فرقة : [ ضنكى ]{[8173]} ، أتبعت بالصفة لفظة " المعيشة " . واختلف الناس في المعيشة الضنك ، متى هو الوقت الذي هي فيه فقالت فرقة : هي الدنيا ، ومعنى ذلك عندهم أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيب بأمور الدنيا والرغبة واتساع صفاء العيش بذلك ما يصير معيشيته ضنكا ، وقالت فرقة : هي ضنك بأكل الحرام ، وقالت فرقة : بل المعيشة الضنك هي في البرزخ ، وهو أن يرى مقعده من النار غدوا ورواحا ، وبالجملة عذاب القبر على ما روي فيه . ذلك من وعيد لهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن أعرض عن ذكري} يعني: عن الإيمان بالقرآن...
{فإن له معيشة ضنكا} يعني: معيشة سوء لأنها في معاصي الله عز وجل. والضنك:الضيق.
{ونحشره يوم القيامة أعمى} عن حجته.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْري" الذي أذكره به فتولى عنه ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه، "فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا "يقول: فإن له معيشة ضيقة، والضنك من المنازل والأماكن والمعايش: الشديد، يقال: هذا منزل ضنك: إذا كان ضيقا... عن ابن عباس، قوله: "فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا" يقول: الشقاء...
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المعرضين عن ذكره العيشة الضنك، والحال التي جعلهم فيها؛
فقال بعضهم: جعل ذلك لهم في الآخرة في جهنم، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم...
وقال آخرون: بل عنى بذلك: فإن له معيشة في الدنيا حراما. قال: ووصف الله جلّ وعزّ معيشتهم بالضنك، لأن الحرام وإن اتسع فهو ضنك... عن الضحاك "فإنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا" قال: الكسب الخبيث...
عن الضحاك، في قوله: "فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا" قال: العمل الخبيث، والرزق السيئ.
وقال آخرون ممن قال عنى أن لهؤلاء القوم المعيشة الضنك في الدنيا، إنما قيل لها ضنك وإن كانت واسعة، لأنهم ينفقون ما ينفقون من أموالهم على تكذيب منهم بالخلف من الله، وإياس من فضل الله، وسوء ظنّ منهم بربهم، فتشتدّ لذلك عليهم معيشتهم وتضيق... عن ابن عباس، قوله: "وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فإنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا" يقول: كلّ مال أعطيته عبدا من عبادي قلّ أو كثر، لا يتقيني فيه، لا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة. ويقال: إن قوما ضُلاّلاً أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين، فكانت معيشتهم ضنكا، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عزّ وجلّ ليس بمخلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله، والتكذيب به، فإذا كان العبد يكذّب بالله، ويسيء الظنّ به، اشتدّت عليه معيشته، فذلك الضنك.
وقال آخرون: بل عني بذلك: أن ذلك لهم في البرزخ، وهو عذاب القبر...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هو عذاب القبر الذي:
حدثنا به أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن درّاج، عن ابن حُجَيرة عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتَدْرُونَ فِيمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: "فإنّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكا وَنحْشُرُهُ يَوْمَ القيامَةِ أعْمَى"، أتَدْرُونَ ما المَعِيشَةً الضّنْكُ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «عَذَابُ الكافرِ في قَبْرِهِ، والّذِي نَفْسي بيَدِهِ، إنّه لَيُسَلّطُ عَلَيْهِ تَسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنّينا، أتَدْرُونَ ما التّنِينُ: تسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيّة، لكلّ حَيّة سَبْعَةُ رُؤُوسٍ، يَنْفُخُونَ في جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ ويَخْدِشُونَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ». وإن الله تبارك وتعالى أتبع ذلك بقوله: "وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى" فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الآخرة، لأن ذلك لو كان في الآخرة لم يكن لقوله "وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى" معنى مفهوما، لأن ذلك إن لم يكن تقدّمه عذاب لهم قبل الآخرة، حتى يكون الذي في الآخرة أشدّ منه، بطل معنى قوله "وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أشَدّ وأبْقَى". فإذ كان ذلك كذلك، فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا، أو في قبورهم قبل البعث، إذ كان لا وجه لأن تكون في الآخرة لما قد بيّنا، فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا، فقد يجب أن يكون كلّ من أعرض عن ذكر الله من الكفار، فإن معيشته فيها ضنك، وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله تبارك وتعالى، القائلين له المؤمنين في ذلك، ما يدلّ على أن ذلك ليس كذلك، وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صحّ الوجه الثالث، وهو أن ذلك في البرزخ.
وقوله: "ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى" اختلف أهل التأويل في صفة العمى الذي ذكر الله في هذه الآية، أنه يبعث هؤلاء الكفار يوم القيامة به؛
فقال بعضهم: ذلك عمى عن الحجة، لا عمى عن البصر...
وَقِيلَ: يُحْشَرُ أَعْمَى الْبَصَر... وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُحْشَرُ أَعْمَى عَنِ الْحُجَّةِ وَرُؤْيَةِ الشَّيْءِ كَمَا أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَعَمَّ وَلَمْ يُخَصِّصْ.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الكافر إذا أعرض عن ذكره بالكلية فله المعيشة الضنك في الدنيا، وفي القبر، وفي النار، وبالقلب من حيث وحشة الكفر، وبالوقتِ من حيث انغلاق الأمور...ومَنْ أعرض عن الاستئناس بذكره انفتحت عليه وساوسُ الشيطان وهواجسُ النَّفس بما يوجِب له وحشةَ الضمير، وانسداد أبواب الراحة والبسط...
