تفسير ابن أبي زمنين - ابن أبي زمنين  
{وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ} (124)

{ ومن أعرض عن ذكري } فلم يؤمن { فإن له معيشة ضنكا } .

يحيى : عن عبد الله بن عرادة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { معيشة ضنكا } " يعني : عذاب القبر " {[754]} .

قال محمد : أصل الضنك في اللغة الضيق والشدة ، يقال : ضنك عيشه ضنكا ، وضنكا ، وقالوا : { معيشة ضنكا } أي : شديدة .

يحيى : عن أبي أمية ، عن يونس بن خباب ، عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان ، عن البراء بن عازب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبع جنازة رجل من الأنصار ، فلما انتهى إلى قبره وجده لم يلحد ، فجلس وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير وبيده عود وهو ينكت به في الأرض ، ثم رفع رأسه فقال : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر -قالها ثلاثا- إن المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة ، وانقطاع من الدنيا أتته ملائكة وجوههم كالشمس بحنوطه وكفنه ، فجلسوا بالمكان الذي يراهم ( منه ) فإذا خرج روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض ، وكل ملك في السماوات ، وفتحت أبواب السماء كل باب منها يعجبه أن يصعد روحه منه ، فينتهي الملك إلى ربه ، فيقول : يا رب هذا روح عبدك ، فيصلى عليه الله وملائكته ، ويقول : ارجعوا بعبدي فأروه ماذا أعددت له من الكرامة ، فإني عهدت إلى عبادي أني منها خلقتكم وفيها نعيدكم ، فيرد إليه روحه حين يوضع في قبره ، فإنه ليسمع قرع نعالكم حين تنصرفون عنه ، فيقال له : ما دينك ؟ ومن ربك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : الله ربي ، والإسلام ديني ، ومحمد نبيي ، فينتهرانه انتهارا شديدا ، ثم يقال له : ما دينك ؟ ومن ربك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : الله ربي ، والإسلام ديني ، ومحمد نبيي .

فيناديه مناد : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }{[755]} فيأتيه عمله في صورة حسنة وريح طيبة ، فيقول : أبشر ( بجنات ) فيها نعيم مقيم ، فقد كنت سريعا في طاعة الله بطيئا عن معصية الله ، فيقول : وأنت بشرك الله بخير ، فمثل وجهك يبشر بالخير ، ومن أنت ؟ فيقول : أنا عملك الحسن . ثم يفتح له باب من أبواب النار ، فيقال له : كان هذا منزلك فأبدلك الله خيرا منه ، ثم يفتح له في جانب قبره فيرى منزله في الجنة ، فينظر إلى ما أعد الله له من الكرامة فيقول : يا رب : متى تقوم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي ؟ فيوسع عليه في قبره ويرقد . وأما الكافر فإذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا ، أتته ملائكة ( سود الوجوه ) بسرابيل من قطران ، ومقطعات من نار ، فجلسوا منه بالمكان الذي يراهم منه ، فينزع روحه كما ينتزع السفود{[756]} الكثير شعبه من الصوف المبتل -من عروقه وقلبه ، فإذا خرج روحه لعنه كل ملك بين السماء والأرض ، وكل ملك في السماوات ، وغلقت أبواب السماوات دونه كل باب يكره أن يصعد روحه منه ، فينتهي الملك إلى ربه فيقول : يا رب هذا روح عبدك فلان لا تقبله أرض ولا سماء ، فيلعنه الله وملائكته ، فيقول : ارجعوا بعبدي فأروه ماذا أعددت له من الهوان ، فإني عهدت إلى عبادي أني منها خلقتكم ، وفيها أعيدكم ، فترد إليه روحه حين يوضع في قبره ، وإنه ليسمع قرع نعالكم حين تنصرفون عنه ، فيقول له : ما دينك ؟ ومن ربك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : الله ربي ، والإسلام ديني ، ومحمد نبيي ، فينتهرانه انتهارا شديدا ، ثم يقال له : ما دينك ؟ ومن ربك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : لا أدري ، فيقال له : لا دريت ، ويأتيه عمله في صورة قبيحة وريح منتنة ، فيقول : أبشر بعذاب مقيم ، فيقول : وأنت فبشرك الله بشر فمثل وجهك يبشر بالشر ، ومن أنت ؟ فيقول : أنا عملك الخبيث ، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة ، فيقال له : كان هذا منزلك لو أطعت الله ، ثم يفتح له منزله من النار ، فينظر إلى ما أعده الله له من الهوان ، ويقيض له أصم أعمى ، في يده مرزبة لو توضع على جبل لصار رفاتا ، فيضربه ضربة فيصير رفاتا ، ثم يعاد فيضربه بين عينيه ضربة يصيح منها صيحة يسمعها من على الأرض إلا الثقلين ، وينادي مناد أن أفرشوه لوحين من النار ، فيفرش له لوحين من نار ، ويضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه " {[757]} .

قوله : { ونحشره يوم القيامة أعمى } عن حجته .


[754]:رواه ابن جرير في (التفسير) (13/215، 216) وفي تهذيب الآثار مسند عمر بن الخطاب (727، 728، 729) وعبد الرزاق في المصنف (6703) والبيهقي في إثبات عذاب القبر (57، 58، 67) وابن حبان في صحيحه (3113، 3119) والحاكم في المستدرك (1/379، 381) وصححه الحاكم. وقال الحافظ ابن كثير: إسناده جيد (3/174).
[755]:سورة إبراهيم: آية 27.
[756]:السفود: الحديد الذي يشوى به اللحم. انظر: اللسان (سفد)
[757]:رواه أحمد في المسند (4/287، 288، 295، 296) وأبو داود (4720)، (4721)وعبد الله في زوائد أبيه (4/296) وابن أبي شيبة في المصنف (3/380، 382) والطيالسي في مسنده (753) وهناد في (الزهد) (339) والطبري في تفسيره (13/215) وفي تهذيب الآثار (718، 721، 723) والدارمي في (الرد على الجهمية (110) وابن خزيمة في التوحيد (175) والآجري في الشريعة (919، 921) وابن منده في الإيمان (1064) وفي التوحيد (850) واللالكائي في أصول الاعتقاد (2140) والبيهقي في الشعب (390) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعا بالمنهال بن عمر، وزاذان أبي عمر الكندي، وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة وقمع للمبتدعة، ولم يخرجاه بطوله. وقال القرطبي في التذكرة (ص 119): حديث صحيح له طرق كثيرة. وقال الذهبي في العلو (1/519): إسناده صالح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/50) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وقال المنذري (4/369) حديث حسن، ورواه محتج بهم في الصحيح. وقال ابن قيم في اجتماع الجيوش (ص 46): صححه جماعة من الحفاظ، وصححه بقوله: فالحديث صحيح لاشك فيه، ورد على ابن حزم في المحلى (1/22) وابن حبان في صحيحه (7/387) كما في الروح (ص 48).