اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ} (124)

ولما وعد الله تعالى من يتبع الهُدَى أتْبَعه بالوعيد لمن أعرض فقال :

{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي } والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى على ما تقدم{[27261]} .

قوله : " ضَنْكاً " صفة لمعيشة ، وأصله المصدر ، فكأنه قال : معيشة ذات ضنك ، فلذلك لم يؤنث ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد{[27262]} . وقرأ الجمهور " ضَنْكاً " بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاًَ وقفاً كسائر المعربات{[27263]} .

وقرأت فرقة " ضنكى " بألف كسكرى{[27264]} . وفي هذه الألف احتمالان :

أحدهما : أنها بدل من التنوين{[27265]} ، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف كما تقدم في نظائره ، وسيأتي منها بقية إن شاء الله تعالى .

والثاني : أن تكون ألف التأنيث ، بُنِي المصدر على ( فَعَلَى ) نحو دَعْوَى . والضنك الضيق والشدة{[27266]} ، يقال منه : ضَنُكَ عيشُه يَضْنَكُ ضَنَاكَةً وَضَنْكاً ، وامرأة ضنَاكٌ كثير لحم البدن ، كأنهم تخيلوا ضيق جلدها به{[27267]} .

فصل

قال جماعة من المفسرين : الكافر بالله يكون حريصاً على الدنيا طالباً للزيادة فعيشه ضَنْكٌ ، وأيضاً فمن الظلمة مَنْ ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة بكفره قال تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة }{[27268]} وقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم }{[27269]} ، وقال : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ{[27270]} بَرَكَاتٍ منَ السمآء والأرض }{[27271]} {[27272]} وقال ابن مسعود وأبو هريرة وأبو{[27273]} سعيد الخدري - ( رضي الله عنهم ){[27274]} - : المراد بالعيشة الضنكى عذاب القبر{[27275]} .

وقال الحسن وقتادة والكلبي : هو الضيق في الآخرة في جهنم ، فإن طعامهم الضريع{[27276]} والزقوم{[27277]} ، وشرابُهُم الحميم{[27278]} والغِسْلِين{[27279]} ، فلا يموتون فيها ولا يَحْيُون{[27280]} . وقال ابن عباس{[27281]} : المعيشة الضنك هو أن يضيق عليه أبواب{[27282]} الخير فلا يهتدي لشيء منها{[27283]} . وعن عطاء : المعيشةُ الضَّنك هي معيشة الكافر ، لأنه غير{[27284]} موقِنٍ بالثواب والعقاب{[27285]} .

وروي عنه -عليه السلام{[27286]}- أنَّه قال : عقوبة المعصيةِ ثلاثة ضيقُ المعيشة والعُسْرُ في اللذة ، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله ( تعالى{[27287]} ){[27288]} .

قوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى }

قرأ العامة " وَنَحْشُرُهُ " بالنون ورفع الفعل على الاستئناف .

وقرأ أبان بن تغلب في آخرين بتسكين الراء{[27289]} ، وهي محتملة لوجهين :

أحدهما : أن يكون الفعل مجزوماً نسقاً على محل{[27290]} جزاء الشرط ، وهو الجملة من قوله{[27291]} : " فَإنَّ{[27292]} لَهٌ مَعِيشَةً " فإنَّ محلها الجزم{[27293]} ، فهي كقراءة : " مَنْ يُضْلِل اللهُ فَلاَ هَادِي لَهُ وَيَذَرْهُم " {[27294]} بتسكين الراء{[27295]} .

والثاني : أنْ يكون السكون سكون تخفيف ( نحو " يَأْمُرْكُم " {[27296]} وبابه ){[27297]} .

وقرأت فرقة بياء الغيبة ، وهو الله تعالى أو الملك{[27298]} . وأبان بن تغلب في رواية " وَنَحْشُرُهْ " بسكون الهاء وصلاً{[27299]} ، وتخريجها إما على لغة بني عقيل وبني كلاب{[27300]} وإمَّا على إجراء الوصل مجرى الوقف{[27301]} . و " أعْمَى " نصب على الحال{[27302]} .

فصل

قال ابن عباس : أعمى البصر{[27303]} . وقال مجاهد والضحاك ومقاتل : أعمى{[27304]} عن الحجة ، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس{[27305]} .

قال القاضي : وهذا ضعيف ، لأن في القيامة لا بد أن يُعْلِمهم الله بطلان ما كانوا عليه حتى يتميز{[27306]} لهم الحق من الباطل ، ومن هذا حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً ، ولا يليق بهذا قوله : { وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } ، ولم يكن{[27307]} كذلك في حال الدنيا . ومما يؤيد ذلك أنه تعالى علَّل ذلك العمى بأن المكلف نَسِي الدلائل فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النِّسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر{[27308]} .


