أشارت السورة إلى أمر أغضب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض زوجاته ، فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفوس مما أحله الله له ، وحذرت زوجاته مغبة ما أقدمن عليه ، ثم انتقلت السورة إلى أمر المؤمنين أن يقوا أنفسهم وأهليهم نارا وقودها الناس والحجارة ، وبينت أنه لا يقبل من الكافرين اعتذارا يوم القيامة . ودعت المؤمنين إلى التوبة النصوح ، والرسول صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الكفار والمنافقين ، والغلظة عليهم ، وختمت بضرب الأمثلة لبيان : أن صلاح الأزواج لا يرد عذاب الله عن زوجاتهم إن كن منحرفات ، وإن فساد الأزواج لا يضر الزوجات إن كن صالحات مستقيمات ، فكل نفس بما كسبت رهينة .
1- يا أيها النبي لِمَ تمنع نفسك عمَّا أحل الله لك ؟ ! تريد إرضاء زوجاتك ، والله بالغ المغفرة واسع الرحمة .
{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } وسبب نزولها ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبيد الله بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء ويحب العسل ، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه فيدنو منهن ، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شربة ، فقلت : أما والله لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسودة ، وقلت : إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له : يا رسول الله أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول : لا ، فقولي له : ما هذه الريح وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح ، فإنه سيقول : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي له : يا رسول الله جرست نحله العرفط ، وسأقول ذلك وقوليه أنت يا صفية ، فلما دخل على سودة ، تقول سودة : والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب ، فرقاً منك ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله أكلت مغافير ؟ قال : لا ، قلت : فما بال هذه الريح ! قال : سقتني حفصة شربة عسل ، قالت : جرست نحلة العرفط ، فلما دخل علي قلت له مثل ذلك ، ودخل على صفية فقالت له مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة قالت له : يا رسول الله ألا أسقيك منه قال : لا حاجة لي به ، قالت : تقول سودة : سبحان الله لقد حرمناه ، قالت : قلت لها اسكتي " .
وأخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحسن بن محمد الصباح ، حدثنا الحجاج عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول " سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً فتواطيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها الرسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير ، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك ، فقال : لا بأس شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له ، فنزلت : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } إلى قوله :{ إن تتوبا إلى الله } لعائشة وحفصة ، { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً } لقوله : بل شربت عسلاً " . وبهذا الإسناد قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريح ، عن عطاء بإسناده وقال : قال : لا ، ولكن كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش فلن أعود له ، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً ، يبتغي بذلك مرضاة أزواجه . وقال المفسرون : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ، فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها ، فلما خرجت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة ، فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت البابا مغلقاً ، فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً ، وحفصة تبكي فقال : ما يبكيك ؟ فقالت : إنما أذنت لي من أجل هذا ، أدخلت أمتك بيتي ، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي حرمة وحقاً ؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليست هي جاريتي أحلها الله لي ؟ اسكتي فهي حرام علي ألتمس بذاك رضاك ، فلا تخبري بهذا امرأة منهن . فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار التي بينها وبين عائشة فقالت : ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية ، وقد أراحنا الله منها ، وأخبرت عائشة بما رأت ، وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها ، فأنزل الله عز وجل :{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } يعني العسل ومارية { تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } .
سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة
عندما جرى قدر الله أن يجعل الإسلام هو الرسالة الأخيرة ؛ وأن يجعل منهجه هو المنهاج الباقي إلى آخر الخليقة ؛ وأن تجري حياة المؤمنين به وفق الناموس الكوني العام ؛ وأن يكون هذا الدين هو الذي يقود حياة البشرية ويهيمن على نشاطها في كل ميدان . .
عندما جرى قدر الله بهذا كله جعل الله هذا المنهج في هذه الصورة ، شاملا كاملا متكاملا ، يلبي كل طاقات البشر واستعداداتهم ، في الوقت الذي يرفع هذه الطاقات وهذه الاستعدادات إلى الأفق اللائق بخليفة الله في الأرض ، وبالكائن الذي كرمه الله على كثير من عباده ، ونفخ فيه من روحه .
وجعل طبيعة هذا الدين الانطلاق بالحياة إلى الأمام : نموا وتكاثرا ، ورفعة وتطهرا ، في آن واحد . فلم يعطل طاقة بانية ، ولم يكبت استعدادا نافعا . بل نشط الطاقات وأيقظ الاستعدادات وفي الوقت ذاته حافظ على توازن حركة الاندفاع إلى الأمام مع حركة الارتفاع إلى الأفق الكريم ، الذي يهيئ الأرواح في الدنيا لمستوى نعيم الآخرة ، ويعد المخلوق الفاني في الأرض للحياة الباقية في دار الخلود .
وعندما جرى قدر الله أن يجعل طبيعة هذه العقيدة هكذا جرى كذلك باختيار رسولها [ صلى الله عليه وسلم ] إنسانا تتمثل فيه هذه العقيدة بكل خصائصها ، وتتجسم فيه بكل حقيقتها ، ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها . إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها . ضليع التكوين الجسدي ، قوي البنية ، سليم البناء ؛ صحيح الحواس ، يقظ الحس ، يتذوق المحسوسات تذوقا كاملا سليما . وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة ، حي الطبع ، سليم الحساسية ، يتذوق الجمال ، متفتح للتلقي والاستجابة . وهو في الوقت ذاته كبير العقل ، واسع الفكر ، فسيح الأفق ، قوي الإرادة ، يملك نفسه ولا تملكه . . ثم هو بعد ذلك كله . . النبي . . الذي تشرق روحه بالنور الكلي ، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج ، والذي ينادى من السماء ، والذي يرى نور ربه ، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر ، فيسلم عليه الحصى والحجر ، ويحن له الجذع ، ويرتجف به أحد - الجبل . . ! . . ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها . فإذا هو التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها . .
ثم يجعل الله حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمته وللبشرية كلها ، تقرأ فيه صور هذه العقيدة ، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية . ومن ثم لا يجعل فيها سرا مخبوءا ، ولا سترا مطويا . بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن ، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي . حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر . بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] للناس !
إنه ليس له في نفسه شيء خاص . فهو لهذه الدعوة كله . فعلام يختبئ جانب من حياته [ صلى الله عليه وسلم ] أو يخبأ ? إن حياته هي المشهد المنظور القريب الممكن التطبيق من هذه العقيدة ؛ وقد جاء [ صلى الله عليه وسلم ] ليعرضها للناس في شخصه ، وفي حياته ، كما يعرضها بلسانه وتوجيهه . ولهذا خلق . ولهذا جاء .
ولقد حفظ عنه أصحابه [ صلى الله عليه وسلم ] ونقلوا للناس بعدهم - جزاهم الله خيرا - أدق تفصيلات هذه الحياة . فلم تبق صغيرة ولا كبيرة حتى في حياته اليومية العادية ، لم تسجل ولم تنقل . . وكان هذا طرفا من قدر الله في تسجيل حياة هذا الرسول ، أو تسجيل دقائق هذه العقيدة مطبقة في حياة الرسول . فكان هذا إلى جانب ما سجله القرآن الكريم من هذه الحياة السجل الباقي للبشرية إلى نهاية الحياة .
وهذه السورة تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض ، وبينهن وبينه ! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته [ صلى الله عليه وسلم ] وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك . . ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه .
والوقت الذي وقعت فيه الأحداث التي تشير إليها السورة ليس محددا . ولكن بالرجوع إلى الروايات التي جاءت عنه يتأكد أنه بعد زواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب بنت جحش قطعا .
ولعله يحسن أن نذكر هنا ملخصا عن قصة أزواج النبي ، وعن حياته البيتية يعين على تصور الحوادث والنصوص التي جاءت بصددها في هذه السورة . ونعتمد في هذا الملخص على ما أثبته الإمام ابن حزم في كتابه : " جوامع السيرة " . . وعلى السيرة لابن هشام مع بعض التعليقات السريعة :
أول أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] خديجة بنت خويلد . تزوجها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل ثلاث وعشرون ، وسنها - رضي الله عنها - أربعون أو فوق الأربعين ، وماتت - رضي الله عنها - قبل الهجرة بثلاث سنوات ، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت . وقد تجاوزت سنه الخمسين .
فلما ماتت خديجة تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - ولم يرو أنها ذات جمال ولا شباب . إنما كانت أرملة للسكران بن عمرو بن عبد شمس . كان زوجها من السابقين إلى الإسلام من مهاجري الحبشة . فلما توفي عنها ، تزوجها رسول الله - [ صلى الله عليه وسلم ] .
ثم تزوج عائشة - رضي الله عنها - بنت الصديق أبي بكر - رضي الله عنه وأرضاه - وكانت صغيرة فلم يدخل بها إلا بعد الهجرة . ولم يتزوج بكرا غيرها . وكانت أحب نسائه إليه ، وقيل كانت سنها تسع سنوات وبقيت معه تسع سنوات وخمسة أشهر . وتوفي عنها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] .
ثم تزوج حفصة بنت عمر - رضي الله عنه وعنها - بعد الهجرة بسنتين وأشهر . تزوجها ثيبا . بعدما عرضها أبوها على أبي بكر وعلى عثمان فلم يستجيبا . فوعده النبي خيرا منهما وتزوجها !
ثم تزوج زينب بنت خزيمة . وكان زوجها الأول عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب قد قتل يوم بدر . وتوفيت زينب هذه في حياته [ صلى الله عليه وسلم ] . وقيل كان زوجها قبل النبي هو عبد الله بن جحش الأسدي المستشهد يوم أحد . ولعل هذا هو الأقرب .
وتزوج أم سلمة . وكانت قبله زوجا لأبي سلمة ، الذي جرح في أحد ، وظل جرحه يعاوده حتى مات به . فتزوج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أرملته . وضم إليه عيالها من أبي سلمة .
وتزوج زينب بنت جحش . بعد أن زوجها لمولاه ومتبناه زيد بن حارثة فلم تستقم حياتهما فطلقها . وقد عرضنا قصتها في سورة الأحزاب في الجزء الثاني والعشرين ، وكانت جميلة وضيئة . وهي التي كانت عائشة - رضي الله عنها - تحس أنها تساميها ، لنسبها من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهي بنت عمته ، ولوضاءتها !
ثم تزوج جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد غزوة بني المصطلق في أواسط السنة السادسة الهجرية . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها . قالت : " لما قسم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في أسهم الثابت ابن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها ، وكانت امرأة حلوة مليحة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه ، فأتت رسول لله [ صلى الله عليه وسلم ] تستعينه في كتابتها . قالت عائشة : فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها ! وعرفت أنه سيرى منها [ صلى الله عليه وسلم ] ما رأيت ، فدخلت عليه فقالت : يا رسول الله . أنا جويرية بنت الحارث بن أبي صرار سيد قومه . وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسي ، فجئت أستعينك على كتابتي . قال : " فهل لك في خير من ذلك ? " قالت : وما هو يا رسول الله ? قال : " أقضي عنك كتابتك وأتزوجك ? " قالت : نعم يا رسول الله . قال : " قد فعلت " " . .
ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بعد الحديبية . وكانت مهاجرة مسلمة في بلاد الحبشة ، فارتد زوجها عبد الله بن جحش إلى النصرانية وتركها . فخطبها النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأمهرها عنه نجاشي الحبشة . وجاءت من هناك إلى المدينة .
