قوله تعالى : { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } يعني فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول العمر وكثرة المال . قال المبرد : ما في قوله : " فيما " بمنزلة الذي ، " إن " بمنزلة " ما " وتقديره : ولقد مكناهم في الذي ما مكناهم فيه . { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون }
وعلى مشهد الدمار والخراب يلتفت إلى أمثالهم الحاضرين ، يلمس قلوبهم بما ترتعش منه القلوب : ( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه . وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة . فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . إذ كانوا يجحدون بآيات الله . وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) . .
هؤلاء الذين دمرتهم الريح المأمورة بالتدمير . مكناهم فيما لم نمكنكم فيه . . إجمالا . . من القوة والمال والعلم والمتاع . وآتيناهم أسماعا وأبصارا وأفئدة - والقرآن يعبر عن قوة الإدراك مرة بالقلب ومرة بالفؤاد ومرة باللب ومرة بالعقل . وكلها تعني الإدراك في صورة من صوره - ولكن هذه الحواس والمدارك لم تنفعهم في شيء . إذ أنهم عطلوها وحجبوها ( إذ كانوا يجحدون بآيات الله ) . . والجحود بآيات الله يطمس الحواس والقلوب ، ويفقدها الحساسية والإشراق والنور والإدراك . ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) . . من العذاب والبلاء . .
والعبرة التي يفيدها كل ذي سمع وبصر وقلب ، ألا يغتر ذو قوة بقوته ، ولا ذو مال بماله ، ولا ذو علم بعلمه . فهذه قوة من قوى الكون تسلط على أصحاب القوة والمال والعلم والمتاع ، فتدمر كل شيء ، وتتركهم ( لا يرى إلا مساكنهم )حين يأخذهم الله بسنته التي يأخذ بها المجرمين .
والريح قوة دائبة العمل ، وفق النظام الكوني الذي قدره الله ، وهو يسلطها حين يسلطها للتدمير وهي ماضية في طريقها الكوني ، تعمل وفق الناموس المرسوم . فلا حاجة لخرق النواميس الكونية - كما يعترض المعترضون واهمين - فصاحب الناموس المرسوم هو صاحب القدر المعلوم . وكل حادث وكل حركة ، وكل اتجاه ، وكل شخص ، وكل شيء ، محسوب حسابه ، داخل في تصميم الناموس .
والريح كغيرها من القوى الكونية مسخرة بأمر ربها ، ماضية تؤدي ما قدره لها في نطاق الناموس المرسوم لها وللوجود كله . ومثلها قوة البشر المسخرة لما يريده الله بها . المسخر لها من قوى الكون ما أراد الله تسخيره لها . وحين يتحرك البشر فإنما يؤدون دورهم في هذا الوجود ، ليتم ما أراده الله بهم وفق ما يريد . وحرية إرادتهم في الحركة والاختيار جزء من الناموس الكلي ينتهي إلى التناسق الكوني العام . وكل شيء مقدر تقديرا لا يناله نقص ولا اضطراب .
يقول تعالى : ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد ، وأعطيناهم منها {[26465]} ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه ، { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه ، أي : فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم ، فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة .
{ ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } { إن } نافية وهي أحسن من ما ههنا لأنها توجب التكرير لفظا ولذلك قلبت ألفها هاء في مهما ، أو شرطية محذوفة الجواب والتقدير ، ولقد مكناهم في الذي أوفي شيء إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر ، أو صلة كما في قوله :
يرجي المرء ما إن لا يراه *** ويعرض دون أدناه الخطوب
والأول أظهر وأوفق لقوله : { هم أحسن أثاثا } { كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا } . { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على مانحها تعالى ويواظبوا على شكرها . { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء } من الإغناء وهو القليل . { إذ كانوا يجحدون بآيات الله } صلة { فما أغنى } وهو ظرف جرى مجرى التعليل من حيث إن الحكم مرتب على ما أضيف إليه وكذلك حيث . { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } من العذاب .
