البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ} (124)

ولما ذكر تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض عن ذكره ، والذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية .

الضنك : الضيق والشدّة ، ضنك عيشه يضنك ضناكة وضنكاً ، وامرأة ضناك كثيرة اللحم صار جلدها به .

وضنك : مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع ، والمعنى النكد الشاق من العيش والمنازل ومواطن الحرب ربحوها .

ومنه قول عنترة :

إن المنية لو تمثل مثلت *** مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل

وعن ابن عباس : نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه .

وقال الحسن وقتادة والكلبي : هو الضيق في الآخرة في جهنم فإن طعامهم فيها الضريع والزقوم وشرابهم الحميم والغسلين ، ولا يموتون فيها ولا يحيون ، وقال عطاء : المعيشة الضنك معيشة الكافر لأنه غير موقن بالثواب والعقاب .

وقال ابن جبير : يسلب القناعة حتى لا يشبع .

وقال أبو سعيد الخدري والسدّي : هو عذاب القبر ، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .

وقال الجوهري : المعيشة الضنك في الدنيا ، والمعنى أن الكافر وإن كان متسع الحال والمال فمعه من الحرص والأمل والتعذيب بأمور الدنيا والرغبة وامتناع صفاء العيش لذلك ما تصير معيشته ضنكاً وقالت فرقة { ضنكاً } بأكل الحرام .

ويستدل على أن المعيشة الضنك قبل يوم القيامة { ونحشره يوم القيامة أعمى } وقوله : { ولَعذاب الآخرة أشد وأبقى } فكأنه ذكر نوعاً من العذاب ، ثم ذكر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى ، وحسن قول الجمهور الزمخشري فقال : ومعنى ذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله وعلى قسمته ، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح وسهولة فيعيش عيشاً طيباً كما قال تعالى { فلنحيينه حياة طيبة } والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطيح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك وحاله مظلمة انتهى .

وقرأ الحسن ضنكى بألف التأنيث ولا تنوين وبالإمالة بناؤه صفة على فعلى من الضنك .

وقرأ الجمهور { ضنكاً } بالتنوين وفتحة الكاف فتحة إعراب .

وقرأ الجمهور { ونحشره } بالنون ، وفرقة منهم أبان بن تغلب بسكون الراء فيجوز أن يكون تخفيفاً ، ويجوز أن يكون جزماً بالعطف على موضع { فإن له معيشة ضنكاً } لأنه جواب الشرط ، وكأنه قيل { ومن أعرض عن ذكري } تكن له معيشة ضنك { ونحشره } ومثله

{ من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم } في قراءة من سكن ويذرهم .

وقرأت فرقة ويحشره بالياء .

وقرئ ويحشره بسكون الهاء على لفظ الوقف قاله الزمخشري .

ونقل ابن خالويه هذه القراءة عن أبان بن تغلب والأحسن تخريجه على لغة بني كلاب وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء .

وقرئ { لربه لكنود } والظاهر أن قوله { أعمى } المراد به عمى البصر كما قال { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً } وقيل : أعمى البصيرة .

قال ابن عطية : ولو كان هذا لم يحس الكافر بذلك لأنه مات أعمى البصيرة ويحشر كذلك .

وقال مجاهد والضحاك ومقاتل وأبو صالح وروي عن ابن عباس : { أعمى } عن حجته لا حجة له يهتدي بها .

وعن ابن عباس يحشر بصيراً ثم إذا استوى إلى المحشر { أعمى } .

وقيل : { أعمى } عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه .

وقيل { أعمى } عن كل شيء إلاّ عن جهنم .

وقال الجبائي : المراد من حشره { أعمى } لا يهتدي إلى شيء .

وقال إبراهيم بن عرفة : كل ما ذكره الله عز وجل في كتابه فذمه فإنما يريد عَمَى القلب قال تعالى : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }