ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال :{ ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا } تسليماً لأمر الله وتصديقاً لوعده : { هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله } وعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } إلى قوله : { ألا إن نصر الله قريب } فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء ، فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، { وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً } أي : تصديقاً لله وتسليماً لأمر الله .
ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن ؛ وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة ، في مواجهة الهول ، وفي لقاء الخطر . الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة ، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين :
( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله . وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .
لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة ؛ وكان الكرب الذي واجهوه من الشدة ؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف ، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا ، كما قال عنهم أصدق القائلين : ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) . .
لقد كانوا ناسا من البشر . وللبشر طاقة . لا يكلفهم الله ما فوقها . وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية ؛ وبشارة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لهم ، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . . على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضرا يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم .
ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يحس حالة أصحابه ، ويرى نفوسهم من داخلها ، فيقول : " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع . يشرط له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الرجعة . أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة " . . ومع هذا الشرط بالرجعة ، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله في الجنة ، فإن أحدا لا يلبي النداء . فإذا عين بالاسم حذيفة قال : فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني ! . . ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة . .
ولكن كان إلى جانب الزلزلة ، وزوغان الأبصار ، وكرب الأنفاس . . كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله ؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله ؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن ؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها . ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر . ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله ? ألا إن نصر الله قريب ) . . وها هم أولاء يزلزلون . فنصر الله إذن منهم قريب ! ومن ثم قالوا : ( هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله ) . . ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .
( هذا ما وعدنا الله ورسوله ) . . هذا الهول ، وهذا الكرب ، وهذه الزلزلة ، وهذا الضيق . وعدنا عليه النصر . . فلا بد أن يجيء النصر : ( وصدق الله ورسوله ) . . صدق الله ورسوله في الإمارة وصدق الله ورسوله في دلالتها . . ومن ثم اطمأنت قلوبهم لنصر الله ووعد الله : ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) . .
لقد كانوا ناسا من البشر ، لا يملكون أن يتخلصوا من مشاعر البشر ، وضعف البشر . وليس مطلوبا منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري ؛ ولا أن يخرجوا من إطار هذا الجنس ؛ ويفقدوا خصائصه ومميزاته . فلهذا خلقهم الله . خلقهم ليبقوا بشرا ، ولا يتحولوا جنسا آخر . لا ملائكة ولا شياطين ، ولا بهيمة ولا حجرا . . كانوا ناسا من البشر يفزعون ، ويضيقون بالشدة ، ويزلزلون للخطر الذي يتجاوز الطاقة . ولكنهم كانوا - مع هذا - مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله ؛ و تمنعهم من السقوط ؛ وتجدد فيهم الأمل ، وتحرسهم من القنوط . . وكانوا بهذا وذاك نموذجا فريدا في تاريخ البشرية لم يعرف له نظير .
وعلينا أن ندرك هذا لندرك ذلك النموذج الفريد في تاريخ العصور . علينا أن ندرك أنهم كانوا بشرا ، لم يتخلوا عن طبيعة البشر ، بما فيها من قوة و ضعف . وأن منشأ امتيازهم أنهم بلغوا في بشريتهم هذه أعلى قمة مهيأة لبني الإنسان ، في الاحتفاظ بخصائص البشر في الأرض مع الاستمساك بعروة السماء .
وحين نرانا ضعفنا مرة ، أو زلزلنا مرة ، أو فزعنا مرة ، أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق . . فعلينا ألا نيأس من أنفسنا ، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا ؛ أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبدا ! ولكن علينا في الوقت ذاته ألا نقف إلى جوار ضعفنا لأنه من فطرتنا البشرية ! ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا ! هنالك العروة الوثقى . عروة السماء . وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة ، ونسترد الثقة والطمأنينة ، ونتخذ من الزلزال بشيرا بالنصر . فنثبت ونستقر ، ونقوى ونطمئن ، ونسير في الطريق . .
ثم قال تعالى مخبرًا عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم ، وجَعْله العاقبةَ حاصلةً لهم في الدنيا والآخرة ، فقال : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } .
قال ابن عباس وقتادة : يعنون قوله تعالى في " سورة البقرة " { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] .
أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب ؛ ولهذا قال : { وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } .
وقوله : { وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } : دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس{[23261]} وأحوالهم ، كما قاله جمهور الأئمة : إنه{[23262]} يزيد وينقص . وقد قررنا ذلك في أول " شرح البخاري " ولله الحمد والمنة .
ومعنى قوله : { وَمَا زَادَهُمْ } أي : ذلك الحال والضيق والشدة [ ما زادهم ]{[23263]} { إِلا إِيمَانًا } بالله ، { وَتَسْلِيمًا } أي : انقيادا لأوامره ، وطاعة لرسوله .
وصف الله تعالى المؤمنين حين رأوا تجمع الأحزاب لحربهم وصبرهم على الشدة وتصديقهم وعد الله تعالى على لسان نبيه ، واختلف في مراد المؤمنين بوعد الله ورسوله لهم ، فقالت فرقة : أرادوا ما أعلمهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بحفر الخندق فإنه أعلمهم بأنهم سيحصرون وأمرهم بالاستعداد لذلك وأعلمهم بأنهم سينصرون من بعد ذلك ، فلما رأوا الأحزاب { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } فسلموا لأول الأمر وانتظروا آخره ، وقالت فرقة : أرادوا بوعد الله ما نزل في سورة البقرة من قوله : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذي خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب }{[9483]} [ البقرة : 214 ] .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويحتمل أن يكون المؤمنون نظروا في هذه الآية ، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أمرهم بحفر الخندق ، وأشاروا بالوعد إلى جميع ذلك ، وهي مقالتان إحداهما من الله والأخرى من رسوله ، وزيادة الإيمان هي في أوصافه لا في ذاته لان ثبوته وإبعاد الشكوك عنه والشبه زيادة في أوصافه ، ويحتمل أن يريد إيمانهم بما وقع وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يقع فتكون الزيادة في هذا الوجه فيمن يؤمن به لا في نفس الإيمان ، وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم » بواو جمع ، و «التسليم » الانقياد لأمر الله تعالى كيف جاء ، ومن ذلك ما ذكرناه من أن المؤمنين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند اشتداد ذلك الخوف : يا رسول الله إن هذا أمر عظيم فهل من شيء نقوله ؟ فقال : قولوا «اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا » ، فقالها المسلمون في تلك الضيقات .