ثم خاطب تعالى قريشاً على جهة الموعظة بقوله : { ولقد مكناهم في ما إن مكناهم فيه } ف { ما } ، بمعنى الذي ، و { إن } نافية وقعت مكان { ما } ليختلف اللفظ ، ولا تتصل { ما } ب { ما } ، لأن الكلام كأنه قال : في الذي ما مكناكم فيه . ومعنى الآية : ولقد أعطيناهم من القوة والغنى والبسط في الأموال والأجسام ما لم نعطكم ، ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب ، فأنتم أحرى بذلك إذا كفرتم . وقالت فرقة : { إن } شرطية ، والجواب محذوف تقديره : في الذي إن مكناكم فيه طغيتم ، وهذا تنطع في التأويل{[10328]} .
ثم عدد تعالى عليهم نعم الحواس والإدراك ، وأخبر أنها لم تغن حين لم تستعمل على ما يجب . و » ما « : نافية في قوله : { فما أغنى عنهم } ويقوي ذلك دخول { من } في قوله : { من شيء } .
وقالت فرقة : » ما «في قوله : { فما أغنى عنهم } استفهام بمعنى التقرير ، و » { من شيء } على هذا تأكيد ، وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول من في الواجب . { وحاق } معناه : وجب ولزم ، وهو مستعمل في المكاره ، والمعنى جزاء { ما كانوا به يستهزئون } .
هذا استخلاص لموعظة المشركين بمَثَل عاد ، ليعلموا أن الذي قدَر على إهلاك عاد قادر على إهلاك مَن هم دونهم في القوة والعدد ، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحسّ وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله واستهزؤوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزئون به ، وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكيّة عن أولئك فليتهيّأوا لما سيحلّ بهم . ولإفادة هذا الاستخلاص غُيّر أسلوب الكلام إلى خطاب المشركين من أهل مكة ، فالجملة في موضع الحال من واو الجماعة في { قالوا أجئتنا } [ الأحقاف : 22 ] والخبر مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم . وتأكيد هذا الخبر بلام القسم مع أن مفاده لا شك فيه مصروف إلى المبالغة في التعجيب .
والتمكين : إعطاء المَكِنة ( بفتح الميم وكسر الكاف ) وهي القدرة والقوة . يقال : مكُن من كذا وتمكن منه ، إذا قدر عليه . ويقال : مكَّنه في كذا ، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف قال تعالى : { مكنّاهم في الأرض ما لم نمكن لهم } في سورة الأنعام ( 6 ) .
فالمعنى : جعلنا لهم القدرة في الذي لم نمكنكم فيه ، أي من كل ما يمكّن فيه الأقوام والأمم ، وتقدم عند قوله تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكَّنَّاهم في الأرض } في أول الأنعام ( 6 ) فضمّ إليه ما هنا .
و ( ما ) من قوله فيما } موصولة . و { إن } نافية ، أي في الذي ما مَكَّناكم فيه .
ومعنى مكناكم فيه : مكناكم في مثله أو في نوعه فإن الأجناس والأنواع من الذوات حقائق معنوية لا تتغير مواهبها وإنما تختلف بوجودها في الجزئيات ، فلذلك حسن تعدية فعل { مكناكم } بحرف الظرفية إلى ضمير اسم الموصول الصادق على الأمور التي مُكنت منها عاد . ومن بديع النظم أن جاء النفي هنا بحرف { إنْ } النافية مع أنَّ النفي بها أقل استعمالا من النفي ب ( ما ) النافية قصداً هنا لدفع الكراهة من توالي مثلين في النطق وهما ( ما ) الموصولة و ( ما ) النافية وإن كان معناهما مختلفاً ، ألا ترى أن العرب عوضوا الهاء عن الألف في ( مهما ) ، فإن أصلها : ( ما ما ) مركبة من ( ما ) الظرفية و ( ما ) الزائدة لإفادة الشرط مثل ( أينما ) . قال في « الكشاف » : ولقد أغَثَّ أبو الطيب في قوله :
لعمرك مَا مَا بَان منك لِضَاربٍ{[383]}
وأقول ولم يتعقب ابن جنّي ولا غيره ممّن شرح الديوان من قبل على المتنبي وقد وقع مثله في ضرورات شعر المتقدمين كقول خطام المجاشعي :
وَصَاليات كَكَمَا يُؤثفَيْنْ *** ولا يغتفر مثله للمولدين .