وتزوج إثر فتح خيبر بعد الحديبية صفية بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير . وكانت زوجة لكنانة ابن أبي الحقيق وهو من زعماء اليهود أيضا . ويذكر ابن إسحاق في قصة زواجه [ صلى الله عليه وسلم ] منها : أنه أتي بها وبأخرى معها من السبي ، فمر بهما بلال - رضي الله عنه - على قتلى من قتلى اليهود فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " اعزبوا عني هذه الشيطانة " وأمر بصفية فحيزت خلفه ، وألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد اصطفاها لنفسه . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لبلال - فيما بلغني - حين رأى بتلك اليهودية ما رأى : " أنزعت منك الرحمة يا بلال ? حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ? " .
ثم تزوج ميمونة بنت الحارث بن حزن . وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عباس . وكانت قبل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عند أبي رهم بن عبد العزى . وقيل حويطب بن عبد العزى . وهي آخر من تزوج [ صلى الله عليه وسلم ] .
وهكذا ترى أن لكل زوجة من أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] قصة وسببا في زواجه منها . وهن فيمن عدا زينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث ، لم يكن شواب ولا ممن يرغب فيهن الرجال لجمال . وكانت عائشة - رضي الله عنها - هي أحب نسائه إليه . وحتى هاتان اللتان عرف عنهما الجمال والشباب كان هناك عامل نفسي وإنساني آخر - إلى جانب جاذبيتهن - ولست أحاول أن أنفي عنصر الجاذبية الذي لحظته عائشة في جويرية مثلا ، ولا عنصر الجمال الذي عرفت به زينب . فلا حاجة أبدا إلى نفي مثل هذه العناصر الإنسانية من حياة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وليست هذه العناصر موضع اتهام يدفعه الأنصار عن نبيهم . إذا حلا لأعدائه أن يتهموه ! فقد اختير ليكون إنسانا . ولكن إنسانا رفيعا . وهكذا كان . وهكذا كانت دوافعه في حياته وفي أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] على اختلاف الدوافع والأسباب .
ولقد عاش في بيته مع أزواجه بشرا رسولا كما خلقه الله ، وكما أمره أن يقول : ( قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ? ) . .
استمتع بأزواجه وأمتعهن ، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - عنه : " كان إذا خلا بنسائه ألين الناس . وأكرم الناس ضحاكا بساما " . . ولكنه إنما كان يستمتع بهن ويمتعهن من ذات نفسه ، ومن فيض قلبه ، ومن حسن أدبه ، ومن كريم معاملته . فأما حياتهن المادية فكانت في غالبها كفافا حتى بعد أن فتحت له الفتوح وتبحبح المسلمون بالغنائم والفيء . وقد سبق في سورة الأحزاب قصة طلبهن الوسعة في النفقة ، وما أعقب هذا الطلب من أزمة ، انتهت بتخييرهن بين الله ورسوله والدار الآخرة ، أو المتاع والتسريح من عصمته [ صلى الله عليه وسلم ] فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة .
ولكن الحياة في جو النبوة في بيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لم تكن لتقضي على المشاعر البشرية ، والهواتف البشرية في نفوس أزواجه - رضي الله عنهن - فقد كان يبدر أو يشجر بينهن ، ما لابد أن يشجر في قلوب النساء في مثل هذه الحال . وقد سلف في رواية ابن إسحاق عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كرهت جويرية بمجرد رؤيتها لما توقعته من استملاح رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لها إذا رآها . وصح ما توقعته فعلا ! وكذلك روت هي نفسها حادثا لها مع صفية . قالت . " قلت للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : حسبك من صفية كذا وكذا " . قال الراوي : تعني قصيرة ! فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " . . كذلك روت عن نفسها أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين نزلت آية التخيير التي في الأحزاب ، فاختارت هي الله ورسوله والدار الآخرة ، طلبت إليه ألا يخبر زوجاته عن اختيارها ! - وظاهر لماذا طلبت هذا ! - فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا ، ولكن بعثني معلما ميسرا . لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها . . " .
وهذه الوقائع التي روتها عائشة - رضي الله عنها - عن نفسها - بدافع من صدقها ولتربيتها الإسلامية الناصعة - ليست إلا أمثلة لغيرها تصور هذا الجو الإنساني الذي لابد منه في مثل هذه الحياة . كما تصور كيف كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يؤدي رسالته بالتربية والتعلية في بيته كما يؤديها في أمته سواء .
وهذا الحادث الذي نزل بشأنه صدر هذه السورة هو واحد من تلك الأمثلة التي كانت تقع في حياة الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وفي حياة أزواجه . وقد وردت بشأنه روايات متعددة ومختلفة سنعرض لها عند استعراض النصوص القرآنية في السورة .
وبمناسبة هذا الحادث وما ورد فيه من توجيهات . وبخاصة دعوة الزوجتين المتآمرتين فيه إلى التوبة . أعقبه في السورة دعوة إلى التوبة وإلى قيام أصحاب البيوت على بيوتهم بالتربية ، ووقاية أنفسهم وأهليهم من النار . كما ورد مشهد للكافرين في هذه النار . واختتمت السورة بالحديث عن امرأة نوح وامرأة لوط كمثل للكفر في بيت مؤمن . وعن امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر ، وكذلك عن مريم ابنة عمران التي تطهرت فتلقت النفخة من روح الله وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين . .
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، تبتغي مرضاة أزواجك ، والله غفور رحيم . قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم .
وإذا أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض ، فلما نبأها به قالت : من أنبأك هذا ? قال : نبأني العليم الخبير .
( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ، وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ، والملائكة بعد ذلك ظهير . عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ) . .
وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة منها ما رواه البخاري عند هذه الآية قال : حدثنا إبراهيم ابن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة ، قالت : كان النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها . فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير . إني أجد منك ريح مغافير . قال : " لا . ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له . وقد حلفت . لا تخبري بذلك أحدا " . . فهذا هو ما حرمه على نفسه وهو حلال له : ( لم تحرم ما أحل الله لك ? ) .
