ثم ذكر وعيد من أعرض عن ذكره ظاهر الكلام يدل على أن الذكر ههنا هو الهدى المذكور لأن قوله : { ومن أعرض عن ذكري } في مقابلة قوله : { فمن اتبع هداي } . وقد مر في أول " البقرة " أن المراد به الشريعة والبيان . وقال كثير من المفسرين : إن الذكر هو القرآن وسائر كتب الله وفيه نوع تخصيص . والضنك الضيق مصدر وصف به . ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث . يقال : منزل ضنك ومعيشة ضنك كأنه قيل : ذات ضنك . قالت الحكماء : عيش الدنيا ضنك ضيق لانقضائه وقصر مدّته وكثرة شوائبه ، وإنما العيش الواسع عيش الآخرة . وهذا الضيق المتوعد به إما في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة مال إلى كل طائفة . أما لأول فلأن المسلم الراضي بقضاء ربه معه من التسليم والتوكل والقناعة ما يعيش به عيشاً رافغاً . والمعرض عن الدين متول عليه الحرص والشح فلا ينفك عن الانقباض ولطموح ما ليس يناله من الفراغ والرفاغ الكلي فلا هم له إلا هم الدنيا . عن ابن عباس : المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها ، ومن الكفرة من ضربت عليه الذلة والمسكنة . وسئل الشبلي عن قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية " فقال : أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأيّ معيشة أضيق وأشد من أن يرد الأنسان إلى نفسه . قلت : التحقيق أن بعض البليات من العقوبات فطلب العافية منها لازم ، وبعضها لمزيد الدرجات ولكن الإنسان خلق ضعيفاً فكثيراً ما يؤل أمر المبتلي إلى الجزع والفزع فيحرم الثواب فتطلب العافية من هذا القسم أيضاً خوفاً من المآل .
وأما الثاني فعن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه : " عذاب القبر للكافر " وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الله المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه . وأما الثالث فعن الحسن وقتادة والكلبي أنه ضيق في الآخرة وفي جهنم ، وأ طعامهم فيها الضريع والزقوم والحميم والغسلين ، فلا يموتون فيها ولا يحيون . أما قوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى } كقوله : { ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً } [ طه : 102 ] فيمن فسر الزرق بالعمى { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } [ الإسراء : 97 ] { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } [ الإسراء : 72 ] قال الجبائي : أراد أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيراً كالأعمى . وعن مجاهد والضحاك ومقاتل أنه أراد أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال القاضي : هذا القول ضعيف لأنه لا بد في القيامة أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه بتمييزه لهم الحق من الباطل ، ومن هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً باعتبار ما كان ، لكن قوله : { وقد كنت بصيراً } ينافيه . قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا ، فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما في الدنيا . قال : والتحقيق في الجواب عن الاعتراض هو أن النفوس الجاهلة في الدنيا إذا فارقت أبدانها تبقى على جهالتها في الآخرة فتصير تلك الجهالة سبباً لأعظم الآلام الروحانية . وأقول على القاضي : يحتمل أن يكون مجازاً باعتبار الغاية . فقد ينفي الشيء باعتبار عدم غايته وثمرته فلا ينافي كونه أعمى في الآخرة بهذا الاعتبار إعلام الله تعالى إياه الحجة ، ولا كونه بصيراً في الدنيا كونه أعمى في الآخرة بالاعتبار المذكور لأن المعرض عن الدليل يشبه أن يكون كافراً معانداً ، ويكون الغرض من الإعلام التوبيخ والإلزام يؤيده قوله تعالى في جوابه : { كذلك } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.