فأما إذا كانت ( ما ) نافية وأراد المتكلم تأكيدها تأكيداً لفظياً ، فالإتيان بحرف ( إنْ ) بعد ( ما ) أحرى كما في قول النابغة :
رماد ككحل العين ما إنْ أبينُه *** ونؤيٌ كجذم الحوض أثلم خاشع
وفائدة قوله : { وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة } أنهم لم ينقصهم شيء من شأنه أي يخلّ بإدراكهم الحق لولا العناد ، وهذا تعريض بمشركي قريش ، أي أنكم حرمتم أنفسكم الانتفاع بسمعكم وأبصاركم وعقولكم كما حُرموه ، والحالة متحدة والسبب متّحد فيوشك أن يكون الجزاء كذلك . وإفراد السمع دون الأبصار والأفئدة للوجه الذي تقدم في قوله : { قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } في سورة الأنعام ( 46 ) وقوله : { أم مَن يملك السمع والأبصار } في سورة يونس ( 31 ) .
ومِن } في قوله : { من شيء } زائدة للتنصيص على انتفاء الجنس فلذلك يكون { شيء } المجرور ب { من } الزائدة نائباً عن المفعول المطلق لأن المراد بشيء من الإغناء ، وحق { شيء } النصب وإنما جُرّ بدخول حرف الجر الزائد .
و { إذْ } ظرف ، أي مدة جحودهم وهو مستعمل في التعليل لاستواء مؤدى الظرف ومؤدى التعليل لأنه لما جعل الشيء من الإغناء معلقاً نفيُه بزمان جحدهم بآيات الله كما يستفاد من إضافة { إذْ } إلى الجملة بعدها ، عُلم أن لذلك الزمان تأثيراً في نفي الإغناء .
وآيات الله دلائل إرادته من معجزات رسولهم ومن البراهين الدالة على صدق ما دعاهم إليه . وقد انطبق مثالهم على حال المشركين فإنهم جحدوا بآيات الله وهي آيات القرآن لأنها جَمَعت حقيقة الآيات بالمعنيين .
وحاق بهم : أحاط بهم { وما كانوا به يستهزئون } العذاب ، عدل عن اسمه الصريح إلى الموصول للتنبيه على ضلالهم وسوء نظرهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لكفار قريش: ولقد مكّنا أيها القوم عادا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا، وأعطيناهم منها الذي لم نعطكم منهم من كثرة الأموال، وبسطة الأجسام، وشدّة الأبدان... عن قتادة، قوله:"وَلَقَدْ مَكَنّاهُمْ فِيما إنْ مَكّنّاكُمْ فِيهِ": أنبأكم أنه أعطى القوم ما لم يعطكم.
وقوله: "وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعا "يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصارا يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يضرّهم وينفعهم، "فَمَا أغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أبْصَارُهُمْ وَلا أفْئِدَتُهُمْ منْ شَيْءٍ "يقول: فلم ينفعهم ما أعطاهم من السمع والبصر والفؤاد إذ لم يستعملوها فيما أعطوها له، ولم يعملوها فيما ينجيهم من عقاب الله، ولكنهم استعملوها فيما يقرّبهم من سخطه، "إذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بآياتِ اللّهِ" يقول: إذ كانوا يكذّبون بحجج الله وهم رُسله، وينكرون نبوّتهم. "وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئون" يقول: وعاد عليهم ما استهزأوا به، ونزل بهم ما سخروا به، فاستعجلوا به من العذاب، وهذا وعيد من الله جلّ ثناؤه لقريش، يقول لهم: فاحذروا أن يحلّ بكم من العذاب على كفركم بالله وتكذيبكم رسله، ما حلّ بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولقد مكّنّاهم فيما إن مكّنّاكم فيه} الآية. قال بعضهم {إن} ههنا في موضع: لم، كأنه يقول: ولقد مكّناهم، فيما لم نُمكّن لكم من القوة والشدة والعقل والبصيرة وغير ذلك. وذلك قوله تعالى: {وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء} أي قد مكّنا عادا، في ما ذكرنا ما لم نمكّن لكم يا أهل مكة في ذلك، ثم إذا أتاهم عذاب الله بتكذيبهم الرسل لم يملكوا دفع عذابه. فأنتم حين لم يمكّن لكم ذلك أحرى ألا تملكوا دفع عذابه إذا نزل بكم بتكذيبكم الرسول عليه السلام. وقال بعضهم: إن حرف {إن} صلة زائدة، فيكون تقدير الآية كأنه يقول: {ولقد مكّنّاهم فيما} {مكّنّاكم فيه} مما ذكر من السمع والبصر والفؤاد، ثم لم يملكوا دفع العذاب عن أنفسهم، فأنتم لا تملكون أيضا دفعه عن أنفسكم، وكان لهم ما لكم مما ذكر من السمع والبصر والفؤاد...
وقوله تعالى: {وجعلنا لهم سمعا وأبصرا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء} على التأويل الأول حين ذكرنا أنهم مُكّنوا ما لم يمكّن هؤلاء يكون ما ذكر من السمع والبصر والفؤاد، لا يراد به أعيانها حقيقة، لكن السمع يكون كناية عن العقل كقوله تعالى: {أفأنت تُسمع الصُّم ولو كانوا لا يعقلون} [يونس: 42] ذكر السمع، ثم فسّر به العقل، ويكون قوله: {وأبصارا} أُريد به البصائر. فالبصر يُذكر، ويراد به البصيرة؛ إذ قد وصفهم الله تعالى بذلك بقوله: {وعادًا وثمودا} إلى قوله: {وكانوا مستبصرين} [العنكبوت: 38] ويكون قوله: {وأفئدة} كناية عن القوى، والفؤاد يُكنّى به عن القوة. يخبر تعالى أنهم مُكّنوا من العقل والبصيرة والقوة ما لم تُمكّنوا أنتم يا أهل مكة، ثم لم يقدروا على دفع عذاب الله إذا نزل بهم. فأنتم كيف تملكون دفعه، وليس لكم تلك الأسباب؟ وعلى التأويل الثاني كان المراد هو حقيقة ما ذكر من السمع والبصر والفؤاد. فيكون معناه ما ذكرنا أي لكم هذه الأسباب مثل ما لهم، ثم هل لم يقدروا على دفع ما حل بهم من العذاب، فأنتم لم تقدروا أيضا، والله أعلم. ثم بيّن الله تعالى الذي به نزل ما نزل من العذاب حين قال: {إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون} وكان استهزاؤهم مرة بما يوعد لهم الرسل عليهم السلام بالعذاب، ومرة كانوا يستهزئون بالرسل عليهم السلام لما يدعونهم إلى ما دعوا، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى على وجه القسم في خبره أنه مكن هؤلاء الكفار الذين أخبر عنهم بأنه أهلكهم أنه مكنهم من الطاعات ومن جميع ما أمرهم به من أنه جعلهم قادرين متمكنين بنصب الدلالة على توحيده، ومكنهم من النظر فيها، ورغبهم في ذلك بما ضمن لهم من الثواب وزجرهم عما يستحق به العقاب، ولطف لهم وأزاح عللهم في جميع ذلك، لأن التمكين عبارة عن فعل جميع مالا يتم الفعل إلا معه، ثم قال "وجعلنا لهم سمعا "يسمعون به الأدلة "وأبصارا" يشاهدون بها الآيات "وأفئدة" يفكرون بها ويعتبرون بالنظر فيها "فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء" أي لم ينفعهم جميع ذلك، لأنهم لم يعتبروا بها ولا فكروا فيها "إذ كانوا يجحدون بآيات الله" وأدلته، "وحاق بهم" أي حل بهم عذاب "ما كانوا به يستهزئون "ويسخرون منه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولقد} أي فعل بهم ذلك والحال أنا وعزتنا قد {مكناهم} تمكيناً تظهر به عظمتنا {فيما إن} أي الذي ما {مكناكم فيه} من قوة الأبدان وكثرة الأموال وغيرها... {وجعلنا} أي جعلاً يليق بما زدناهم عليكم من المكنة على ما اقتضته عظمتنا {لهم سمعاً} بدأ به لأن المقام للإنذار المنبه بحاسة السمع على ما في الآيات المرئيات من المواعظ، فهو أنفع لأنه أوضح، ووحده لقلة التفاوت فيه {وأبصاراً} أي منبهة على ما في الآيات المرئيات من مطابقة واقعها لأخبار السمع، وجمع لكثرة التفاوت في أنوار الأبصار، وكذا في قوله: {وأفئدة} أي قلوباً ليعرفوا بها الحق فيتبعوه والباطل فيجتنبوه ويشكروا من وهبها لهم، وختم بها لأنها الغاية التي ليس بعد الإدراك منتهى ولا وراءها مرمى، وعبر بما هو من التفود وهو التجرد إشارة إلى أنها في غاية الذكاء {فما أغنى عنهم} في حال إرسالنا إليهم الرحمة على لسان نبينا هود عليه الصلاة والسلام ثم النقمة بيد الريح {سمعهم} وأكد النفي بتكرير النافي فقال: {ولا أبصارهم} وكذا في قوله: {ولا أفئدتهم} أي لما أردنا إهلاكهم، وأكد بإثبات الجار فقال: {من شيء} أي- من الإغناء، وإن قلّ لا- في دفع العذاب، ولا في معرفة الصواب...
{إذ كانوا} أي طبعاً لهم وخلقاً {يجحدون} أي يكررون على مر الزمان الجحد {بآيات الله} أي الإنكار لما يعرف من دلائل الملك الأعظم {وحاق} أي أحاط على جهة الإحراق والعظم بأمور لا يدري وجه المخلص منها {بهم ما} أي عقاب الذي {كانوا} على جهة الدوام لكونه خلقاً لهم {به يستهزءون} أي يوجدونه على سبيل الاستمرار إيجاد من هو طالب له عاشق فيه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: مكناهم في الأرض يتناولون طيباتها ويتمتعون بشهواتها وعمرناهم عمرا يتذكر فيه من تذكر، ويتعظ فيه المهتدي، أي: ولقد مكنا عادا كما مكناكم يا هؤلاء المخاطبون أي: فلا تحسبوا أن ما مكناكم فيه مختص بكم وأنه سيدفع عنكم من عذاب الله شيئا، بل غيركم أعظم منكم تمكينا فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا جنودهم من الله شيئا...
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} أي: لا قصور في أسماعهم ولا أبصارهم ولا أذهانهم حتى يقال إنهم تركوا الحق جهلا منهم وعدم تمكن من العلم به ولا خلل في عقولهم ولكن التوفيق بيد الله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هؤلاء الذين دمرتهم الريح المأمورة بالتدمير. مكناهم فيما لم نمكنكم فيه.. إجمالا.. من القوة والمال والعلم والمتاع. وآتيناهم أسماعا وأبصارا وأفئدة -والقرآن يعبر عن قوة الإدراك مرة بالقلب ومرة بالفؤاد ومرة باللب ومرة بالعقل. وكلها تعني الإدراك في صورة من صوره- ولكن هذه الحواس والمدارك لم تنفعهم في شيء. إذ أنهم عطلوها وحجبوها (إذ كانوا يجحدون بآيات الله).. والجحود بآيات الله يطمس الحواس والقلوب، ويفقدها الحساسية والإشراق والنور والإدراك...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا استخلاص لموعظة المشركين بمَثَل عاد، ليعلموا أن الذي قدَر على إهلاك عاد قادر على إهلاك مَن هم دونهم في القوة والعدد، وليعلموا أن القوم كانوا مثلهم مستجمعين قوى العقل والحسّ وأنهم أهملوا الانتفاع بقواهم فجحدوا بآيات الله واستهزؤوا بها وبوعيده فحاق بهم ما كانوا يستهزئون به، وقريش يعلمون أن حالهم مثل الحال المحكيّة عن أولئك فليتهيّأوا لما سيحلّ بهم...
والتمكين: إعطاء المَكِنة (بفتح الميم وكسر الكاف) وهي القدرة والقوة. يقال: مكُن من كذا وتمكن منه، إذا قدر عليه. ويقال: مكَّنه في كذا، إذا جعل له القدرة على مدخول حرف الظرفية فيفسر بما يليق بذلك الظرف... {وما كانوا به يستهزئون} العذاب، عدل عن اسمه الصريح إلى الموصول للتنبيه على ضلالهم وسوء نظرهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
والعبرة من هذه القصة موجهة إلى كفار مكة الذين كانوا يقفون ضد الرسول والرسالة، انطلاقاً من القوّة المالية والاجتماعية التي يستعملونها في تأكيد سيطرتهم. {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ} وأعطيناهم من القوّة البدنية {فِيما إِن مَّكنَّاكُمْ فِيهِ} أي ما لم نمكّنكم فيه، فليست لكم القوة التي كانت لديهم، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً} يهتدون بها إلى حقائق الأشياء، ولكنهم عطَّلوا أسماعهم، بصمّ آذانهم عن نداء الحق، وجمَّدوا أبصارهم، بغضّها عن رؤية آيات الله في الكون وفي أنفسهم، وأغلقوا أفئدتهم عن الحق، وابتعدوا بعقولهم عن التفكير في دعوة الرسل لهم إلى عبادة الله الواحد، {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله}، وكان وجود هذه الحواس كعدمها، لأنهم لم يستعملوها في اكتشاف عظمة الله للوصول إلى الإيمان بوحدانيته، {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ} من عذاب الله في الدنيا، في ما استعجلوه منه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وخلاصة القول: إنّ الذين كانوا أشدّ منكم وأقوى، عجزوا عن الوقوف أمام عاصفة العذاب الإلهي، فكيف بكم إذن؟ ثمّ تضيف الآية: (وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة) فقد كانوا أقوياء في مجال إدراك الحقائق وتشخيصها أيضاً، وكانوا يدركون الأُمور جيداً، وكانوا يستغلون هذه المواهب الإلهية من أجل تأمين حاجاتهم ومآربهم المادية على أحسن وجه، لكن: (فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله) وأخيراً: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون). نعم، لقد كان أولئك مجهزين بالوسائل المادية، وبوسائل إدراك الحقيقة، إلاّ أنّهم لما كانوا يتعاملون مع آيات الله بمنطق الاستكبار والعناد، وكانوا يتلقون كلام الأنبياء بالسخرية والاستهزاء، لم ينفذ نور الحق إلى قلوبهم، وهذا الكبر والغرور والعداء للحق هو الذي أدى إلى أن لا يستفيدوا ولا يستخدموا وسائل الهداية والمعرفة كالعين والأذن والعقل، ليجدوا طريق النجاة ويسلكوه، فكانت عاقبتهم أن ابتلوا بذلك المصير المشؤوم الذي أشارت إليه الآيات السابقة...