ويبدو أن التي حدثها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هذا الحديث وأمرها بستره قالت لزميلتها المتآمرة معها . فأطلع الله رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] على الأمر . فعاد عليها في هذا وذكر لها بعض ما دار بينها وبين زميلتها دون استقصاء لجميعه . تمشيا مع أدبه الكريم . فقد لمس الموضوع لمسا مختصرا لتعرف أنه يعرف وكفى . فدهشت هي وسألته : ( من أنبأك هذا ? ) . . ولعله دار في خلدها أن الأخرى هي التي نبأته ! ولكنه أجابها : ( نبأني العليم الخبير ) . . فالخبر من المصدر الذي يعلمه كله . ومضمون هذا أن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يعلم كل ما دار ، لا الطرف الذي حدثها به وحده !
وقد كان من جراء هذا الحادث وما كشف عنه من تآمر ومكايدات في بيت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن غضب . فآلى من نسائه لا يقربهن شهرا ، وهم بتطليقهن - على ما تسامع المسلمون - ثم نزلت هذه الآيات . وقد هدأ غضبه [ صلى الله عليه وسلم ] فعاد إلى نسائه بعد تفصيل سنذكره بعد عرض رواية أخرى للحادث .
وهذه الرواية الأخرى أخرجها النسائي من حديث أنس ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها . فأنزل الله عز وجل : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ؛ تبتغي مرضات أزواجك . . .
وفي رواية لابن جرير ولابن أسحاق أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وطئ مارية أم ولده إبراهيم في بيت حفصة . فغضبت وعدتها إهانة لها . فوعدها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بتحريم مارية وحلف بهذا . وكلفها كتمان الأمر . فأخبرت به عائشة . . فهذا هو الحديث الذي جاء ذكره في السورة .
وكلا الروايتين يمكن أن يكون هو الذي وقع . وربما كانت هذه الثانية أقرب إلى جو النصوص وإلى ما أعقب الحادث من غضب كاد يؤدي إلى طلاق زوجات الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] نظرا لدقة الموضوع وشدة حساسيته . ولكن الرواية الأولى أقوى إسنادا . وهي في الوقت ذاته ممكنة الوقوع ، ويمكن أن تحدث الآثار التي ترتبت عليها . إذا نظرنا إلى المستوى الذي يسود بيوت النبي ، مما يمكن أن تعد فيه الحادثة بهذا الوصف شيئا كبيرا . . والله أعلم أي ذلك كان .
أما وقع هذا الحادث - حادث إيلاء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] من أزواجه ، فيصوره الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو يرسم كذلك جانبا من صورة المجتمع الإسلامي يومذاك . . قال : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن ابن عباس قال : " لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] اللتين قال الله تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما )حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة ، فتبرز ، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] اللتان قال الله تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما )? فقال عمر : واعجبا لك يا ابن عباس ! [ قال الزهري : كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه ] قال : هي عائشة وحفصة . قال : ثم أخذ يسوق الحديث ، قال : كنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم . قال : وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي . قال : فغضبت يوما على امرأتي ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني . فقالت : ما تنكر أن أراجعك ? فوالله إن أزواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ! قال : فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قالت : نعم ! قلت : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ? قالت : نعم ! قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت ? لا تراجعي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولا تسأليه شيئا وسليني من مالي ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم - أي أجمل - وأحب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] منك - يريد عائشة - قال : وكان لي جار من الأنصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ينزل يوما وأنزل يوما ، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك . قال : وكنا نتحدث أن غسان تنحل الخيل لتغزونا . فنزل صاحبي يوما ثم أتى عشاء فضرب بابي ثم نادى ، فخرجت إليه ، فقال : حدث أمر عظيم . فقلت : وما ذاك ? أجاءت غسان ? قال : لا . بل أعظم من ذلك وأطول ! طلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نساءه ! فقلت : قد خابت حفصة وخسرت ! قد كنت أظن هذا كائنا . حتى إذا صليت الصبح شددت على ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي . فقلت : أطلقكن رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم ? - فقالت : لا أدري . هو هذا معتزل في هذه المشربة . فأتيت غلاما أسودا فقلت : استأذن لعمر . فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ! فانطلقت حتى أتيت المنبر ، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم . فجلست عنده قليلا ، ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر . فدخل ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ! فخرجت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر . فدخل ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ! فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني . فقال : ادخل قد أذن لك . فدخلت فسلمت على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه . فقلت : أطلقت يا رسول الله نساءك ? فرفع رأسه إلي وقال : " لا " . فقلت : الله أكبر ! ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ? فوالله إن أزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ؛ فإذا هي قد هلكت ? فتبسم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] منك ! فتبسم أخرى . فقلت : أستأنس يا رسول الله ! قال : " نعم " فجلست ، فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله . فاستوى جالسا وقال : " أفي شك أنت يا بن الخطاب ? أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . فقلت : استغفر لي يا رسول الله . . وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل " . . [ وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري بهذا النص ] . .
هذه رواية الحادث في السير . فلننظر في السياق القرآني الجميل :
تبدأ السورة بهذا العتاب من الله سبحانه لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] :
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، تبتغي مرضاة أزواجك ، والله غفور رحيم ? قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، والله مولاكم ، وهو العليم الحكيم . .
وهو عتاب مؤثر موح . فما يجوز أن يحرم المؤمن على نفسه ما أحله الله له من متاع . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لم يكن حرم العسل أو مارية بمعنى التحريم الشرعي ؛ إنما كان قد قرر حرمان نفسه . فجاء هذا العتاب يوحي بأن ما جعله الله حلالا فلا يجوز حرمان النفس منه عمدا وقصدا إرضاء لأحد . . والتعقيب : ( والله غفور رحيم ) . . يوحي بأن هذا الحرمان من شأنه أن يستوجب المؤاخذة ، وأن تتداركه مغفرة الله ورحمته . وهو إيحاء لطيف .
اختلُف في سبب نزول صدر هذه السورة ، فقيل : نزلت في شأن مارية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها ، فنزل قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآية .
قال أبو عبد الرحمن النسائي : أخبرنا إبراهيم بن يونس بن محمد ، حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حَرَّمها ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى آخر الآية{[29019]} .
وقال ابن جرير : حدثني ابن عبد الرحيم البرقي{[29020]} حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان ، حدثني زيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه ، فقالت : أي رسول الله ، في بيتي وعلى فراشي ؟ ! فجعلها عليه حرامًا فقالت : أيْ رسول الله ، كيف يَحْرُم عليك الحلال ؟ فحلف لها بالله لا يصيبها . فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال زيد : بن أسلم فقوله : أنت عليَّ حرام لغو{[29021]} .
وهكذا روى عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه .
وقال ابن جرير أيضًا حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، قال : قل لها : " أنت عليَّ حرام ، ووالله لا أطؤك " .
وقال سفيان الثوري وابن عُلَيَّة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم ، فعُوتِبَ في التحريم ، وأمر بالكفارة في اليمين . رواه ابن جرير . وكذا روي عن قتادة ، وغيره ، عن الشعبي ، نفسه . وكذا قال غير واحد من السلف ، منهم الضحاك ، والحسن ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، وروى العوفي ، عن ابن عباس القصة مطولة .
وقال ابن جرير : حدثنا سعيد بن يحيى ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عُبَيْد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : من المرأتان ؟ قال : عائشة وحفصة . وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم القبطية ، أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها{[29022]} فَوَجَدت حفصة ، فقالت : يا نبي الله ، لقد جئت إليَّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك ، في يومي ، وفي دوري ، وعلى فراشي . قال : " ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها ؟ " . قالت : بلى . فحَرَّمها وقال : " لا تذكري ذلك لأحد " . فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عليه ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ } الآيات{[29023]} فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّر [ عن ]{[29024]} يمينه ، وأصاب جاريته {[29025]} .
وقال الهيثم بن كُلَيب في مسنده : حدثنا أبو قِلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا جرير بن حازم ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : " لا تخبري أحدًا ، وإن أم إبراهيم عليَّ حرام " . فقالت : أتحرم ما أحل الله لك ؟ قال : " فوالله لا أقربها " . قال : فلم يقربها حتى أخبرت عائشة . قال فأنزل الله : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ }
وهذا إسناد صحيح ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج{[29026]} .
وقال ابن جرير : أيضا حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا هشام الدَّسْتُوَائي قال : كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم ، عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس كان يقول في الحرام : يمين تكفرها ، وقال ابن عباس : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] يعني : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فقال الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى قوله : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفر يمينه ، فصير الحرام يمينًا {[29027]} .
ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة ، عن هشام - هو الدستوائي - عن يحيى - هو ابن كثير - عن ابن حكيم - وهو يعلى - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في الحرام : يمين تُكَفر . وقال ابن عباس : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ]{[29028]} .
ورواه مسلم من حديث هشام الدَّسْتُوَائي به{[29029]} .
وقال النسائي : أنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي ، حدثنا مَخْلد - هو ابن يزيد - حدثنا سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي عَلَيَّ حَرَاما ؟ قال : كذبتَ ليس عليك بحرام . ثم تلا هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ عليك أغلظ الكفارات ، عتق رقبة .
تفرد به النسائي من هذا الوجه ، بهذا اللفظ{[29030]} .
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن زكَريا ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سُرَيَّته{[29031]} .
ومن هاهنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرم جاريته أو زوجته أو طعامًا أو شرابًا أو ملبسًا أو شيئًا من المباحات ، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة . وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية ، إذا حَرَّم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما في قوله ، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة ، نفذ فيهما .
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبو عبد الله الظهراني{[29032]} أخبرنا حفص بن عمر العَدَني ، أخبرنا الحكم بن أبان ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا قول غريب ، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العَسَل ، كما قال البخاري عند هذه الآية :
حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن عبيد{[29033]} بن عمير ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جَحش ، ويمكث عندها ، فتواطأتُ أنا وحفصةُ على : أيتُنا دخلَ عليها ، فلتقل له : أكلتَ مَغَافير ؟ إني أجد منك ريح مغافير . قال : " لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جَحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا " ، { تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ }{[29034]} .
هكذا أورد هذا الحديث هاهنا بهذا اللفظ ، وقال في كتاب " الأيمان والنذور " : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج قال : زعم عطاء أنه سمع عُبَيد بن عمير يقول : سمعتُ عائشة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جَحش ويشرب عندها عَسَلا فتواصيتُ أنا وحفصة أن أيتُنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ : إني أجد منك ريح مغافير ؛ أكلت مغافير ؟ فدخل على إحداهما النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك له ، فقال : " لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جَحش ، ولن أعود له " . فنزلت : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؟ إلى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } لعائشة وحفصة ، { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } لقوله : " بل شربت عسلا " . وقال إبراهيم بن موسى ، عن هشام : " ولن أعود له ، وقد حلفت ، فلا تخبري بذلك أحدًا " {[29035]} .
وهكذا رواه في كتاب " الطلاق " بهذا الإسناد ، ولفظه قريب منه{[29036]} . ثم قال : المغافير : شبيه بالصمغ ، يكون في الرّمث فيه حلاوة ، أغفر الرّمث : إذا ظهر فيه . واحدها مغفور ، ويقال : مغافير . وهكذا قال الجوهري ، قال : وقد يكون المغفور أيضًا للعُشر والثُّمام والسَّلَم والطلح . قال : والرّمث ، بالكسر : مرعى من مراعي الإبل ، وهو من الحَمْض . قال : والعرفط : شجر من العضاه ينضَح المغفُور [ منه ]{[29037]} .
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب " الطلاق " من صحيحه ، عن محمد بن حاتم ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء ، عن عُبيد بن عمير ، عن عائشة{[29038]} ، به ، ولفظه كما أورده البخاري في " الأيمان والنذور " .
ثم قال البخاري في كتاب " الطلاق " : حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مُسْهَر ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلوى والعَسل ، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه ، فيدنو من إحداهن . فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس ، فَغِرْتُ فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عُكَّة عَسَل ، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة ، فقلت : أما والله لنحتالَن له . فقلت لسودة بنت زَمْعَةَ : إنه سيدنو منك ، فإذا دنا منك فقولي : أكلت مغَافير ؟ فإنه سيقول ذلك{[29039]} لا . فقولي له : ما هذه الريح التي أجد ؟ فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل . فقولي : جَرَسَتْ نحلُه العُرفُطَ . وسأقول ذلك ، وقولي أنت له يا صفية ذلك ، قالت - تقول سودة - : والله{[29040]} ما هو إلا أن قام على الباب ، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقًا منك ، فلما دنا منها قالت له سودة : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : " لا " . قالت : فما هذه الريح التي أجد منك ؟ قال : " سقتني حفصة شَربة عسل " . قالت : جَرَسَت نَحلُه العرفطَ . فلما دار إليَّ قلت نحو ذلك ، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك ، فلما دار إلى حفصة قالت له : يا رسول الله ، ألا أسقيك منه ؟ قال : " لا حاجةَ لي فيه " . قالت - تقول سودة - : والله لقد حَرَمْنَاه . قلت لها : اسكتي{[29041]} .
هذا لفظ البخاري . وقد رواه مسلم عن سُوَيد بن سَعيد ، عن علي بن مُسْهِر ، به . وعن أبي كُرَيْب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر ، ثلاثتهم عن أبي أسامة ، حماد بن أسامة ، عن هشام بن عروة ، به{[29042]} وعنده قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح يعني : الريح الخبيثة ؛ ولهذا قلن له : أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء . فلما قال : " بل شربت عسلا " . قلن : جَرَسَت نحلُه العرفطَ ، أي : رَعَت نحلُه شَجَر العرفط الذي صَمغُه المغافير ؛ فلهذا ظهر ريحُه في العسل الذي شربته .
قال الجوهري : جَرَسَت نحلُه العرفط تَجْرِس : إذا أكلته ، ومنه قيل للنحل : جوارس ، قال الشاعر :
تَظَلّ عَلَى الثَّمْرَاء مِنها جَوَارسُ . . .
وقال : الجَرْس والجِرْس : الصوت الخفي . ويقال : سمعت جرس الطير : إذا سمعتَ صوت مناقيرها على شيء تأكله ، وفي الحديث : " فيسمعون جَرْس طير الجنة " . قال الأصمعي : كنت في مجلس شُعبة قال : " فيسمعون جَرْشَ طير الجنة " بالشين [ المعجمة ]{[29043]} فقلت : " جرس " ؟ ! فنظر إلي فقال : خذوها عنه ، فإنه أعلم بهذا منا{[29044]} .
والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل ، وهو من طريق هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن خالته عن عائشة . وفي طريق ابن جريج عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة أن زينب بنت جَحش هي التي سقت العسل ، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه ، فالله أعلم . وقد يقال : إنهما واقعتان ، ولا بُعْدَ في ذلك ، إلا أن كونَهما سببًا لنزول هذه الآية فيه نظر ، والله أعلم .
ومما يدل على أن عائشة وحفصة ، رضي الله عنهما ، هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن ابن عباس قال : لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدَل عمر وعدلت معه بالإداوة . فتبرز ثم أتاني ، فسكبت على يديه فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، اللتان قال الله تعالى : { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ؟ فقال عمر : واعجبا لك يا ابن عباس - قال الزهري : كره - والله ما سألته عنه ولم يكتمه قال : هي حفصة وعائشة . قال : ثم أخذ يسوق الحديث . قال : كنا مَعشَر قريش قومًا نَغلبُ النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تَغلِبُهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، قال : وكان منزلي في دار بنى أمية بن زيد بالعَوَالي . قال : فغضَبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تُرَاجِعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي{[29045]} صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . قال : فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم . قلت : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل ؟ قالت : نعم . قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخَسر ، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت ؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا ، وسليني من مالي ما بدا لك ، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسمُ وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك - يريد عائشة - قال : وكان لي جار من الأنصار ، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يومًا وأنزل يومًا ، فيأتيني بخبر الوحي وغيره ، وآتيه بمثل ذلك . قال : وكنا نتحدث أن غَسَّان تُنعِل الخيل لتغزونا ، فنزل صاحبي يومًا ثم أتى عشاء ، فضرب بابي ثم ناداني ، فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم ! فقلت : وما ذاك ؟ أجاءت غسان ؟ قال : لا بل أعظم من ذلك وأطول ! طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقلت : قد خابت حفصةُ وخَسِرت ، قد كنت أظن{[29046]} هذا كائنا . حتى إذا صليتُ الصبح شددتُ عليَّ ثيابي ثم نزلت ، فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت : أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا أدري ، هو هذا معتزل في هذه المشرَبة{[29047]} فأتيت غلامًا له أسودَ فقلت : استأذن لعمر . فدخل الغلام ثم خرج إليَ فقال : ذكرتك له فصمت . فانطلقت حتى أتيت المنبر ، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم ، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمرَ . فدخل ثم خرج فقال : قد ذكرتك له فصمت . فخرجت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر . فدخل ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فصمتَ . فوليت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال : ادخل ، قد أذن لك . فدخلتُ فسلمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رُمَال{[29048]} حَصِير .