[27261]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/130. بتصرف.
[27262]:يقع المصدر نعتا كثيرا، وكان حقه أن لا ينعت به لجموده، ولكن وقوعه نعتا قصدا للمبالغة أو توسعا بحذف مضاف، وهو عند الكوفيين على التأويل بالمشتق، ويلزم حينئذ الإفراد والتذكير، نحو رجل عدل، وامرأة عدل، ورجلان عدل، ورجال عدل. قال ابن مالك: ونـعـتوا بمـصدر كثيرا *** فالتزموا الإفراد والتذكيرا انظر شرح الأشموني 3/64.
[27263]:وذلك لأن الوقف على النون المنصوب غير المؤنث بالتاء يكون بإبدال التنوين ألفا. انظر التبيان 2/907، البحر المحيط 6/287، شرح التصريح 2/338.
[27264]:وهي قراءة الحسن. المختصر: (90)، البحر المحيط 6/286.
[27265]:كقراءة الجمهور في حال الوقف، وهنا بالألف وصلا ووقفا إجراء للوصل مجرى الوقف كما بين ابن عادل.
[27266]:قال الزجاج: (الضنك أصله في اللغة الضيق والشدة، ومعناه – والله أعلم – أن هذه المعيشة الضنك في نار جهنم. وأكثر ما جاء في التفسير أنه عذاب القبر) معاني القرآن وإعرابه 3/378.
[27267]:انظر اللسان (ضنك).
[27268]:[البقرة: 61].
[27269]:[المائدة: 66].
[27270]:ما بين القوسين سقط من ب.
[27271]:[الأعراف: 96].
[27272]:انظر الفخر الرازي 22/130.
[27273]:في الأصل: وأبي. وهو تحريف.
[27274]:ما بين القوسين سقط من ب.
[27275]:انظر الفخر الرازي 22/130.
[27276]:الضريع: نبت يقال له الشبرق، وأهل الحجاز يسمونه الضريع إذا يبس. اللسان (ضرع).
[27277]:الزقوم: شجرة غبراء صغيرة الورق مدورتها لا شوك لها، لها كعابر في سوقها كثيرة، ولها وريد ضعيف جدا يجرسه النحل. ونورتها بيضاء، ورأس ورقها قبيح جدا، اللسان (زقم).
[27278]:الحميم: الماء الحار. اللسان (حمم).
[27279]:الغسلين: ما يسيل من جلود أهل النار كالقيح وغيره كأنه يغسل عنهم. اللسان (غسل).
[27280]:انظر الفخر الرازي 22/130- 131.
[27281]:في ب: وقال الضحاك وابن عباس.
[27282]:في ب: أسباب.
[27283]:انظر الفخر الرازي 22/131.
[27284]:في ب: عز وهو تحريف.
[27285]:انظر الفخر الرازي 22/131.
[27286]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[27287]:انظر الفخر الرازي 22/131.
[27288]:ما بين القوسين سقط من ب.
[27289]:المختصر 90، المحتسب 2/60، البحر المحيط 6/287.
[27290]:في ب: على نسق. وهو تحريف.
[27291]:في ب: من له. وهو تحريف.
[27292]:فإن: سقط من ب.
[27293]:لأنها جواب الشرط الذي في قوله: "ومن أعرض عن ذكري" وكأنه قال: ومن أعرض عن ذكري يعش عيشة ضنكا ونحشره. والعطف على المحل. والعطف على المحل يجوز كما يجوز العطف على اللفظ نحو ليس زيد بقائم ولا قاعدا بالنصب، وله عند المحققين ثلاثة شروط: أحدها إمكان ظهوره في الفصيح، ألا ترى أنه يجوز في المثال السابق أن تسقط الباء فتنصب، فعلى هذا لا يجوز مررت بزيد وعمرا خلافا لابن جني، لأنه لا يجوز مررت زيدا. ولا تختص مراعاة الموضع بأن يكون العامل في اللفظ زائدا كما مثلنا، بدليل قوله: فإن لم نجد من دون عدنان والدا. . . ودون معد فلتزعك العواذل فـ (دون معد) منصوب، وهو معطوف على محل (من دون عدنان) وظهر النصب في المعطوف، لأن العامل وهو (وجد) كما يتعدى إلى ثاني مفعوليه بـ (من) يتعدى إليه بنفسه. الثاني أن يكون الموضع بحق الأصالة، فلا يجوز هذا ضارب زيدا وأخيه، لأن الوصف المستوفي لشروط العمل الأصل إعماله لا إضافته لالتحاقه بالفعل. الثالث وجود المحرز، أي الطالب لذلك المحل، وهذا الشرط اشترطه بعض البصريين، ولم يشترطه الكوفيون. وانظر المحتسب 2/287، المغني 2/473 – 476.
[27294]:[الأعراف: 186].
[27295]:وهي قراءة حمزة والكسائي. "ويذرهم" على هذه القراءة معطوف على محل قوله: "فلا هادي له" فهو في محل جزم لأنه جواب الشرط. انظر السبعة (299) الكشف 1/380.
[27296]:من قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} [البقرة: 67] وذلك لأنهم كرهوا أن يتوالى في كلامهم في كلمة واحدة أربع متحركات أو خمس ليس فيهن ساكن. وقرأ بالتخفيف أبو عمرو. وانظر الكتاب 4/202، السبعة 155.
[27297]:ما بين القوسين سقط من ب.
[27298]:انظر البحر المحيط 6/287.
[27299]:المختصر (90) الكشاف 2/451، البحر المحيط 6/287.
[27300]:فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء. البحر المحيط 6/287.
[27301]:انظر الكشاف 2/451.
[27302]:من الهاء في "نحشره" التبيان 2/907.
[27303]:انظر البغوي 5/466.
[27304]:أعمى: سقط من ب.
[27305]:انظر الفخر الرازي 22/131.
[27306]:في الأصل: يميز.
[27307]:في ب: إن لم يكن. وهو تحريف.
[27308]:انظر الفخر الرازي 22/131.