في الخبر:"مَنْ كان بحالةٍ لَقِيَ اللَّهِ بها" فَمَنْ كان في الدنيا أعمى القلب يُحْشَرُ على حالته، ومَنْ يَعِشْ على جهلٍ يحشر على جهلٍ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الضنك: مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث. وقرىء: «ضنكى» على فعلى. ومعنى ذلك: أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته؛ فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح، وسهولة، فيعيش عيشاً رافعاً؛ كما قال عز وجل: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً} [النحل: 97] والمعرض عن الدين، مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشه ضنك وحاله مظلمة، كما قال بعض المتصوّفة: لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوّش عليه رزقه.
{ومن أعرض عن ذكري} والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى...
{فإن له معيشة ضنكا} فالضنك أصله الضيق والشدة وهو مصدر ثم يوصف به فيقال: منزل ضنك، وعيش ضنك، فكأنه قال: معيشة ذات ضنك، واعلم أن هذا الضيق المتوعد به إما أن يكون في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين أو في كل ذلك أو أكثره...
{ونحشره يوم القيامة أعمى}...المراد من حشره أعمى أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيرا بل يبقى واقفا متحيرا كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء،
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" ومن أعرض عن ذكري "أي ديني، وتلاوة كتابي، والعمل بما فيه...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه وماله من الرغد وطيب الحياة في معاشه ومعاده اخبر عن حال من أعرض عن الهدى ولم يتبعه، فقال: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} أي: عن الذكر الذي أنزلته...والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا، قال تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} [الأنبياء: 50]...
{فإن له معيشة ضنكا} [طه: 124] فسره غير واحد من السلف بعذاب القبر، وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر، ولهذا قال: {ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 124. 126] أي تترك في العذاب، كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار...
وفي «الصحيح» عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} [إبراهيم: 27] قال: «نزلت في عذاب القبر» والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر...
اختلف فيه: هل هو من عمي البصيرة، أو من عمي البصر؟ والذين قالوا: هو من عمي البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله {اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} [مريم: 38] وقوله: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22]...
والذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا: السياق لا يدل إلا عليه. لقوله تعالى: {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} [طه: 125] وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ انه كان في الدنيا في عمى عن الحق، فكيف يقول: وقد كنت بصيرا؟ وكيف يجاب بقوله: {كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126] بل هذا الجواب فيه تنبيه على انه من عمي البصر، وانه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وعميت عنه بصيرته: أعمى الله بصره يوم القيامة. وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمي بصيرته عمي بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره تركه في العذاب...
والذين قالوا: المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم: أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حجة هم عُمي عنها، بل هم عمي عن الهدى، كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه.
وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا، ويقر بما كان يجحده في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وبعض المفسرين، يرى أن المعيشة الضنك، عامة في دار الدنيا، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه، من الهموم والغموم والآلام، التي هي عذاب معجل، وفي دار البرزخ، وفي الدار الآخرة، لإطلاق المعيشة الضنك، وعدم تقييدها. {وَنَحْشُرُهُ} أي: هذا المعرض عن ذكر ربه {يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} البصر على الصحيح، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه. ضنك الحيرة والقلق والشك. ضنك الحرص والحذر: الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت. ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت. وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله. وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان...
(ومن أعرض عن ذكري) وانقطع عن الاتصال بي (فإن له معيشة ضنكا).. (ونحشره يوم القيامة أعمى).. وذلك ضلال من نوع ضلاله في الدنيا. وذلك جزاء على إعراضه عن الذكر في الأولى.
{معيشة ضنكا.. (124)} (طه): الضنك هو الضيق الشديد الذي تحاول أن تفلت منه هنا أو هناك فلا تستطيع، والمعيشة الضنك هذه تأتي من أعرض عن الله، لأن من آمن بإله إن عزت عليه الأسباب لا تضيق به الحياة أبدا؛ لأنه يعلم أن له ربا يخرجه مما هو فيه. أما غير المؤمن فحينما تضيق به الأسباب وتعجزه لا يجد من يلجأ إليه فينتحر. المؤمن يقول: لي رب يرزقني ويفرج كربي، كما يقول عز وجل: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28)} (الرعد).
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} الذي أنزلته عليه، فلم يحاول أن يتفهمه ويعيه ويلتزمه كخط للحياة، ولم يحسب حساب الله في كل صغيرة وكبيرة من عمله...
{فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أي ضيقة، لأنه لا يحصل على شيء منها إلا وتطلعت نفسه إلى شيء آخر، فيشعر بالقلق والحسرة إذا لم يحصل عليه، فإذا تحقق له ذلك انتقل إلى شيء آخر، فهو محاصر بحاجاته وتمنياته في ما يخلد فيه إلى الأرض، فلا يتجاوزها إلى الآفاق الرحبة التي ينطلق فيها إلى الله سبحانه... {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى} لا يهتدي الطريق إلى الجنة، لأن الطريق مسدود أمامه، بما وضعه من حواجز أمام نفسه في طريق الوصول إليها من خلال أعماله..