اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ مَكَّنَّـٰهُمۡ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـٰكُمۡ فِيهِ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ سَمۡعٗا وَأَبۡصَٰرٗا وَأَفۡـِٔدَةٗ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُمۡ سَمۡعُهُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُهُمۡ وَلَآ أَفۡـِٔدَتُهُم مِّن شَيۡءٍ إِذۡ كَانُواْ يَجۡحَدُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (26)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } ما موصولة ، أو موصوفة{[51053]} .

وفي «إنْ » ثلاثة أوجه :

أحدها : شرطية ، وجوابها محذوف والجملة الشرطية صلة ما ، والتقدير : في الَّذي إنْ مَكَّنَّاكُمْ فيه طَغَيْتُمْ{[51054]} .

والثاني : أنها مزيدة تشبيهاً للموصولة بما النافية والتوقيتية{[51055]} ، وهو كقوله :

4458 يُرَجِّي الْمَرْء مَا إنْ لاَ يَرَاهُ *** وَتَعْرِضُ دُونَ أَدْنَاهُ الخُطُوبُ{[51056]}

والثالث : وهو الصحيح أنها نافية بمعنى مكّناكم في الذي ما مكّناهم فيه من القوة والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق{[51057]} . ويدل له قوله في مواضع : { أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ الروم : 9 ] وأمثاله . وإنما عدل عن لفظ «ما » النافية إلى «إنْ » كراهية لاجتماع متماثلين لفظاً . قال الزمخشري : وقد أَغَثُّ{[51058]} أبو الطيب في قوله :

4459 لَعْمُرَكَ ما ما بانَ مِنْكَ لَضَارِبٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . {[51059]}

وما ضره لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال : «مَا إنْ بان » .

فصل

معنى الآية مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطولِ العمر ، وكَثْرةِ المال ثم إنهم مع زيادة القُوَّة ما نَجَوْا من عذاب الله تعالى فكيف يكون حالكم ؟ ثم قال : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } أي فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمْعاً ، فما استعملوه في سَمَاع الدلائل وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض ، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى بل صرفوا كل هذه القُوَى إلى طلب الدنيا ولذاتها فلا جَرَمَ ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله تعالى{[51060]} .

قوله : { فَمَآ أغنى } يجوز أن يكون «ما » نفياً وهو الظاهر . أو استفهاماً للتقرير{[51061]} .

واستبعده أبو حيان لأجل قوله : { مِّن شَيْءٍ } قال : إذ يصير التقدير أي شيء أغنى عنهم من شيء ؟ فزاد «من » فِي الوَاجِبِ{[51062]} ، وهو لا يجوز على الصحيح{[51063]} .

قال شهاب الدين : قالوا يجوز زيادتها في غير المُوجب . وفسروا غير الموجب بالنفي والنهي والاستفهام وهذا استفهام{[51064]} .

قوله : { إِذْ كَانُواْ } معمول ل «أغْنى » وِهيَ مُشْربة معنى التعليل ، أي لأنهم كانوا يجحدون فهو كقوله ضَرَبْتُهُ إذْ أَسَاءَ ، أي ضربته لأنه أساء{[51065]} . وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة . ثم قال : { وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب على سبل الاسْتِهْزَاء .


[51053]:قاله العكبري في التبيان 1158.
[51054]:نقله أبو حيان في البحر 8/65.
[51055]:البيان 2/372 والتبيان السابق والبحر السابق أيضا وذكره القرطبي في الجامع 16/208 وابن قتيبة في الغريب 408 وتأويل المشكل 196.
[51056]:أنشده الأخفش ولم أجده في معاني القرآن له وهو من الوافر وهو لإياس بن الأرت، وشاهده: زيادة إن حيث إن المعنى لا يتأثر بدونها. وانظر القرطبي 16/208 والبحر 8/65 والكشاف 3/525 وشرح شواهد 45/344 والإنصاف 3/525.
[51057]:وهو اختيار الزمخشري في الكشاف 3/525، وأبي حيان في البحر 8/65 وسبق إليه الفراء في المعاني 3/59 والزجاج أيضا في معاني القرآن وإعرابه 4/446، واختار المبرد ـ فيما نقله عنه النحاس في الإعراب ـ أن تكون "إن" بمعنى النفي أيضا انظر النحاس في إعرابه 4/170.
[51058]:أغث فلان في حديثه إذا جاء بكلام غث ولا معنى له وهو فعل لازم، انظر اللسان غثث 3213.
[51059]:هذا صدر بيت من الطويل للمتنبي من قصيدة يمدح بها طاهر بن الحسين العلوي وعجزه: ................................. بأقتل مما بان منك لعائب ورواية الديوان: يرى أن ما ما... البيت. ولذلك علق ابن المنير على الزمخشري قائلا بيت المتنبي ليس كما أنشده: لعمرك وإنما هو: يرى أن الخ... ولا يستقيم إلا كذلك لأن قبله، هو ابن رسول الله وابن صفيه وشبههما شبهت بعد التجارب. ومعنى البيت أن لسانه لا ينقاعد عن سنانه هذا للعائب، وهذا للمضارب وما الأولى نافية والثانية موصولة واسم أن محذوف تقديره يرى أنه ما الذي ظهر منك لضارب بأقتل من الذي بان منك لعائب أي لا يرى القتل أشد من العيب بل العيب عنده أشد من القتل. والشاهد تكرير لفظ "ما" حيث الثقل المشبع كما أوضح أعلى. وانظر الديوان 2/285 والكشاف 3/525 وشرح شواهده 4/343 والإنصاف على الكشاف 3/525.
[51060]:الرازي 28/29.
[51061]:ذكر هذين الوجهين ابن الأنباري في البيان 2/372 وأبو حيان في البحر 8/64.
[51062]:في البحر: في الموجب.
[51063]:وانظر البحر 8/64.
[51064]:الواقع أن ابن هشام ذكر في المغني ماهية ونوع الاستفهام وحدده بها. وأخبرنا أن الكوفيين لا يشترطون نفيا أو نهيا أو استفهاما مستدلين بقوله: "قد كان من مطر" ويقول عمر بن أبي ربيعة... فما قال من كاشح لم يضر. وخرج الكسائي على زيادتها: إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون وممن جوز الزيادة في الإيجاب الفارسي قال في قوله: "وينزل من السماء من جبال فيها من برد". يجوز كون من ومن الأخيرتين زائدتين وأوله المخالفون والمشترطون لشروط الزيادة. بتصرف من المغني 325 و323.
[51065]:بالمعنى من الكشاف 3/526.