12- إن الله أخذ العهد على بني إسرائيل بالسمع والطاعة ، فأقام عليهم اثني عشر رئيساً منهم لتنفيذ العهد ، ووعدهم الله وعداً مؤكداً بأن يكون معهم بالعون والنصر إن أدوا الصلاة على وجهها ، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم ، وصدَّقوا برسله جميعاً ، ونصروهم ، وأنفقوا في سبيل الخير ، وإذا ما فعلوا ذلك ، تجاوز الله عن ذنوبهم ، وأدخلهم جناته التي تجرى من تحتها الأنهار ، فمن كفر ونقض العهد منهم بعد ذلك ، فقد حاد عن الطريق السوي المستقيم .
قوله تعالى : { فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } ، وذلك أن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام ، وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون ، فلما استقرت لبني إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحا من أرض الشام ، وهي الأرض المقدسة ، وكانت لها ألف قرية ، في كل قرية ألف بستان ، وقال : يا موسى إني كتبتها لكم داراً وقراراً ، فاخرج إليها ، وجاهد من فيها من العدو ، فإني ناصرك عليهم ، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا ، ً من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به ، فاختار موسى النقباء ، وسار موسى ببني إسرائيل ، حتى قربوا من أريحا فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ، ويعلمون علمها ، فلقيهم رجل من الجبارين يقال له : عوج بن عنق ، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاث وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع ، وكان يحتجز بالسحاب ، ويشرب منه ، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه أليها ، ثم يأكله ، ويروى أن الماء في زمن نوح عليه السلام طبق ما على الأرض من جبل ، وما جاوز ركبتي عوج ، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدي موسى عليه السلام ، وذلك أنه جاء وقلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام ، وكان فرسخاً في فرسخ ، وحملها ليطبقها عليهم ، فبعث الله الهدهد فقور الصخرة بمنقاره ، فوقعت في عنقه فصرعته ، فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله ، وكانت أم عنق إحدى بنات آدم ، وكان مجلسها جريباً من الأرض ، فلما لقي عوج النقباء وعلى رأسه حزمة من حطب ، أخذ الاثني عشر وجعلهم في حجزته ، وانطلق بهم إلى امرأته ، وقال : انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا ، وطرحهم بين يديها وقال : ألا أطحنهم برجلي ؟ فقالت امرأته : لا ، بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ، ففعل ذلك . وروي أنه جعلهم في كمه ، وأتى بهم إلى الملك فنثرهم بين يديه ، فقال الملك : ارجعوا فأخبروهم بما رأيتم ، وكان لا يحمل عنقوداً من عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة ، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبها خمسة أنفس ، فرجع النقباء ، وجعلوا يتعرفون أحوالهم ، قال بعضهم لبعض : يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله ، ولكن اكتموا ، وأخبروا موسى وهارون فيريان رأيهما ، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ، ثم إنهم نكثوا العهد ، وجعل كل واحد منهم ينهي سبطه عن قتالهم ، ويخبرهم بما رأى إلا رجلان فذلك قوله تعالى :{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } . قوله تعالى : { وقال الله إني معكم } . ناصركم على عدوكم ، ثم ابتدأ الكلام .
قوله تعالى : { لئن أقمتم الصلاة } يا معشر بني إسرائيل } .
قوله تعالى : { وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم } ، نصرتموهم ، وقيل : ووقرتموهم وعظمتموهم .
قوله تعالى : { وأقرضتم الله قرضاً حسناً } . قيل : هو إخراج الزكاة ، وقيل : هو النفقة على الأهل .
قوله تعالى : { لأكفرن عنكم سيئاتكم } ، لأمحون عنكم سيئاتكم .
قوله تعالى : { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل } ، أي : أخطأ قصد السبيل ، يريد طريق الحق . وسواء كل شيء وسطه .
في نهاية الدرس الماضي ، ذكر الله المسلمين بميثاقهم الذي واثقهم به ؛ وذكرهم نعمته التي أنعم بها عليهم في هذا الميثاق . ذلك كي يؤدوا من جانبهم ما استحفظوا عليه ؛ ويتقوا أن ينقضوا ميثاقهم معه .
فالآن يستغرق هذا الدرس كل كذلك يتضمن دعوتهم من جديد إلى الهدى . . الهدى الذي جاءتهم به الرسالة الأخيرة ؛ وجاءهم به الرسول الأخير . ودحض ما قد يدعونه من حجة في أنه طال عليهم الأمد ، ومرت بهم فترة طويلة منذ آخر أنبيائهم ، فنسوا ولبس عليهم الأمر . . فها هو ذا قد جاءهم بشير ونذير . فسقطت الحجة ، وقام الدليل .
ومن خلال هذه الدعوة ، تتبين وحدة دين الله - في أساسه - ووحده ميثاق الله مع جميع عباده : أن يؤمنوا به ، ويوحدوه ، ويؤمنوا برسله دون تفريق بينهم ، وينصروهم ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، وينفقوا في سبيل الله من رزق الله . . فهو الميثاق الذي يقرر العقيدة الصحيحة ، ويقرر العبادة الصحيحة ، ويقرر أسس النظام الاجتماعي الصحيح . .
فالآن نأخذ في استعراض هذه الحقائق كما وردت في السياق القرآني الكريم :
( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا . وقال الله . إني معكم . لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم ؛ وأقرضتم الله قرضا حسنا . . لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل . . فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم ؛ وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به ، ولا تزال تطلع على خائنة منهم - إلا قليلا منهم - فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين . ومن الذين قالوا : إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ؛ فنسوا حظا مما ذكروا به ، فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ) . .
لقد كان ميثاق الله مع بني إسرائيل ميثاقا بين طرفين ؛ متضمنا شرطا وجزاء . والنص القرآني يثبت نص الميثاق وشرطه وجزاءه ، بعد ذكر عقد الميثاق وملابسات عقده . . لقد كان عقدا مع نقباء بني إسرائيل الاثني عشر ، الذين يمثلون فروع بيت يعقوب - وهو إسرائيل - وهم ذرية الأسباط - أحفاد يعقوب - وعدتهم اثنا عشر سبطا . . وكان هذا نصه :
( وقال الله : إني معكم . لئن أقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وآمنتم برسلي ، وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا . . لأكفرن عنكم سيئاتكم ، ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار . فمن كفر بعد ذلك منكم ، فقد ضل سواء السبيل ) . .
( إني معكم ) . . وهو وعد عظيم . فمن كان الله معه ، فلا شيء إذن ضده . ومهما يكن ضده من شيء فهو هباء لا وجود - في الحقيقة - له ولا أثر . ومن كان الله معه فلن يضل طريقه ، فإن معية الله - سبحانه - تهديه كما أنها تكفيه . ومن كان الله معه فلن يقلق ولن يشقى ، فإن قربه من الله يطمئنه ويسعده . . وعلى الجملة فمن كان الله معه فقد ضمن ، وقد وصل ، وما له زيادة يستزيدها على هذا المقام الكريم .
ولكن الله - سبحانه - لم يجعل معيته لهم جزافا ولا محاباة ؛ ولا كرامة شخصية منقطعة عن أسبابها وشروطها عنده . . إنما هو عقد . . فيه شرط وجزاء .
شرطه : إقامة الصلاة . . لا مجرد أداء الصلاة . . إقامتها على أصولها التي تجعل منها صلة حقيقية بين العبد والرب ؛ وعنصرا تهذيبيا وتربويا وفق المنهج الرباني القويم ؛ وناهيا عن الفحشاء والمنكر حياء من الوقوف بين يدي الله بحصيلة من الفحشاء والمنكر !
وإيتاء الزكاة . . اعترافا بنعمة الله في الرزق ؛ وملكيته ابتداء للمال ؛ وطاعة له في التصرف في هذا المال وفق شرطه - وهو المالك والناس في المال وكلاء - وتحقيقا للتكافل الاجتماعي الذي على أساسه تقوم حياة المجتمع المؤمن ؛ وإقامة لأسس الحياة الاقتصادية على المنهج الذي يكفل ألا يكون المال دولة بين الأغنياء ، وألا يكون تكدس المال في أيد قليلة سببا في الكساد العام بعجز الكثرة عن الشراء والاستهلاك مما ينتهي إلى وقف دولاب الإنتاج أو تبطئته ؛ كما يفضي إلى الترف في جانب والشظف في جانب ، وإلى الفساد والاختلال في المجتمع بشتى ألوانه . . كل هذا الشر الذي تحول دونه الزكاة ؛ ويحول دونه منهج الله في توزيع المال ؛ وفي دورة الاقتصاد . .
والإيمان برسل الله . . كلهم دون تفرقة بينهم . فكلهم جاء من عند الله ؛ وكلهم جاء بدين الله . وعدم الإيمان بواحد منهم كفر بهم جميعا ، وكفر بالله الذي بعث بهم جميعا . .
وليس هو مجرد الإيمان السلبي ، إنما هو العمل الإيجابي في نصرة هؤلاء الرسل ، وشد أزرهم فيما ندبهم الله له ، وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه . . فالإيمان بدين الله من مقتضاه أن ينهض لينصر ما آمن به ، وليقيمه في الأرض ، وليحققه في حياة الناس . فدين الله ليس مجرد تصور اعتقادي ، ولا مجرد شعائر تعبدية . إنما هو منهج واقعي للحياة . ونظام محدد يصرف شئون هذه الحياة . والمنهج والنظام في حاجة إلى نصرة ، وتعزيز ، وإلى جهد وجهاد لتحقيقه ولحمايته بعد تحقيقه . . وإلا فما وفي المؤمن بالميثاق .
وبعد الزكاة إنفاق عام . . يقول عنه الله - سبحانه - إنه قرض لله . . والله هو المالك ، وهو الواهب . . ولكنه - فضلا منه ومنة - يسمي ما ينفقه الموهوب له - متى أنفقة لله - قرضا لله . .
ذلك كان الشرط . فأما الجزاء فكان :
تكفير السيئات . . والإنسان الذي لا يني يخطى ء ، ولا يني يندفع إلى السيئة مهما جاء بالحسنة . . تكفير السيئات بالنسبة إليه جزاء ضخم ورحمة من الله واسعة ، وتدارك لضعفة وعجزه وتقصيره . .
وجنة تجري من تحتها الأنهار . . وهي فضل خالص من الله ، لا يبلغه الإنسان بعمله ، إنما يبلغه بفضل من الله ، حين يبذل الجهد ، فيما يملك وفيما يطيق . .
وكان هنالك شرطا جزائي في الميثاق :
( فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل ) . .
فلا هدى له بعد ذلك ، ولا أوبة له من الضلال . بعد إذ تبين له الهدى ، وتحدد معه العقد ، ووضح له الطريق ، وتأكد له الجزاء . .
ذلك كان ميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل . . عمن وراءهم . وقد ارتضوه جميعا ؛ فصار ميثاقا مع كل فرد فيهم ، وميثاقا مع الأمة المؤلفة منهم . . فماذا كان من بني إسرائيل !
لما أمر [ الله ]{[9413]} تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه ، الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل ، وذكرهم نعَمَه عليهم الظاهرة والباطنة ، فيما هداهم له من الحق والهدى ، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين : اليهود والنصارى ، فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنًا منه لهم ، وطردا عن بابه وجنابه ، وحجابا لقلوبهم{[9414]} عن الوصول إلى الهدى ودين الحق ، وهو العلم النافع والعمل الصالح ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } يعني : عُرَفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع ، والطاعة لله ولرسوله ولكتابه .
وقد ذكر ابن عباس ومحمد بن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى ، عليه السلام ، لقتال الجبابرة ، فأمر بأن يقيم النقباء ، من كل سبط نقيب - قال محمد بن إسحاق : فكان من سبط روبيل : " شامون بن زكور{[9415]} ، ومن سبط شمعون : " شافاط بن حُرّي " ، ومن سبط يهوذا : " كالب بن يوفنا " ، ومن سبط أبين : " فيخائيل بن يوسف " ، ومن سبط يوسف ، وهو سبط أفرايم : " يوشع بن نون " ، ومن سبط بنيامين : " فلطمى بن رفون " ، ومن سبط زبلون{[9416]} جدي بن سودى " ، ومن سبط يوسف وهو منشا بن يوسف : " جدي بن سوسى " ، ومن سبط دان : " حملائيل بن جمل " ، ومن سبط أسير : " ساطور بن ملكيل " ، ومن سبط نفتالي{[9417]} نحى بن وفسى " ، ومن سبط جاد : " جولايل بن ميكي " . {[9418]}
وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لما ذكره ابن إسحاق ، والله أعلم ، قال فيها : فعلى بني روبيل : " الصوني بن سادون " ، وعلى بني شمعون : " شموال بن صورشكي " ، وعلى بني يهوذا : " يحشون بن عمبيا ذاب{[9419]} وعلى بني يساخر : " شال بن صاعون " ، وعلى بني زبلون : " الياب بن حالوب{[9420]} ، وعلى بني يوسف إفرايم : " منشا{[9421]} بن عمنهود " ، وعلى بني منشا : " حمليائيل بن يرصون " ، وعلى بني بنيامين : " أبيدن بن جدعون " ، وعلى بني دان : " جعيذر بن عميشذي " ، وعلى بني أسير : " نحايل بن عجران " ، وعلى بني حاز : " السيف بن دعواييل " ، وعلى بني نفتالي : " أجزع بن عمينان " .
وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة ، كان فيهم اثنا عشر نقيبًا ، ثلاثة من الأوس وهم : أسيد بن الحُضَيْر ، وسعد بن خَيْثَمَة ، ورفاعة بن عبد المنذر - ويقال بدله : أبو الهيثم بن التيهان - رضي الله عنهم ، وتسعة من الخزرج ، وهم : أبو أمامة أسعد بن زُرَارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك بن العَجْلان{[9422]} والبراء بن مَعْرور ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عُبَادة ، وعبد الله بن عَمْرو بن حرام ، والمنذر بن عَمْرو بن خُنَيس ، رضي الله عنهم . وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له ، كما أورده ابن إسحاق ، رحمه الله . {[9423]}
والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك ، وهم الذين ولوا المبايعة والمعاقدة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن زيد ، عن مُجالد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد منذ قدمتُ العراق قبلك ، ثم قال : نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل " .
هذا حديث غريب من هذا الوجه{[9424]} وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من{[9425]} حديث جابر بن سَمُرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا " . ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عَلَيّ ، فسألت أبي : ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : " كلهم من قريش " .
وهذا لفظ مسلم{[9426]} ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحًا{[9427]} يقيم الحق ويعدل فيهم ، ولا يلزم من هذا تواليهم{[9428]} وتتابع أيامهم ، بل قد وجد منهم أربعة على نَسَق ، وهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، رضي الله عنهم ، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة ، وبعض بني العباس . ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة ، والظاهر أن منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره : أنه يُواطئُ اسمُه اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، واسم أبيه اسم أبيه ، فيملأ الأرض عدْلا وقِسْطًا ، كما ملئت جَوْرا وظُلْمًا ، وليس هذا بالمنتظر الذي يتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب " سَامرّاء " . فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية ، بل هو من هَوَسِ العقول السخيفة ، وَتَوَهُّم الخيالات الضعيفة ، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة [ الاثني عشر ]{[9429]} الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض ، لجهلهم وقلة عقلهم . وفي التوراة البشارة بإسماعيل ، عليه السلام ، وأن الله يقيم من صُلْبِه اثني عشر عظيما ، وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود ، وجابر بن سَمُرة ، وبعض الجهلة ممن أسلم{[9430]} من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر ، فيتشيع كثير منهم جهلا وسَفَها ، لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ } أي : بحفظي وكَلاءتي ونصري { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي } أي : صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي : نصرتموهم وآزرتموهم على الحق { وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } وهو : الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته { لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أي : ذنوبكم أمحوها وأسترها ، ولا أؤاخذكم بها { وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : أدفع عنكم المحذور ، وأحصل لكم المقصود .
وقوله : { فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي : فمن خالف هذا الميثاق بعد عَقْده وتوكيده وشدَه ، وجحده وعامله معاملة من لا يعرفه ، فقد أخطأ الطريق الحق ، وعدل عن الهدى إلى الضلال .
{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } شاهدا من كل سبط ينقب عن أحوال قومه ويفتش عنها ، أو كفيلا يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به . روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من فرعون واستقروا بمصر ، أمرهم الله سبحانه وتعالى بالمسير إلى أريحاء من أرض الشام ، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون وقال : إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم ، وأمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء بما أمروا به ، فأخذ عليهم الميثاق واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ، ونهاهم أن يحدثوا قومهم ، فرأوا أجراما عظيمة وبأسا شديدا فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ونكث الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا ، ويوشع بن نون من سبط افراييم بن يوسف . { وقال الله إني معكم } بالنصرة { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم } أي نصرتموهم وقويتموهم وأصله الذب ومنه التعزيز . { وأقرضتم الله قرضا حسنا } بالإنفاق في سبيل الخير وقرضا يحتمل المصدر والمفعول . { لأكفرن عنكم سيئاتكم } جواب للقسم المدلول عليه باللام في لئن ساد مسد جواب الشرط . { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك } بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم . { منكم فقد ضل سواء السبيل } ضلالا لا شبهة فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك ، إذ قد يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم له معذرة .
ناسب ذكرُ ميثاق بني إسرائيل عقب ذكر ميثاق المسلمين من قوله : { وميثاقه الّذي واثقكم به } [ المائدة : 7 ] تحذيراً من أن يكون ميثاقنا كميثاقهم . ومحلّ الموعظة هو قوله : { فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل } . وهكذا شأن القرآن في التفنّن ومجيء الإرشاد في قالب القصص ، والتنقّل من أسلوب إلى إسلوب .
وتأكيد الخبر الفعلي بقَد وباللام للاهتمام به ، كما يجيء التأكيد بإنّ للاهتمام وليس ثَمّ متردّد ولا مُنزّل منزلتَه . وذكر مواثيق بني إسرائيل تقدّم في سورة البقرة .
والبعث أصله التوجيه والإرسال ، ويطلق مجازاً على الإقامة والإنهاض كقوله : { مَنْ بعثنا من مرقَدنا } [ يس : 52 ] ، وقوله : { فهذا يوم البعث } [ الروم : 56 ] . ثم شاع هذا المجاز حتّى بني عليه مجاز آخر بإطلاقه على الإقامة المجازية { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] ، ثُمّ أطلق على إثارة الأشياء وإنشاء الخواطر في النفس . قال مُتمم بن نويرة :
فقلت لهم إنّ الأسى يَبْعَثُ الأسى
أي أنّ الحزن يثير حزناً آخر . وهو هنا يحتمل المعنى الأول والمعنى الثّالث .
والعدولُ عن طريق الغيبة من قوله : { ولقد أخذ الله } إلى طريق التكلّم في قوله : { وبعثَنا } التفات .
والنقيب فَعيل بمعنى فاعل : إمّا من نَقَب إذا حفر مجازاً ، أو من نقَّب إذا بعث { فنقَّبُوا في البلاد } [ ق : 36 ] ، وعلى الأخير يكون صوغ فعيل منه على خلاف القياس ، وهو وارد كما صيغ سميع من أسمعَ في قول عمرو بن معد يكرب :
ووصفه تعالى بالحكيم بمعنى المُحكم للأمور . فالنقيب الموكول إليه تدبير القوم ، لأنّ ذلك يجعله باحثاً عن أحوالهم ؛ فيطلق على الرّئيس وعلى قائد الجيش وعلى الرائد ، ومنه ما في حديث بيعة العقبة أنّ نقباء الأنصار يومئذٍ كانوا اثني عشر رجلاً .
والمراد بنقباء بني إسرائيل هنا يجوز أن يكونوا رؤساء جيوش ، ويجوز أن يكونوا رُواداً وجواسيس ، وكلاهما واقع في حوادث بني إسرائيل .
فأمّا الأوّل فيناسب أن يكون البعث معه بمعنى الإقامة ، وقد أقام موسى عليْه السّلام من بني إسرائيل اثني عشر رئيساً على جيش بني إسرائيل على عدد الأسباط المجنّدين ، فجعل لكلّ سبط نقيباً ، وجعل لسبط يوسف نقيبين ، ولم يجعل لسبط لاوي نقيباً ، لأنّ اللاويين كانوا غير معدودين في الجيش إذ هم حفظة الشريعة ، فقد جاء في أوّل سفر العَدد : كلّم الله موسى : أحصوا كلّ جماعة إسرائيل بعشائرهم بعدد الأسماء من ابن عشرين فصاعداً كلّ خارج للحرب في إسرائيل حسب أجنادهم ، تحسبهم أنت وهارون ، ويكون معكما رجل لكلّ سبط رؤوس ألوف إسرائيل « وكلّم الربّ موسى قائلاً : أمّا سبط لاوي فلا تعدّه بل وكِّلْ اللاويين على مسكن الشهادة وعلى جميع أمتعته » . وكان ذلك في الشهر الثّاني من السنة الثّانية من خروجهم من مصر في برية سينا .
وأمّا الثّاني فيناسب أن يكون البعث فيه بمعناه الأصلي ، فقد بعث موسى اثني عشر رجلاً من أسباط إسرائيل لاختبار أحوال الأمم الَّتي حولهم في أرض كنعان ، وهم غير الاثني عشر نقيباً الذين جعلهم رؤساء على قبائلهم . ومن هؤلاء يوشع بن نون من سبط أفرايم ، وكالب بن يفنة من سبط يهوذا ، وهما الوارد ذكرهما في قوله تعالى : { قال رجلان من الّذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب } [ المائدة : 23 ] ، كما سيأتي في هذه السورة . وقد ذُكرت أسماؤهم في الفصل الثالث عشر من سفر العدد . والظاهر أنّ المراد هنا النقباء الّذين أقيموا لجند إسرائيل .
والمعيّة في قوله : { إنّي معكم } معيّة مجازية ، تمثيل للعناية والحفظ والنصر ، قال تعالى : { إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنِّي معكم } [ الأنفال : 12 ] ، وقال : { إنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وأرى } [ طه : 46 ] وقال : { وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير } [ الحديد : 4 ] . والظاهر أنّ هذا القول وقع وعداً بالجزاء على الوفاء بالميثاق .
وجملة { لئن أقمتم الصلاة } الآية . واستئناف محْض ليس منها شيء يتعلّق ببعض ألفاظ الجملة الّتي قبلها وإنَّما جمعهما العامل ، وهو فعل القول ، فكلتاهما مقول ، ولذلك يحسن الوقف على قوله : { إنّي معكم } ، ثم يُستأنف قوله : { لئن أقمتم الصّلاة } إلى آخره . ولام { لئن أقمتم } موطّئة للقسم ، ولام { لأكَفِّرَنَّ } لام جواب القسم ، ولعلّ هذا بعض ما تضمّنه الميثاق ، كما أنّ قوله : { لأكفرنّ عنكم سيّئاتكم } بعض ما شمله قوله : { إنِّي معكم } .
والمراد بالزكاة ما كان مفروضاً على بني إسرائيل : من إعطائهم عشر محصولات ثمارهم وزرعهم ، ممّا جاء في الفصل الثامن عشر من سفر العدد ، والفصل الرابع عشر والفصل التاسع عشر من سفر التثنية . وقد مضى القول فيه عند قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين } في سورة البقرة ( 43 ) .
والتعزيرُ : النصر . يقال : عزَره مخفّفاً ، وعزّره مشدّداً ، وهو مبالغة في عزَرَهُ عزراً إذا نصره ، وأصله المنع ، لأنّ النّاصر يمنع المعتدي على منصوره .
ومعنى وأقرضتم الله قرضاً حسناً } الصدقات غير الواجبة .
وتكفير السيّئات : مغفرة ما فرط منهم من التعاصي للرسول فجعل الطاعة والتوبة مُكفّرتين عن المعاصي .
وقوله : { فقد ضلّ سواء السبيل } أي فقد حاد عن الطريق المستقيم ، وذلك لا عذر للسائر فيه حين يضلّه ، لأنّ الطريق السوي لا يحوج السائر فيه إلى الروغان في ثنيّاتتٍ قد تختلط عليه وتفضي به إلى التيه في الضلال .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذه الآية أنزلت إعلاما من الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أخلاقَ الذين هموا ببسط أيديهم إليهم من اليهود... وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بينهم وبينه من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقهم وأخلاق أسلافهم قديما، واحتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود باطلاعه إياه على ما كان علمه عندهم دون العرب من خفيّ أمورهم ومكنون علومهم، وتوبيخا لليهود في تماديهم في الغيّ، وإصرارهم على الكفر مع علمهم بخطأ ما هم عليهم مقيمون. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تستعظموا أمر الذين هموا ببسط أيديهم إليهم من هؤلاء اليهود بما هموا به لكم، ولا أمر الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسلافهم، لا يعدُون أن يكونوا على منهاج أوّلهم وطريق سلفهم. ثم ابتدأ الخبر عزّ ذكره عن بعض غدراتهم وخياناتهم وجراءتهم على ربهم ونقضهم ميثاقهم الذي واثقهم عليه بارئهم، مع نعمه التي خصهم بها، وكراماته التي طوّقهم شكرها، فقال: ولقد أخذ الله ميثاق سلف من همّ ببسط يده إليكم من يهود بني إسرائيل يا معشر المؤمنين بالوفاء له بعهوده وطاعته فيما أمرهم ونهاهم. عن أبي العالية في قوله:"وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ" قال: أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره.
"وَبَعَثْنا مِنْهُمْ اثْنَى عَشَرَ نَقِيبا": وبعثنا منهم اثني عشر كفيلاً، كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به، وفيما نهاهم عنه. والنقيب في كلام العرب، كالعريف على القوم، غير أنه فوق العريف... وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول: هو الأمين الضامن على القوم. فأما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا بينهم في تأويله، فقال بعضهم: هو الشاهد على قومه.
وإنما كان الله أمر موسى نبيه صلى الله عليه وسلم ببعثه النقباء الاثني عشر من قومه بني إسرائيل إلى أرض الجبابرة بالشام ليتجسسوا لموسى أخبارهم إذ أراد هلاكهم، وأن يورّث أرضهم وديارهم موسى وقومه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر، فبعث موسى الذين أمره الله ببعثهم إليها من النقباء...
"وَقالَ اللّهُ إنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أقَمْتُمُ الصّلاةَ وآتَيْتُمُ الزّكاةَ وآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزّرْتمُوهُمْ وأقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضا حَسَنَا":
يقول الله تعالى ذكره: وَقالَ اللّهُ لبني إسرائيل إنّي مَعَكُمْ يقول: إني ناصركم على عدوّكم وعدوي الذين أمرتكم بقتالهم إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم. وفي الكلام محذوف استُغني بما ظهر من الكلام عما حذف منه، وذلك أن معنى الكلام: وقال الله لهم: إني معكم، فترك ذكر «لهم»، استغناء بقوله: "وَلَقَدْ أخَذَ اللّهُ مِيثاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ "إذ كان متقدم الخبر عن قوم مسمّين بأعيانهم كان معلوما أن سياق ما في الكلام من الخبر عنهم، إذ لم يكن الكلام مصروفا عنهم إلى غيرهم. ثم ابتدأ ربنا جلّ ثناؤه القسم، فقال: قسم لَئِنْ أقَمْتُمْ معشر بني إسرائيل الصّلاةَ وآتَيْتُمُ الزّكاةَ: أي أعطيتموها من أمرتكم بإعطائها، "وآمَنْتُمْ بِرُسُلِي": وصدّقتم بما أتاكم به رسلي من شرائع ديني. وكان الربيع بن أنس يقول: هذا خطاب من الله للنقباء الاثني عشر.
وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب، غير أن من قضاء الله في جميع خلقه أنه ناصرٌ من أطاعه، وولي من اتبع أمره وتجنب معصيته وجافي ذنوبه. فإذ كان ذلك كذلك، وكان من طاعته: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، وسائر ما ندب القوم إليه كان معلوما أن تكفير السيئات بذلك وإدخال الجنات به لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم، فكان ذلك بأن يكون ندبا للقوم جميعا وحضّا لهم على ما حضهم عليه، أحقّ وأولى من أن يكون ندبا لبعض وحضّا لخاصّ دون عام.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وَعَزّرْتُمُوهُمْ"؛
فقال بعضهُم: تأويل ذلك: "ونصرتموهم".
وقال آخرون: هو الطاعة والنصرة. واختلف أهل العربية في تأويله، فذكر عن يونس الحِرمرِي أنه كان يقول: تأويل ذلك: أثنيتم عليهم.
وكان أبو عبيدة يقول: معنى ذلك نصرتموهم وأعنتموهم ووقرتموهم وعظمتموهم وأيدتموهم.
وكان الفرّاء يقول: العزر: الردّ، عزرته: رددته إذا رأيته يظلم، فقلت: اتق الله أو نهيته، فذلك العزر.
وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: نصرتموهم، وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال في سورة الفتح: "إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدا وَمُبَشّرا وَنَذِيرا لِتُؤْمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ وتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ". فالتوقير: هو التعظيم. وإذا كان ذلك كذلك، كان القول في ذلك إنما هو بعض ما ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه التعظيم، وكان النصر قد يكون باليد واللسان؛ فأما باليد فالذبّ بها عنه بالسيف وغيره، وأما باللسان فحسن الثناء، والذبّ عن العرض، صحّ أنه النصر إذ كان النصر يحوي معنى كلّ قائل قال فيه قولاً مما حكينا عنه.
"وأقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا": وأنفقتم في سبيل الله، وذلك في جهاد عدوّه وعدوّكم، "قَرْضا حَسَنا": وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله، فأصبتم الحقّ في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك، ولم تتعدّوا فيه حدود الله وما ندبكم إليه وحثكم عليه إلى غيره.
"لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ": يعني جلّ ثناؤه بذلك بني إسرائيل، يقول لهم جلّ ثناؤه: لئن أقمتم الصلاة أيها القوم الذين أعطوني ميثاقهم بالوفاء بطاعتي، واتباع أمري، وآتيتم الزكاة، وفعلتم سائر ما وعدتكم عليه جنتي "لأُكَفّرَنّ عَنْكُمْ سَيّئَاتَكُمْ": لأغطين بعفوي عنكم وصفحي عن عقوبتكم، على سالف إجرامكم التي أجرمتموها فيما بين وبينكم على ذنوبكم التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم، "ولأدْخِلَنّكُمْ" مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة "جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُ"، فالجنات: البساتين.
وإنما قلت: معنى قوله: لأُكَفّرَنّ: لأغطينّ، لأن الكفر معناه الجحود والتغطية والستر.
"فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ": فمن جحد منكم يا معشر بني إسرائيل شيئا مما أمرته به، فتركه، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي، "فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ": فقد أخطأ قصد الطريق الواضح، وزلّ عن منهج السبيل القاصد. والضلال: الركوب على غير هدى. وقوله: "سَوَاءَ" يعني به: وسط السبيل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم اختلف في النقيب؛ قال بعضهم: النقيب هو الملك، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال أبو عوسجة: النقيب هو المنظور إليه والمصدور عن رأيه، وهو من وجوه القوم، وجمعه النقباء مثل العرفاء. وقال أبو عبيد: النقيب: الأمير والضامن على القوم... وقال القتبي: الكفيل على القوم...
وما ذكر من الوعيد في الآية التي هي على إثر هذه على كل من نقض ذلك العهد النقيب وغير النقيب. ثم قوله تعالى: {لئن أقمتم الصلاة وءاتيتم الزكاة} يحتمل وجهين: يحتمل أنه أراد بالصلاة الخضوع والثناء له وبالزكاة تزكية النفس وطهارتها، وذلك في الفعل؛ على كل أحد القيام به في كل وقت. ويحتمل أن يكون أراد بالصلاة المعروفة المعهودة والزكاة المعروفة. ففيه دليل وجوب الصلاة والزكاة على الأمم السالفة. وقوله تعالى: {وءامنتم برسلي} يحتمل أن تؤمنوا برسلي جميعا، ولا تفرقوا بينهم: أن تكفروا ببعض، وتؤمنوا ببعض كقولهم: {نؤمن ببعض ونكفر ببعض} [النساء: 150] {وعزرتموهم} قال القتبي وأبو عوسجة، قالا: وعظمتموهم، والتعزير: التعظيم...
[وقوله تعالى]: {وأقرضتم الله قرض حسنا} [أي صادقا من كل أنفسكم [ابتغيتم به] وجه الله. وقال بعضهم: {وأقرضتم الله قرضا حسنا} أي محتسبا؛ طيبة به أنفسكم. ويحتمل قوله تعالى: {وأقرضتم الله قرضا حسنا} أي جعلتم عند الله أنفسكم أيادي ومحاسن؛ تستوجبون بذلك الثواب الجزيل.
قد اختُلف في المراد بالنقيب ههنا، فقال الحسن:"الضمين". وقال الربيع بن أنس: "الأمين". وقال قتادة: "الشهيد على قومه". وقيل إن أصل النقيب مأخوذ من النّقْبِ وهو الثقب الواسع، فقيل نقيب القوم لأنه ينقب على أحوالهم وعن مكنون ضمائرهم وأسرارهم، فسُمّي رئيس العرفاء نقيباً لهذا المعنى. وأما قول الحسن إنه الضمين، فإنما أراد به أنه الضمين لتعرُّف أحوالهم وأمورهم وصلاحهم وفسادهم واستقامتهم وعدولهم ليرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار اثني عشر نقيباً على هذا المعنى. وقول الربيع بن أنس إنه الأمين، وقول قتادة إنه الشهيد، يقارب ما قال الحسن أيضاً؛ لأنه أمينٌ عليهم وشهيدٌ بما يعملون به ويجري عليهم أمورهم. وإنما نَقَّبَ النبي صلى الله عليه وسلم النقباء لشيئين: أحدهما لمراعاة أحوالهم وأمورهم وإعلامها النبي صلى الله عليه وسلم ليَدَّبَّرَ فيهم بما يرى. والثاني: أنهم إذا علموا أن عليهم نقيباً كانوا أقرب إلى الاستقامة، إذ علموا أن أخبارهم تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن كل واحد منهم يحتشم مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يَنُوبُهُ ويَعْرِضُ له من الحوائج قبله، فيقوم عنه النقيب فيه. وليس يجوز أن يكون النقيب ضامناً عنهم الوفاء بالعهد والميثاق؛ لأن ذلك معنى لا يصح ضمانه ولا يمكن الضمين فعله ولا القيام به، فعلمنا أنه على المعنى الأولى. وفي هذه الآية دلالةٌ على قبول خبر الواحد؛ لأن نقيب كلّ قوم إنما نُصِبَ ليعرِّفَ أحوالَهُمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أو الإمامَ، فلولا أن خبره مقبولٌ لما كان لنصبه وجه. فإن قيل: إنما يدل ذلك على قبول خبر الاثني عشر دون الواحد. قيل له: إن الاثني عشر لم يكونوا نقباء على جميع بني إسرائيل بجملتهم، وإنما كان كل واحد منهم نقيباً على قومه خاصة دون الآخرين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضلّ سواء السبيل. قلت: أجل، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم، لأنّ الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وتمادى.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
...فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْمَرْءُ وَيَحْتَاجُ إلَى اطِّلَاعِهِ من حَاجَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، فَيُرَكِّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، وَيَرْبِطُ بِهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ.
وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مِثْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ رُوِيَ (أَنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا تَائِبِينَ إلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النَّاسَ، وَسَأَلَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا نَصِيبَهُمْ لَهُمْ من السَّبْيِ فَقَالُوا قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ)..
المسألة الأولى: اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها: الأول: أنه تعالى خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم الله وأطعنا} ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل أولئك اليهود في هذا الخلق الذميم لئلا تصيروا مثلهم فيما نزل بهم من اللعن والذلة والمسكنة، والثاني: أنه لما ذكر قوله {اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} وقد ذكرنا في بعض الروايات أن هذه الآية نزلت في اليهود، وأنهم أرادوا إيقاع الشر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بذكر فضائحهم وبيان أنهم أبدا كانوا مواظبين على نقض العهود والمواثيق، الثالث: أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان، فذكر تعالى أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والإلزام غير مخصوصة بهم، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده...
السؤال الأول: لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها؟ والجواب: أن اليهود كانوا مقرين بأنه لابد في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل، فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لابد من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود، وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل...
والسؤال الثالث: قوله {وأقرضتم الله قرضا حسنا} دخل تحت إيتاء الزكاة، فما الفائدة في الإعادة؟ والجواب: المراد بإيتاء الزكاة الواجبات. وبهذا الإقراض الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيها على شرفها وعلو مرتبتها. قال الفراء: ولو قال: وأقرضتم الله إقراضا حسنا لكان صوابا أيضا إلا أنه قد يقام الاسم مقام المصدر، ومثله قوله {فتقبلها ربها بقبول حسن} ولم يقل يتقبل، وقوله {وأنبتها نباتا حسنا} ولم يقل إنباتا.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وقال الله إني معكم} أي بالنصر والحياطة. وفي هذه المعية دلالة على عظم الاعتناء والنصرة، وتحليل ما شرطه عليهم مما يأتي بعد، وضمير الخطاب هو لبني إسرائيل جميعاً.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إن وجه الاتصال والمناسبة بين هذه الآيات وما قبلها يعلم مما تقدم من أخذ الله الميثاق على هذه الأمة، وهذا من المقاصد التي لا تختلف باختلاف الأزمنة فكان عاما في جميع الأمم التي بعث الله فيها الرسل، كما قلناه في تفسير تلك الآية. فلما ذكرنا الله تعالى بميثاقه الذي واثقنا به، على السمع والطاعة لخاتم رسله، ذكر لنا أخذه مثل هذا الميثاق على أقرب الأمم إلينا وطنا وتاريخا وهم اليهود والنصارى، وما كان من نقضهم ميثاقه، ومن عقابه لهم على ذلك في الدنيا، وما ينتظرون من عقاب الآخرة وهو أشد وأبقى – لنعتبر بحالهم، ونتقي حذو مثالهم، وليبين لنا علة كفرهم بنبينا وتصديهم لإيذائه وعداوة أمته، وليقيم بذلك الحجة عليهم فيما تراه بعد هذه الآيات. فهذا مبدأ سياق طويل في محاجة أهل الكتاب وبيان أنواع كفرهم وضلالهم.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} يقسم عز وجل أنه قد أخذ العهد الموثق على بني إسرائيل ليعملن بالتوراة التي شرعها لهم، لإفادة تأكيد هذا الأمر وتحقيقه والاهتمام بما رتب عليه، لأن الرسول قد علمه بالوحي الإلهي وإن لم يطلع على توراتهم ولا على شيء من تاريخيهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في نهاية الدرس الماضي، ذكر الله المسلمين بميثاقهم الذي واثقهم به؛ وذكرهم نعمته التي أنعم بها عليهم في هذا الميثاق. ذلك كي يؤدوا من جانبهم ما استحفظوا عليه؛ ويتقوا أن ينقضوا ميثاقهم معه.
فالآن يستغرق هذا الدرس كل كذلك يتضمن دعوتهم من جديد إلى الهدى.. الهدى الذي جاءتهم به الرسالة الأخيرة؛ وجاءهم به الرسول الأخير. ودحض ما قد يدعونه من حجة في أنه طال عليهم الأمد، ومرت بهم فترة طويلة منذ آخر أنبيائهم، فنسوا ولبس عليهم الأمر.. فها هو ذا قد جاءهم بشير ونذير. فسقطت الحجة، وقام الدليل. ومن خلال هذه الدعوة، تتبين وحدة دين الله -في أساسه- ووحده ميثاق الله مع جميع عباده: أن يؤمنوا به، ويوحدوه، ويؤمنوا برسله دون تفريق بينهم، وينصروهم، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وينفقوا في سبيل الله من رزق الله.. فهو الميثاق الذي يقرر العقيدة الصحيحة، ويقرر العبادة الصحيحة، ويقرر أسس النظام الاجتماعي الصحيح...
(إني معكم).. وهو وعد عظيم. فمن كان الله معه، فلا شيء إذن ضده. ومهما يكن ضده من شيء فهو هباء لا وجود -في الحقيقة- له ولا أثر. ومن كان الله معه فلن يضل طريقه، فإن معية الله -سبحانه- تهديه كما أنها تكفيه. ومن كان الله معه فلن يقلق ولن يشقى، فإن قربه من الله يطمئنه ويسعده.. وعلى الجملة فمن كان الله معه فقد ضمن، وقد وصل، وما له زيادة يستزيدها على هذا المقام الكريم. ولكن الله -سبحانه- لم يجعل معيته لهم جزافا ولا محاباة؛ ولا كرامة شخصية منقطعة عن أسبابها وشروطها عنده.. إنما هو عقد.. فيه شرط وجزاء. شرطه: إقامة الصلاة.. لا مجرد أداء الصلاة.. إقامتها على أصولها التي تجعل منها صلة حقيقية بين العبد والرب؛ وعنصرا تهذيبيا وتربويا وفق المنهج الرباني القويم؛ وناهيا عن الفحشاء والمنكر حياء من الوقوف بين يدي الله بحصيلة من الفحشاء والمنكر! وإيتاء الزكاة.. اعترافا بنعمة الله في الرزق؛ وملكيته ابتداء للمال؛ وطاعة له في التصرف في هذا المال وفق شرطه -وهو المالك والناس في المال وكلاء- وتحقيقا للتكافل الاجتماعي الذي على أساسه تقوم حياة المجتمع المؤمن؛ وإقامة لأسس الحياة الاقتصادية على المنهج الذي يكفل ألا يكون المال دولة بين الأغنياء، وألا يكون تكدس المال في أيد قليلة سببا في الكساد العام بعجز الكثرة عن الشراء والاستهلاك مما ينتهي إلى وقف دولاب الإنتاج أو تبطئته؛ كما يفضي إلى الترف في جانب والشظف في جانب، وإلى الفساد والاختلال في المجتمع بشتى ألوانه.. كل هذا الشر الذي تحول دونه الزكاة؛ ويحول دونه منهج الله في توزيع المال؛ وفي دورة الاقتصاد.. والإيمان برسل الله.. كلهم دون تفرقة بينهم. فكلهم جاء من عند الله؛ وكلهم جاء بدين الله. وعدم الإيمان بواحد منهم كفر بهم جميعا، وكفر بالله الذي بعث بهم جميعا.. وليس هو مجرد الإيمان السلبي، إنما هو العمل الإيجابي في نصرة هؤلاء الرسل، وشد أزرهم فيما ندبهم الله له، وفيما وقفوا حياتهم كلها لأدائه.. فالإيمان بدين الله من مقتضاه أن ينهض لينصر ما آمن به، وليقيمه في الأرض، وليحققه في حياة الناس. فدين الله ليس مجرد تصور اعتقادي، ولا مجرد شعائر تعبدية. إنما هو منهج واقعي للحياة. ونظام محدد يصرف شئون هذه الحياة. والمنهج والنظام في حاجة إلى نصرة، وتعزيز، وإلى جهد وجهاد لتحقيقه ولحمايته بعد تحقيقه.. وإلا فما وفي المؤمن بالميثاق. وبعد الزكاة إنفاق عام.. يقول عنه الله -سبحانه- إنه قرض لله.. والله هو المالك، وهو الواهب.. ولكنه -فضلا منه ومنة- يسمي ما ينفقه الموهوب له -متى أنفقه لله- قرضا لله.. ذلك كان الشرط. فأما الجزاء فكان: تكفير السيئات.. والإنسان الذي لا يني يخطى ء، ولا يني يندفع إلى السيئة مهما جاء بالحسنة.. تكفير السيئات بالنسبة إليه جزاء ضخم ورحمة من الله واسعة، وتدارك لضعفة وعجزه وتقصيره.. وجنة تجري من تحتها الأنهار.. وهي فضل خالص من الله، لا يبلغه الإنسان بعمله، إنما يبلغه بفضل من الله، حين يبذل الجهد، فيما يملك وفيما يطيق.. وكان هنالك شرطا جزائي في الميثاق: (فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل).. فلا هدى له بعد ذلك، ولا أوبة له من الضلال. بعد إذ تبين له الهدى، وتحدد معه العقد، ووضح له الطريق، وتأكد له الجزاء.. ذلك كان ميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل.. عمن وراءهم. وقد ارتضوه جميعا؛ فصار ميثاقا مع كل فرد فيهم، وميثاقا مع الأمة المؤلفة منهم.. فماذا كان من بني إسرائيل!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والالتزام الذي أوجبه ميثاق الله تعالى عليه يتصل بتهذيب النفوس، والتعاون الاجتماعي والجهاد والإيمان وقد ذكره سبحانه وتعالى في خمسة أركان: أولها: ما قاله سبحانه في صدر العهد: {لئن أقمتم الصلاة} فالصلاة هي الركن الأول من الميثاق الرباني الإلهي وابتدئ بذكرها لأنها طهارة النفوس، وتزكية القلوب وبها تربية الضمير الذي يكون جماعة مؤتلفة وإقامتها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتربي في النفس روح الخير، والإحساس بعظمة الله تعالى، ولا يمكن أن يكون الوفاء بالميثاق الإلهي من غير إقامة الصلاة فإنها ركن كل دين وروح التدين الصحيح وقوامه، وعبر بإقامتها دون أدائها، فقد قال: {لئن أقمتم الصلاة} لأن الصلاة التي تأتي بثمراتها هي الصلاة الكاملة التي يأتي بها صاحبها مقومة غير ملتوية يتجه فيها بالبنية إلى الله تعالى، ويخلص فيها لا التي تكون رئاء الناس أو تؤدى على وجه العادة لا على وجه العبادة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
الربع الأخير من الحزب الحادي عشر في المصحف الكريم تعرض الآيات الكريمة في هذا الربع الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل، وما تجرؤوا عليه من نقض لذلك الميثاق، وما نالهم من عذاب، نتيجة نقضه وخيانته {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا، وقال الله إني معكم}، ومن الفوائد في هذا الربع الإشارة إلى (النقباء) الذين هم بمنزلة النواب والمندوبين عن غيرهم، يتحدثون باسمهم بمختلف المناسبات، وينوبون عنهم في النظر إلى مختلف المشاكل {وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا} فقد وجه موسى عليه السلام النقباء الاثني عشر إلى الأرض المقدسة، ليختبروا حال من بها، ويعلموه بما اطلعوا عليه فيها حتى ينظروا معه في الغزو إليها. وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة، وعددهم في تلك الليلة سبعون رجلا، كان فيهم اثنا عشر نقيبا بعدد نقباء موسى، ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج، وهؤلاء هم الذين تولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وقد جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم نقباء على من كان معهم، وعلى من يأتي بعدهم... وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه (نقيب الأنصار) بالنسبة لنقبائهم ولمن تحتهم جميعا. وكلمة (نقيب) تطلق في اللغة على الأمين والكفيل، وإنما قيل له (نقيب) لأنه يعرف دخيلة أمر القوم ومناقبهم، والمناقب تطلق على الخلق الجميلة وعلى الأخلاق الحسنة. وكما عرف الإسلام (النقباء) فقد عرف (العرفاء)، جمع عريف، وهو الذي يعرف ما عند الشخص الذي كلف به، ليعرف به من جعله عريفا، فقد روي أن وفد هوازن لما جاؤوا تائبين إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلم رسول الله الناس، وسألهم أن يتركوا لهم نصيبهم من السبي، فقال الناس: (قد طيبنا ذلك يا رسول الله – أي وافقنا عليه- لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم). فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا، وبنى قراره صلى الله عليه وسلم على ما بلغه (العرفاء) إليه نيابة عمن يمثلونهم من الناس. وهذه السابقة التاريخية تصح أن تكون سندا لكل نظام تمثيلي يراد إنشاؤه في العالم الإسلامي، تحقيقا للشورى العامة التي أمر بها الإسلام، وطبقها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويجعل الحق سبحانه وتعالى من قصص الرسل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبيتا للإيمان وتربية للأسوة وإنماء لها، حتى لا يضيق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يفعله اليهود أو المشركون فإن كان قد حدث معك يا محمد شيء من هذا الإنكار والإيلام فقد حدث الكثير من تلك الأحداث مع الرسل من قبلك، فيقول سبحانه: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل (12)}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ومن هنا كان الالتزام بالميثاق يجسّد الثبات والقوّة، والائتمار بأوامر الله، وذلك عبر المحافظة على إقامة الصلاة، الّتي تُمثّل انفتاح الإنسان على الله للتعبير بها عن عبوديته المطلقة له، وإيتاء الزكاة، الَّذي يُعبِّر عن القيام بمسؤولية العطاء من أجل الحصول على القرب من الله، والإيمان بالرسل كخطّ للانتماء الَّذي يحكم الفكر والشعور والعمل، ونصرتهم وتعظيمهم كموقفٍ معبّر عن صدق الإيمان، والإنفاق في سبيل الله من دون مقابل، كقرض يقرضه الإنسان لربّه، وتلك هي القضايا الحيويّة الّتي تحكم علاقة الإنسان بربّه وعلاقته بالنّاس والحياة، ما يُمثِّل قاعدة الانطلاق في مسيرته مع الكون.