قال الإمام أحمد : وحدثناه يعقوب في حديث صالح : رُمَال حصير قد أثر في جنبه ، فقلت : أطلَّقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إلي وقال : " لا " . فقلت : الله أكبر ، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل . فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، فَدخَلت على حفصة فقلت : لا يغُرنَّك أن كانت جارتُكِ هي أوسمُ - أو : أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك . فتبسم أخرى ، فقلت : أستأنس يا رسول الله . قال : " نعم " . فجلست فرفعت رأسي في البيت ، فوالله ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا أهَبَةٌ ثلاثة{[29049]} فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسَّع على فارس والروم ، وهم لا يعبدون الله . فاستوى جالسًا وقال : " أفي شك أنت يا بن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " . فقلت : استغفر لي يا رسول الله . وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا ؛ من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله ، عز وجل{[29050]} .
وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ، من طرق ، عن الزهري ، به{[29051]} وأخرجه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن عُبَيد بن حُنَين ، عن ابن عباس ، قال : مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية ، فما أستطيع أن أسأله هيبةً له ، حتى خرج حاجًا فخرجت معه ، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق ، عدل إلى الأرَاك لحاجة له ، قال : فوقفت حتى فرغ ، ثم سرت معه فقلت : يا أمير المؤمنين ، من اللتان{[29052]} تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم ؟{[29053]} .
هذا لفظ البخاري ، ولمسلم : من المرأتان اللتان قال الله تعالى : { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } ؟ قال : عائشة وحفصة . ثم ساق الحديث بطوله ، ومنهم من اختصره .
وقال مسلم أيضًا : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن سِماك بن الوليد - أبي زميل - حدثني عبد الله بن عباس ، حدثني عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، دخلت المسجد ، فإذا الناس يَنكُتُون بالحصى ، ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ! وذلك قبل أن يُؤمَر بالحجاب . فقلت : لأعلمن ذلك اليوم . . . فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ، ووعظه إياهما ، إلى أن قال : فدخلت ، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكُفَّة المشرَبة ، فناديت فقلت : يا رباح ، استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . فذكر نحو ما تقدم ، إلى أن قال : فقلت يا رسول الله ما يَشُقّ عليك من أمر النساء ، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريلَ وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلما تكلمتُ - وأحمد الله - بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يصدق قولي ، ونزلت هذه الآية ، آية التخيير : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } { وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } فقلت : أطلقتهن ؟ قال : " لا " . فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق نساءه ، ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر{[29054]} .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومقاتل بن حيان ، والضحاك ، وغيرهم : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } أبو بكر وعمر - زاد الحسن البصري : وعثمان . وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } قال : علي بن أبي طالب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال : أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في ]{[29055]} قوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } قال : هو علي بن أبي طالب . إسناده ضعيف . وهو منكر جدًا .
وقال البخاري : حدثنا عمرو بن عون ، حدثنا هُشَيم ، عن حُميد ، عن أنس ، قال : قال عمر : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه ، فقلت لهن : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } فنزلت هذه الآية{[29056]} .
وقد تقدّم أنه وافق القرآن في أماكنَ ، منها في نزول الحجاب ، ومنها في أسارى بدر ، ومنها قوله : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ؟ فأنزل الله : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا [ أبي ، حدثنا ]{[29057]} الأنصاري ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستقريتهن{[29058]} أقول : لتكفن عن رسول الله أو ليبدلَنّه الله أزواجًا خيرا منكن . حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين ، فقالت : يا عمر ، أما لي برسول الله ما يعظ نساءه ، حتى تعظهن ؟ ! فأمسكت ، فأنزل الله ، عز وجل : { عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } وهذه المرأة التي رَدّته عما كان فيه من وَعظ النساء هي أم سلمة ، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري{[29059]} .
وقال الطبراني ، حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني ، حدثنا إسماعيل البجلي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي سنان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا } قال : دخلَت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يَطَأ مارية ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة ، فإن أباك يَلي الأمرَ من بعد أبي بكر إذا أنا مت " . فذهبت حفصة فأخبَرتْ عائشة ، فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنبأك هذا ؟ قال : { نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } فقالت عائشة : لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } {[29060]} .
إسناده فيه نظر ، وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات .
بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك روي أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في نوبة عائشة رضي الله تعالى عنها أو حفصة فاطلعت على ذلك حفصة فعاتبته فيه فحرم مارية فنزلت وقيل شرب عسلا عند حفصة فواطأت عائشة سودة وصفية فقلن له إنا نشم منك ريح المعافير فحرم العسل فنزلت تبتغي مرضاة أزواجك تفسير ل تحرم أو حال من فاعله أو استئناف لبيان الداعي إليه والله غفور لك هذه الزلة فإنه لا يجوز تحريم ما أحله الله رحيم رحمك حيث لم يؤاخذك به وعاتبك محاماة على عصمتك .
سورة { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } الخ سميت { سورة التحريم } في كتب السنة وكتب التفسير . ووقع في رواية أبي ذر الهروي لصحيح البخاري تسميتها باسم { سورة اللم تحرم } بتشديد اللام ، وفي الإتقان وتسمى { سورة اللم تحرم } ، وفي تفسير الكواشي أي بهمزة وصل وتشديد اللام مكسورة وبفتح الميم وضم التاء محققه وتشديد الراء مكسورة بعدها ميم على حكاية جملة { لم تحرم } وجعلها بمنزلة الاسم وإدخال لام تعريف العهد على ذلك اللفظ وإدغام اللامين .
وتسمى { سورة النبي } صلى الله عليه وسلم وقال الآلوسي : إن ابن الزبير سماها { سورة النساء } . قلت ولم أقف عليه ولم يذكر صاحب الإتقان هذين في أسمائها .
واتفق أهل العدد على أن عدة آيها اثنتا عشرة .
وهي مدنية . قال ابن عطية : بإجماع أهل العلم وتبعه القرطبي . وقال في الإتقان عن قتادة : إن أولها إلى تمام عشر آيات وما بعدها مكي ، كما وقعت حكاية كلامه . ولعله أراد إلى عشر آيات ، أي أن الآية العاشرة من المكي إذ من البعيد أن تكون الآية العاشرة مدنية والحادية عشر مكية .
وهي معدودة الخامسة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة .
ويدل قوله { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } أنها نزلت بعد سورة المائدة كما سيأتي .
وسبب نزولها حادثتان حدثتا بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
إحداهما : ما ثبت في الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شرب عسلا عند إحدى نسائه اختلف في أنها زينب بنت جحش ، أو حفصة ، أو أم سلمة ، أو سودة بنت زمعة . والأصح أنها زينب . فعلمت بذلك عائشة فتواطأت هي وحفصه على أن أيتهما دخل عليها تقول له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير والمغافير صمغ شجر العرفط وله رائحة مختمرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة وإنما تواطأتا على ذلك غيرة منهما أن يحتبس عند زينب زمانا يشرب فيه عسلا . فدخل على حفصة فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلا عند فلانة ولن أعود له ، أراد بذلك استرضاء حفصة في هذا الشأن وأوصاها أن لا تخبر بذلك عائشة لأنه يكره غضبها فأخبرت حفصة عائشة فنزلت الآيات .
هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات . والتحريم هو قوله : { ولن أعود له } لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا صدقا وكانت سودة تقول لقد حرمناه .
والثانية ما رواه ابن القاسم في المدونة عن مالك عن زيد بن أسلم قال : حرم رسول الله أم إبراهيم جاريته فقال والله أطؤك ثم قال : هي علي حرام فأنزل الله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك } .
وتفصيل هذا الخبر ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها ، وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها . فقالت حفصة : تدخلها بيتي ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك . فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها . قيل : فقالت له حفصة : كيف تحرم عليك وهي جاريتك فحلف لها أن لا يقربها فذكرته حفصة لعائشة فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا فأنزل الله تعالى { يا أيها النبي لما تحرم ما أحل الله لك } . وهو حديث ضعيف .
ما تضمنه سبب نزولها أن أحدا لا يحرم على نفسه ما أحل الله له لإرضاء أحد إذ ليس ذلك بمصلحة له ولا للذي يسترضيه فلا ينبغي أن يجعل كالنذر إذ لا قربة فيه وما هو بطلاق لأن التي حرمها جارية ليست بزوجة ، فإنما صلاح كل جانب فيما يعود بنفع على نفسه أو ينفع به غيره نفعا مرضيا عند الله وتنبيه نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن غيرة الله على نبيه أعظم من غيرتهن عليه وأسمى مقصدا .
وأن الله يطلعه على ما يخصه من الحادثات .
وأن من حلف على يمين فرأى حنثها خيرا من برها أن يكفر عنها ويفعل الذي هو خير . وقد ورد التصريح بذلك في حديث وقد عبد القيس عن رواية أبي موسى الأشعري ، وتقدم في سورة براءة .
وتعليم الأزواج أن لا يكثرن من مضايقة أزواجهن فإنها ربما أدت إلى الملال فالكراهية فالفراق .
وموعظة الناس بتربية بعض الأهل بعضا ووعظ بعضهم بعضا .
وأتبع ذلك بوصف عذاب الآخرة ونعيمها وما يفضي إلى كليهما من أعمال الناس صالحاتها وسيئاتها .
وذيل ذلك بضرب مثلين من صالحات النساء وضدهن لما في ذلك من العظمة لنساء المؤمنين ولأمهاتهم .
افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء تنبيه على أن ما سيذكر بعده مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة ولأن سبب النزول كان من علائقه .
والاستفهام في قوله : { لم تحرم } مستعمل في معنى النفي ، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرّم على نفسك ما أحلّ اللَّه لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاماً بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصداً بذلك تطمين أزواجه اللاء تمالأْنَ عليه لِفرط غيرتهن ، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهن ، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإِكرام في بعض الأيام .
وهذا يومىء إلى ضبط ما يراعى من الغيرة وما لا يراعَى .
وفعل { تحرم } مستعمل في معنى : تجعل ما أحلّ لك حراماً ، أي تحرّمه على نفسك كقوله تعالى : { إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } [ آل عمران : 93 ] وقرينتهُ قوله هنا : { ما أحل الله لك } .
وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراماً كما في قوله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، وقوله : { يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً } [ التوبة : 37 ] ، فإن التفعيل يأتي بمعنى التصبير كما يقال : وسِّعْ هذا الباب ويأتي بمعنى إيجاد الشيء على حالة مثل ما يقال للخياط : وسِّعْ طَوْق الجبّة .
ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منه أنك غيّرت إباحته حراماً على الناس أو عليك . ومن العجيب قول « الكشاف » : ليس لأحد أن يُحرّم ما أحلّ الله لأن الله إنما أحله لمصلحة عرفها في إحلاله إلخ .
وصيغة المضارع في قوله : { لم تحرم } لأنه أوقع تحريماً متجدداً .
فجملة { تبتغي } حال من ضمير { تحرم } . فالتعجيب واقع على مضمون الجملتين مثل قوله : { لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] .
وفي الإِتيان بالموصول في قوله : { ما أحل الله لك } لما في الصلة من الإِيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكرٌ لله واعترافٌ بنعمته والحاجة إليه .
وفي قوله : { تبتغي مرضات أزواجك } عذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيراً وهو جلب رضا الأزواج لأنه أعون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضاً وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن ، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارَض بأن تحريم ما أحلّ الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة .
وذيل بجملة { والله غفور رحيم } استئناساً للنبيء صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا الملام ، أي والله غفور رحيم لك مثل قوله : { عفا الله عنك لما أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] .